الفرد، بشكل عام، يشعر بحاجة شديدة لأن يفسر العمل الفني والأدبي، ويحاول اكتشاف ما يريد صانع العمل قوله. هذا لا يعني أن الأعمال الفنية خالية من المعنى أو أنها لا تستحق النقاش والجدل. لكن ما يحدث هو أن الناقد أو المتلقي يقضي الكثير من الوقت في محاولة فهم المعنى ويغفل عن ملاحظة جماليات العمل، ومكامن الفتنة والسحر فيه. إن الانشغال بتأويل المحتوى واستنباط معنى فكري أو أيديولوجي من الصور الفنية والأدبية يؤدي إلى عدم تركيز الانتباه إلى الطرائق المتنوعة التي بها يبني منتج العمل الصور من أجل استخراج استجابة عاطفية أو حسيّة من المتلقي، بالتالي بدلاً من أن تكون تجربة التلقي عاطفية وشعورية فإنها تتحول إلى تمرين فكري.

«ضد التأويل» من أهم وأشهر مقالات الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ، كُتبت في العام 1964، ونُشرت بعد عامين ضمن كتاب بعنوان «ضد التأويل ومقالات أخرى»، ومنذ ذلك الحين طبع مرات عديدة دونما توقف. ومارس تأثيراً هائلاً على أجيال من القراء في مختلف أنحاء العالم.
المقالة تتركز حول فكرة التأويل التي يفرضها النقاد على النص. تقول سونتاغ: «لعقود فهم نقّاد الأدب بأن مهمتهم تنحصر في تفسير وترجمة عناصر القصيدة أو المسرحية أو الرواية أو القصة إلى شيء آخر».
لا يمكن للمتلقي تجنب تأويل ما يقرأ أو ما يشاهد أو ما يسمع. اعتراض سونتاغ يكمن في أن التأويل يدمّر فهمنا للنص. إنها تضرب مثلاً بأعمال كافكا وكيف تصدى النقاد لتأويلها. هناك من قرأ كافكا كاستعارة اجتماعية ورأى فيها موضوعات تستحق الدراسة عن الإحباطات وعن جنون البيروقراطية الحديثة ونتيجتها الأخيرة في الدولة الشمولية. وهناك من قرأ كافكا كاستعارة خاصة بالتحليل النفسي ورأى فيها إشارات ضمنية إلى خوف كافكا من أبيه، واستعباد الأحلام له. وهناك من قرأ كافكا كاستعارة دينية ورأى أن شخصية (ك) في رواية «القصر» يحاول أن ينال الإذن بدخول الجنة.. في النهاية، نخرج من النص ونحن نشعر بالرضا لأننا «فهمناه» لكننا أيضاً نشعر بالاستياء لأن ما «فهمناه» يبدو مبتذلاً جداً.
في المقابل، تقترح سونتاغ على النقد الأدبي، عند تناوله للنص، أن يصف شكل العمل الفني أو مظهره. على النقد أن يكون عن تجربة قراءة النص أكثر مما هو عن الأفكار التي تتقافز في الذهن بعد الانتهاء من القراءة. مهمة الناقد أو القارئ الحقيقية أن يقدّر النص في ذاته لا أن يطرح أسئلة عما يعنيه النص.
إنها تهاجم النظرية المتسمة بالمحاكاة في الفن، هذه النظرية التي فرضت تمييزاً غير ضروري بين الشكل والمحتوى، كما تهاجم النزوع إلى التأويل الذي ينتهك الفن ويجعل الفن مادة للاستعمال. التأويل الذي يفترض أن الفن يجب أن يحمل مضموناً يمكن انتزاعه للاستعمال خارج العمل. بين يديّ التأويل يصبح الفن، في أفضل أحواله، مجرد توضيح بصري لفكرة ما.

الإحساس المحض
تختتم سونتاغ مقالتها بهذه الفقرة: «عوضاً عن التأويل، نحن نحتاج إلى إيروسية الفن».
وهي هنا لا تلمّح إلى أن تجاربنا مع الفن ينبغي أن تكون مقتصرة على الإحساس المحض، بل تقترح علينا، كراصدين، أن نقترب من الفن بإدراك واعٍ له كتجربة حسّية يمكن رصدها على نحو أفضل من دون أن نحمّل أذهاننا ثقل المحتوى والتأويل.
سونتاغ تطالب قراءها بتجنب الفهم التقليدي، الموجّه أخلاقياً، لكلمة «الإيروسية» بوصفها تتصل فقط بالأحاسيس الشهوانية، المتّقدة عاطفياً، والمرتبطة بالحب أو الجنس. ما تعنيه بإيروسية الفن هو الإعلاء من شأن الرؤية الحسية للعمل الفني، هو المنهج الملموس من رصد الفن من خلال الاقتراب المباشر بوعي حسّي عالٍ وذهنية منفتحة بحيث يمكننا تجربة الفن بطريقة جديدة، غير دفاعية. منهج مرن، يجسّد معاني واحتمالات عديدة، ويحرّر وجهات النظر من استبدادية التأويل ووطأة قيوده وكوابحه.
بالتركيز على الخاصيات الشكلية للفن من خلال الحواس والمستوى العالي من الإدراك، الراصد سوف يكون قادراً على تطوير علاقة جديدة مع الفن، علاقة ليست مرتبطة بقوانين التأويل.
مفهوم الإيروسية، عند سونتاغ، يتصل باستعادة الحواس، وتعلّم كيف ترى أكثر، وتسمع أكثر، وتشعر أكثر. عن طريق استخدام هذه الحواس، يقترب المتلقي أو الراصد من اكتشاف الخاصيات المباشرة للفن.

الفعل الواعي
في مقالة للناقد أ. د. جيمسون، منشورة في 18 مارس 2013، يطرح وجهة نظره في ما تطرقت إليه مقالة سونتاغ عن «ضد التأويل»، فيقول:
ما الذي تعنيه سونتاغ بـ«التأويل»؟ هل تعني أي تأويل وكل تأويل، أم شيئاً آخر، شيئاً محدداً أكثر؟ في الواقع، سونتاغ تعني شيئاً محدداً جداً. أن تؤول عملاً فنياً يعني أنك لا تأخذه بجدية. وهي تريد أن تتخلص من فكرة أن الأعمال الفنية تمتلك مضموناً، وهو الخطأ الذي، حسب رأيها، يخلّده التأويل.
مع ذلك، ما الذي تعنيه بكلمة التأويل؟
سونتاغ توضح استخدامها للعبارة قائلةً: «عندما أقول التأويل فإنني أعني هنا الفعل الواعي للعقل الذي يوضح شفرة معيّنة وقوانين معيّنة خاصة بالتأويل».
التأويل، كما تراه، يتألف من فعلين: الأول، اقتلاع مجموعة من العناصر من العمل كله، بمعنى أنه لا يأخذ العمل الفني كله بعين الاعتبار. الثاني، ترجمة العمل الفني، أو تفسير ما «يعنيه حقاً» هذا العمل.
من هنا، تتقدّم سونتاغ لتمتحن المصدر الذي يأتي منه ذلك الحافز للترجمة أو التحويل. إنها تُظهر أن التأويل له جذوره في العصور القديمة الكلاسيكية، عندما تعرضت سلطة الأسطورة ومصداقيتها للدحض والانتهاك من قِبل النظرة «الواقعية» للعالم التي قدّمتها حركة التنوير العلمية.
بما أن النصوص القديمة (هوميروس، على سبيل المثال) لم يعد ممكناً قراءتها حرفياً (اعتبار زيوس إلهاً)، تشير سونتاغ إلى أن الناس (تحديداً الرواقيين) شرعوا في قراءة تلك النصوص مجازياً (زيوس يمثّل شيئاً ما، كالسلطة). وهي تعطي المثال التالي: قصة سفر الخروج (الهجرة الجماعية) من مصر، النزوح عبر الصحراء لمدة أربعين عاماً، والوصول إلى أرض الميعاد. قيل عن هذا السفر أنه مجاز لتحرّر روح الفرد، وللبلايا، وللخلاص النهائي.

التأويل والمزاج
سونتاغ تزامن «التأويل» مع «المجاز أو الاستعارة». هي ترى بأن محاولة تأويل الفن يعني أنك تفترض أولاً أن الفن كله مجازي. التأويل بالتالي يفترض سلفاً أن هناك تعارضاً بين المعنى الواضح للنص ومطالب القراء، وأنه يسعى إلى حل هذا التعارض.
من هذا تتضح لنا نقطتان:
1) سونتاغ لا تقول إن النصوص لا تحمل معاني. في الواقع، هي تكتب أن معنى النص «واضح». (هذا المعنى الواضح ليس استعارياً أو مجازياً).
2) سونتاغ تحاول أن تبرهن أن التأويل، تاريخياً، مماثل للقراءة «في» أو «ما وراء» النص الذي لم يعد ممكناً قراءته بوضوح.. الرغبة في إيجاد معنى مختلف فيه غير ما يبدو أنه يحتويه.
مع هذه الأفكار، هي تصرّح قائلةً بأن التأويل استراتيجية راديكالية لحفظ النص القديم، الذي يُعتقد أنه أثير جداً بحيث لا يمكن إنكاره. بتجديده، المؤول، من دون محو النص أو إعادة كتابته، يقوم بتعديله وتغييره. لكنه لا يستطيع أن يعترف بفعل ذلك. هو يدّعي أنه يجعل النص واضحاً ومفهوماً فحسب، وذلك بالكشف عن معناه الحقيقي.
هكذا بدأ التأويل المجازي. إنه يفترض أن للعمل الفني محتوى. عندئذ يختار عنصراً أو عنصرين من العمل الفني، ثم يربط المعنى المجازي بتلك العناصر (وبالتالي بالعمل الفني). هذا المعنى مختلف عن المعنى الذي يحتويه حقاً العمل الفني (والذي هو واضح).
التأويل المجازي يفترض أن مضمون العمل الفني هو مجاز لشيء آخر. بالتالي، إذا احتوت لوحة ما على صورة تفاحة، فعندئذ التفاحة ليست كما تبدو عليه بل بالأحرى هي رمز أو استعارة أو مجاز لشيء آخر.. ووظيفة الناقد أن يفسر ما يكونه ذلك الشيء.
سونتاغ تعارض تماماً هذا الفهم للنقد. إنها تؤكد أن الدافع للتأويل المجازي، اليوم، صار عدوانياً مكشوفاً، ويبدي احتقاراً علنياً للمظهر. ما يفعله التأويل في الوقت الحاضر هو محاولة إيجاد مضمون كامن ومستتر في كل عمل فني، والناقد يزعم أن هذا المضمون المستتر هو المعنى الحقيقي للعمل الفني.

ترويض الفن
إن سونتاغ تطالب بضرورة أخذ المظاهر على محمل الجد. إنها تعارض تماماً الزعم بأن العمل الفني شيء آخر غير ما يبدو عليه، وأنه مجازي أو رمزي أو استعاري. إنها تشبّه مثل هذا النقد بمحاولة جعل العالم شيئاً آخر غير ما هو عليه. سونتاغ مهتمة فقط بالعمل الفني في ذاته، في ما يبدو عليه.
التأويل المجازي، من وجهة نظرها، يريد أن يروّض الفن، أن يجعله طيّعاً أكثر، وسهل القياد ومريحاً. إنها تنبذ كل الرموز في العمل الفني، حتى تلك المقصودة. لا يعنيها إذا كان الفنان يقصد، أو لا يقصد، أن يخضع عمله للتأويل. ولا يعنيها ما إذا الفنان قد صمّم عمله ليكون رمزياً أو استعارياً، فالناقد ينبغي أن يقاوم الرغبة في تأويله.
هنا، أعتقد أن سونتاغ تناقض نفسها. إذا كان قصد المؤلف لا يهم، عندئذ لا ينبغي أن يكون مهماً ما إذا الفنان يضع رموزاً واضحة في عمله، أو ما إذا يخلق عملاً تجريدياً لا يشجع التأويل الرمزي. لا يتعيّن على سونتاغ أن تكترث بما إذا كان الفنان يقصد الرمز أو لا يقصده. صحيح أن ليس كل الأعمال الفنية رمزية، لكن بعضها تتضمن رموزاً، وبعضها تشتمل على استعارات. هنا السؤال الأول الذي ينبغي أن نطرحه ما إذا العمل الفني يحتوي على رمز ما أو أي تلميحات استعارية. إذا كان الأمر كذلك، فإن تلك المظاهر سوف تكون موجودة في بناء العمل الفني، في سطح العمل نفسه. عندئذ لا ضير في إشارة الناقد إلى حضور تلك المظاهر.
لكن يظل من الخطأ أن يقترب الناقد من العمل الفني حاملاً معه افتراضات مسبقة بأن العمل رمزي أو استعاري. إن كان العمل كذلك فإن الناقد عندئذ سوف يكون قادراً على تبين وإدراك ذلك من مظهر العمل.
عوضاً عن ذلك، تريد سونتاغ من النقاد أن يفعلوا شيئاً آخر، شيئاً ينبني على رصد مظهر العمل الفني كنقيض لمناقشة محتواه. إنها تدعو إلى الشكلية. تقول إن ما هو ضروري أولاً هو توجيه اهتمام أكثر إلى الشكل في الفن. الشكل، بالنسبة لها، مرادف للمظهر. وهي ترى ضرورة توافر «معجم» يتيح للنقاد وصف الأشكال، كما تدعو إلى تجاهل التمييز بين الشكل والمحتوى، أو التحقق من أن هذين الشيئين هما في الحقيقة شيء واحد، ولا فارق بينهما.
إن غرض الناقد، كما ترى سونتاغ، ليس في جعل العمل الفني مبهماً، أو محاولة البرهنة على أنه يعني شيئاً غير ما يعنيه ظاهره. مهمة الناقد أن يصف العمل الفني نفسه، أن يتعامل مع مظهره، وشكله.

بطاقة
سوزان سونتاغ كاتبة أميركية متعددة المواهب. فهي ناقدة، روائية، مؤلفة مسرحية، كاتبة سيناريو، مخرجة سينمائية.
ولدت في مانهاتن بنيويورك، في 16 يناير 1933. درست في جامعة شيكاغو وهارفارد وأوكسفورد.
أصدرت أربع روايات: المحسن (1963) زمرة الموت (1967) عاشقة البركان (1992) في أميركا (2000). ومجموعة قصصية بعنوان «أنا، إلى آخره» (1977)، وعدة مسرحيات، وعدداً من الكتب تتضمن مقالاتها النقدية: ضد التأويل (1966) أساليب الإرادة الراديكالية (1969) عن التصوير الفوتوغرافي (1977) المرض بوصفه مجازاً (1978) تحت مدار زحل (1980) الأيدز ومجازاته (1988) حيث يزول الضغط (2001) في ما يتعلق بوجع الآخرين (2003)
ترجمت كتبها إلى العديد من اللغات العالمية، وحصلت على عدد من الجوائز الأدبية. في كتاباتها تقدّم رؤية ثاقبة، اختراقية، لمظاهر معينة من التجربة الإنسانية والثقافية.
توفيت في 28 ديسمبر 2004 بعد إصابتها بالسرطان للمرة الثالثة.