عبير زيتون (دبي)

«لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده»، هكذا تغنَّى الشاعر العربي قديماً، تمجيداً للغة ولتأثير اللغة في النفس، باعتبارها بيت الكينونة البشرية «حسب هيدغر»، لا وسيلة للتواصل فحسب، بل ثمة علاقة تلازمية بين اللسان اللغوي والفكر، شبهه مؤسس اللسانيات السويسري «دو سوسير» بوجهي الورقة النقدية، لا يمكن قطع أحدهما دون قطع الآخر. فهذه العلاقة التلازمية بين فعل التفكير، وفعل التعبير، وانطباع اللغة بالفكر، والفكر باللغة، هو ما يميز الأفراد والمجتمعات عن غيرهم، ويحدد نمط نظرتهم للعالم والأشياء.
واليوم في ظل الثورة التكنولوجية واكتساح فضاءاتها الافتراضية، ظهرت لغة إلكترونية بصرية جديدة تُغني بسهولتها عن الكلام المكتوب في التعبير والتخاطب والتواصل، وتتأسس على سياقات شكلانية، كرتونية - تسمى «بالإيموجي» emoji - أو الإيقونات الصامتة، تؤثث شاشات هواتفنا ومحادثاتنا في رسائلنا اليومية، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، على اختلاف أشكالها (فيسبوك، وتويتر، وسناب شات، وتلجرام) ولم يعد استخدامها مقتصراً على كونها مكملة للرسالة النصية المكتوبة لإيصال مشاعر المُرسل فحسب في الضحك والحزن والارتباك مثلاً، بل باتت أيضاً تُعدّ بديلاً عن الحروف أو الكلمات لاستمرار الحديث أو إنهائه.
وعلى ضوء غرقنا جميعاً في دفء الأيقونات الصفراء، والتي بلغ حجم تبادلها على الفيسبوك بمفرده «5» مليارات رمز تعبيري في اليوم الواحد.... لنا أن نتساءل: هذه الرموز التعبيرية (ذات اللون الأصفر) هل هي حقاً مجرد وسادات هوائية ووسائط تختصر الكلام والوقت؟ أم هي لغة عالمية بديلة تعطل التواصل الإنساني، وتغتال خيال اللغة والمعنى مع الآخرين؟
وهل من الممكن أن تحل هذه الوجوه الصفراء كلغة عالمية بديلة مكان اللغات الإنسانية، مع انتشار تراجم اللغة الإلكترونية المعنية بشرح لغتها وكشف رموزها وأسرارها؟ هل تساهم هذه الرموز والمختصرات المعجمية والأيقونات في تعميق الفجوة بين اللغة التواصلية الافتراضية واللغة الواقعية المنطوقة؟
تقول د. نجوى الحوسني/‏‏‏‏‏‏‏ وكيل كلية التربية - جامعة الإمارات العربية المتحدة:
أصبح استخدام ما يُعرف بالـ«إيموجي» أمراً حتمياً في كثير من وسائل التواصل بين الأشخاص، فلا يوجد شخص الآن إلا ويستخدم هذه الرموز للاستغناء عن الكثير من الكلمات أو العبارات. وأصبح في الحقيقة استخدام لغة الرموز هذه يتنشر بيننا بسرعة خرافية، ربما فاقت انتشار اللغات الأخرى وذلك لسهولتها، ولتمكن الأشخاص من استخدامها بفاعلية. وفي هذا السياق أستعين بقول للبروفيسور «فيف إيفان» من المملكة المتحدة، المتخصص في دراسة هذه الرموز بدلاً من الكلمات، في مقال نشره عام 2015 في المجلة الإلكترونية (newbeat) يقول فيه:
«إن لغة الإيموجي تعتبر من أسرع اللغات انتشاراً على الإطلاق في المملكة المتحدة، وتتطور بشكل أسرع من اللغة الهيروغليفية التي احتاجت إلى قرون لكي تتطور». ووجد البروفيسور إيفان من خلال استطلاع قام به، أن 72% ممن تتراوح أعمارهم بين 18-25 أنه من السهل لهم أن يعبروا عن مشاعرهم من خلال إرسال هذه الرموز، بدلاً من التعبير بالكلمات والجمل. وهذه السهولة جعلت تأثير الإيموجي ليس على الأشخاص فقط، بل تعداه ليشمل قاموس أكسفورد العريق للغة الإنجليزية الذي اختار الرمز التعبيري (شدة الضحك) المعروف اختصاراً برمز (LOL)» كلمة السنة، من قبل الطبعات البريطانية لقاموس أكسفورد عام 2015.
وحول تأثير هذه الرموز التعبيرية على خيال اللغة والمعنى، تقول د. الحوسني:
طبعاً، الاستغناء عن التعبير الكتابي باستخدام الكلمات والجمل، من شأنه أن يؤثر وبشكل كبير على استخدام اللغة الصحيحة في التواصل مع الآخرين. وهذا من شأنه أن يهمش اللغة، ويحد من استخداماتها الفطرية التي جُبل الإنسان على ممارستها. وإذا استمر بنا الحال على هذه الوتيرة، فهذا الأمر لا ينبئ بالخير، وإنما سيؤثر تأثيراً سلبياً على الأجيال القادمة، ويشل إبداعاتها اللغوية التي تعتبر أساس نهضة وبناء واستدامة الأمم والحضارات.
ورغم أن د. نجوى الحوسني تؤكد أن مواكبة العصر بمستجداته وتطوراته هو أمر بدهي، إلا أنها تحذر من أنه لا يمكن الاستغناء عن الأصل والموروث الثقافي الذي سنعبر به من خلال الأجيال إلى حقب جديدة، وفضاءات واسعة، تحتل بها لغتنا المساحة الأكبر.

ليست لغة عابرة
من جانبه، يقول الأستاذ الدكتور نديم منصوري، أستاذ علم اجتماع التواصل في الجامعة اللبنانية:
يحاول أبناء الجيل الرقمي خلال محادثاتهم التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم للطرف المقابل لهم، وقد يصعب التعبير عن ذلك لغوياً، ولذا عمد الشباب إلى استخدام بعض الأيقونات والوجوه والرسومات لتعبر عن حالتهم النفسية أو عن مشاعرهم. ففي عام 1979، ابتكر (كيفن ماكنزي - Kevin Mackenzie)، تعبيراً شعورياً كرمز لتمثيل ابتسامة، باستخدام العلامتين: لأجل تلطيف النص الجاف للبريد الإلكتروني. ومع منتصف الثمانينيات، جرى تطوير نظم تكنولوجية تستخدم بينيات استخدام رسومية graphical user interface، حيث بدأت تظهر هذه التقنيات للاستخدام، كذلك نظام دردشة لايكوس Lycos الذي يسمح بعرض تعابير ومشاعر المستخدمين بالطريقة التي يريدونها على صفحة الدردشة. وتتمثل هذه التعابير بالرسومات والإيماءات الكاريكاتورية والدلالات ليعبر من خلالها المشترك عن مشاعر الفرح، الحزن، الغضب، الدهشة، الانزعاج وغيرها.
ويضيف دكتور منصوري: أعتقد أن هذه المميزات كافية لتكون هذه «اللغة» وسيلة جذابة للتواصل مع الآخرين. وهي ليست لغة عابرة، بل هي «لغة المجتمع الرقمي والافتراضي»، التي قمنا بجمعها في قاموس بعنوان: «قاموس الدردشية» (الصادر عن منتدى المعارف في بيروت عام 2010)، الذي ضم جميع الاختصارات والأيقونات والأرقام المتداولة في المجتمع الرقمي باللغتين الإنجليزية والعربية، وكان التجربة الأولى في العالم العربي في هذا المضمار. ويختم: لكن لابد من الإشارة، أنه عندما نتحدث عن «مجتمع» يصبح من البديهي أن يكون لهذا المجتمع لغته الخاصة. وتكمن الخطورة عندما تزحف لغة المجتمع الرقمي، إلى المجتمع الواقعي وتتداخل في طرق وأساليب تعبير الفرد ضمن الإطار الأكاديمي أو العلمي. وهذا النزوح اللغوي يجعل اللغة العربية في دائرة الخطر، وخاصة أن أبناء الجيل الرقمي العربي تحديداً، لا يحرصون على المحتوى الرقمي العربي ويمزجون نصوصه باللغة اللاتينية، وغيرها من أشكال الاختصارات، فيختلط الحابل بالنابل وتضيع اللغة كثقافة تعبير ومجتمع.

تهميش اللغة
الاستغناء عن التعبير الكتابي باستخدام الكلمات والجمل من شأنه أن يؤثر وبشكل كبير على استخدام اللغة الصحيحة في التواصل مع الآخرين، وهذا يهمش اللغة. وإذا استمر بنا الحال على هذه الوتيرة، فهذا الأمر لا ينبئ بالخير، وإنما سيؤثر تأثيراً سلبياً على الأجيال القادمة، ويشل إبداعاتها اللغوية التي تعتبر أساس نهضة وبناء واستدامة الأمم والحضارات.

العربية في دائرة الخطر
تكمن الخطورة عندما تزحف لغة المجتمع الرقمي إلى المجتمع الواقعي وتتداخل في طرق وأساليب تعبير الفرد ضمن الإطار الأكاديمي أو العلمي. وهذا النزوح اللغوي يجعل اللغة العربية في دائرة الخطر، وخاصة أن أبناء الجيل الرقمي العربي تحديداً، لا يحرصون على المحتوى الرقمي العربي ويمزجون نصوصهم باللغة اللاتينية، وغيرها من أشكال الاختصارات، فيختلط الحابل بالنابل وتضيع اللغة كثقافة تعبير ومجتمع.