بين مفردات الاحتكار والاستيلاء والمصادرة خيوط رفيعة يدرك أصحاب اللغة التمييز بينها، إلا أن عددا غير قليل من المبدعين المهووسين بالإحساس بالتفرد، يحوّلون معانيها إلى أفعال ويطبقونها في كتاباتهم وممارساتهم الثقافية والحياتية والإعلامية، ويعتقدون أن الشعر على سبيل المثال، لا يجب أن يتعاطاه سوى الشاعر، والرواية يجب ألا يكتبها سوى الروائي، وهكذا يتم تقسيم الإبداع بطريقة فجة وتعسفية، فالطبيب ممنوع من ممارسة الرسم، والمحامي ممنوع من كتابة الشعر، والجزار ممنوع من كتابة القصة، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك في فذلكاتهم، فالروائي يجب ألا يكتب الشعر، والشاعر يجب أن يبتعد عن القصة، وعلى المسرحي أن يكتفي بالخشبة، ويقومون بما توقّف عن القيام به المشتغلون في النقد والثقافة منذ زمن طويل، فيقدمون تعريفات للشعر، ولقصيدة النثر، وللرواية واللوحة، وهكذا، وبلغة مستهلكة ممجوجة، وفي لحظة بين الحضور والغياب، وبين الصحو والثمالة، يزبدون ويرغون ويتمطون ويتثاءبون لملء فراغات المساحات التي يحتلونها، وأنا على ثقة تامة من أن ما يصرّحون به اليوم ينقضونه غدا، وقناعاتهم تختلف عن تصريحاتهم، إلا أنهم اعتادوا وهم يكتبون في الشأن الثقافي أن يضعوا شخصا ما أمامهم، ويخرجون ألسنتهم للردح، بينما يمارسون في كتابات أخرى كل صور النفاق والمجاملة، حتى فقدوا مصداقيتهم. لا أحد يمكنه احتكار الشعر، ولا أحد جدير باحتكار الشعر، ولا يحق لأحد كائنا من كان احتكار الشعر، ولا يستطيع أحد مهما تشدق أسر الشعر في مفهوم واحد أو شكل واحد أو لغة واحدة، ولا يحق لأحد منع الناس من ممارسة الإبداع، وأخذه على محمل الاحتراف والإخلاص، وعرضه على الناس في معرض أو أمسية أو ندوة وغيرها، ولكل الناس على اختلاف مشاربهم ومهنهم واهتماماتهم وأعمارهم وأنواعهم وأجناسهم ولغاتهم وألوانهم الحق في كتابة الشعر، والحكم في النهاية يصدر عن القارئ الذي يدخل بحر الإبداع برئتين مفتوحتين، والناقد الموضوعي الذي يعانق النص بعينين نقيّتين وقلب ناصع البياض، وليس عن شِلل تذهب إلى لاوعيها متعمّدة كي تكتب مقطعا شعرياً في مديح «العرق». هذه ليست حالة شخصية، وإنما ظاهرة عامة موجودة منذ تأسست المجتمعات الثقافية والإبداعية، إلا أنها بدأت تتضخم مؤخرا لأسباب كثيرة من بينها: فشل البعض في تأسيس وجود إنساني محترم في مجتمع المبدعين، إحساس البعض بأنه يستحق أكثر مما يتحصّل عليه، ضيق عين بعض المبدعين وسواد قلبه، استعجال البعض للوصول والانتشار حتى أنه يتمنى موت أجيال من المبدعين، إيمانه بأن الضجة تخلق مبدعا، وحسب وجهة نظر هذا (البعض)، فإنه لا يمكن إنجاز ما يجب أن ينجزه إلا بمصادرة إبداعات الآخرين وتجاهلها والتجرؤ على تقييمها، كل ذلك يتم، دون أن يجهد (البعض) نفسه في القراءة والمتابعة، لكنه مستعد أن يجهض نفسه ووقته في ممارسة العبث اللامجدي! akhattib@yahoo.com