الهنوف محمد تقدم تحولات وجماليات تجربتها ورؤيتها الشعرية
تشكل المجاميع الشعرية ظاهرة ملفتة، كونها تجمع تحولات رؤى الشاعر، في كتاب واحد بين يدي المتلقي، هذا بالإضافة إلى أنها معين للدارس في رصد علاقة الشاعر بالقصيدة، منذ اقتناعه بكتابته الأولى حتى آخر ما صدر عنه.
المجاميع الشعرية أسلوب لغربلة التاريخ الشعري، ولابد لنا أن نعرف أنه ما دام هناك نص موجود فلابد من وجود نص غائب، يعني هذا أن مقابل ما يذكر هناك ما أهمل، لهذا نجد تلك المجاميع وقد اختيرت بعناية نقدية وذوقية عالية من الشاعر نفسه، وحتى من غير الشاعر إذا كان فاحصاً دقيقاً ومتتبعاً دؤوباً للمنجز الشعري. والمجموعة الشعرية هي النص النهائي الذي اختير بوعي الشاعر نفسه، حيث اختار ذاك الشاعر وقتاً غير وقت كتابة القصيدة، فنظر إليها في زمان وربما في مكان مختلف فاستحسنها وأبقاها واستقبحها فغيبها، هذا ما يحصل فعلاً في تجميع الشعر الحديث، أما الشعر الكلاسيكي وتجميعه فهذا لا فرار فيه من جمع ما هو غث وسمين.
جاءت هذه الإطلالة على مبتغى إصدار مجموعة شعرية، عندما قرأنا مؤخراً المجموعة الشعرية شبه الكاملة للشاعرة الهنوف محمد، والتي صدرت حديثا عن وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، ومن المنطقي أن تحمل تلك المجموعة الشعرية قصائد طويلة وأخرى قصيرة، ولهذا نقرأ ما هو إيحائي أكثر في قصائدها القصار.
تحاول الهنوف محمد أن تؤسس لنمط شعري أنثوي يمتلك خطاباً من الصعب الإمساك به، كونه يعتمد على تجسيم المشبه به وإحالة المشبه الواقعي إلى حلم، أي قلب الصورة الكلاسيكية البلاغية في الاستعارة، إذا ما عرفنا أن الاستعارة حذف ركن من أركان التشبيه.
تهشم قلبي
فلم أعد أستطيع
أن أقاوم الفراغ
الذي حلّ محله
ذلك هو النمط الاستعاري الذي تجسد في صيغتين حملت كل صيغة منهما نمطها أولاً ثم ترابطا ثانياً مثل:
تهشم قلبي
وهو استعارة التهشيم من شيء مجهول للقلب الذي لا يتهشم بمعناه الواقعي ثم تقول:
أقاوم الفراغ
والفراغ لا يقاوم وإنما يقاوم شيء محسوس به، وهما نمطان شعريان منفصلان غير أن ما يربطهما مع البعض هو قول الشاعرة عن مقاومتها للفراغ “الذي حلّ محله” وكان الفراغ أصبح جسداً.
الغريب حقاً أن الشاعر أي شاعر يصدر مجموعة شعرية وليس شرطاً أن تكون مجموعة كاملة يختار من كل ما كتب ثم يعمد ثانية إلى أن يأخذ جزءاً من قصيدة طويلة لديه، ويضعها في الوجه الآخر للغلاف “أي الغلاف الأخير”، ويبدو هذا “اختياراً على اختيار” وهذا ما حصل للشاعرة الهنوف محمد عندما اختارت قصائدها المنتقاة من دواوينها المطبوعة وغير المطبوعة ومنها “جدران” و”ريح يوسف” و”طرق الدهشة الآتية” و”الآخرون” و”فضاء الفقر والطفولة” و”دوائر”، ثم تراها تختار هذا المقطع ليكون على الغلاف الأخير للديوان:
أجلس خلف الباب
أرقب الثقب
وكأنني أرى العالم
وهو اختيار مقصود كما يبدو حتى أننا نرى عين الشاعرة التي كانت ترصد العالم من ثقب الكلمات لتصف تحولاته، هي ليست صورة واقعية بمعناها الحسي، وإنما نجد معنى مقصوداً فيها، إذ الثقب هو الكلمة والباب هو جدار اللغة وما بين الجدار عالمان، عالم الشاعر وعالم الأشياء التي لا ترى في الجهة الأخرى.
الهنوف محمد تعرف كيف تلتقط رؤاها وهي تبدو رؤى عادية، تقريرية، متداولة ولكن حالما ننظر إليها ونتأملها بعمق نجد فيها شعرية الهنوف حقاً.
ففي قصيدتها “صباح” تقرأ:
الصباح هو الصباح ذاته
منذ ثلاثين عاماً
استنشقته
واستنشقه الآن
ويستنشقه أطفالي
عند الذهاب إلى المدرسة
وقد لا يجد المتلقي في هذه القصيدة القصيرة أية ملامح شعرية، بل هي أقرب للكتابة الوصفية وللنثر، بمعناه المطلق لا الشعري، إذ السطر الثاني زائد في القصيدة حيث هو تكرار بأسلوب آخر للسطر الأول “منذ ثلاثين عاماً” يعني “الصباح هو الصباح ذاته” سواء منذ ثلاثين عاماً أو أكثر، إلا أن هناك اختلافاً إذ أرادت “الهنوف محمد” أن تؤرخ لعمر الساردة، حيث ترى أن تحولات الصباح إلى ظهيرة ثم مساء “التحول الثلاثي” سوف يبدأ بعد ثلاثين عاماً من عمر الساردة، وهذا ما يقابل الأفعال “الاستنشاق” في الأسطر الثلاثة اللاحقة وهي مرصودة من الساردة في “الماضي/ استنشقته” و”الحاضر/ استنشقه الآن” والمستقبل “ويستنشقه أطفالي”.. وكأن الهنوف تريد أن تبث روح الضجر والمألوفية في حياتها بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها عبر أفعال زمنية مرة، أو عبر حركة كونية “الصباح” الذي سيعقبه ظهيرة ومساء مرة ثانية.
المصدر: أبوظبي