هل معرفتنا لما هو قادم نابع عن حبنا لمعرفة ذلك فعلاً، أم أنّه نوعٌ من الرّفض، رفض الآن القلق بالمُسارعة إلى قُبول الكذب المصادق عليه؟ لو كنّا نودّ الاطمئنان علينا في الأّيام أو السّنين القادمة، لماذا ننقلبُ على الأبراج حينما تُخبرنا بأنّها أيام سوداء ونتذكّر فجأة الحديث القائل «كذب المُنجّمون ولو صدقوا»؟ هل نفتّش حقيقة عن الآتي أم أنّنا نهربُ من استخدام حقيقتنا؟

مع نهاية كل سنة يقفُ الكثيرون على أبواب برامج قراءة القادم، يُسارعون لمعرفة أبراجهم من دلو وجوزاء وحوت وجدي وغيرها من الإحداثيات الفلكيّة، ليحصلوا على استعداد، ولو زائف، يشاركُون به دخول زمن لم يَطلب رأيهم للعُبور من باب لابدّ منها، يقول الكاتب الأميركي الشّهير كورت فونيغوت: نحن في الحقيقة نعرف القليل عن الحياة، حتّى أنّه يصعبُ علينا التّمييز بين الخبر الجيد والسيّئ، ومن قبله قال آلان واتس عن تعلّم عدم التّفكير من مُنطلق الرّبح والخسارة «إنّ الطّبيعة برمّتها هي عمليّة مُتكاملة من التّعقيد الهائل، ومن المُستحيل التيقُّن تماماً إذا ما كان الشّيء جيداً أو سيئاً». ومع ذلك فإنّ مُعظمنا يقضي أوقاتهُ داخل ممرات القلق، يترقبّ الأيّام التّي تُؤكد احتمال وقوع أشياء سلبية وخسائر قادمة باعها لهم تجّار المُستقبل، فكلّ إنسان يسأل عن بداية السّنة في حيرة مفاجئة ويكون سؤاله: «هل انتهت سنة أخرى؟»، إنّه يعبّر عن القادم دائماً بصيغة ما ذهب منه، ويفعل ذلك لا ليدرك أهميّة استغلال القادم غالباً، بل ليستعدّ لخسارة جديدة في عالم تشُوبه نظرة متآكلة كورقة توت تخترقُها الدّيدان، وفي هذا العزاء الذّي يحتفل به النّاس بمُختلف الطّرق، يظهرُ حظك في كل مكان، على شاشات التّلفاز وعلى مواقع التّواصل الاجتماعيّ وفي الإعلانات المموّلة والجرائد اليوميّة، إنّهم يُريدونك أن تعرف ما الذّي سيحدث لك، وكيف ستكُون سنتك وما عليك انتظاره، لا إنجازه بكسل مروّع، لكنهم يتخلوُّن عنك فور عبور هذه السّنة أسبوعها الأوّل، تاركين استفهامك يزداد قلقاً: هل سألوك مرّة واحدة عن الذّي لا تنتظره؟ ربّما لأنّهم لا يقدمون لك يد المُساعدة كما تعتقد، بل يضعُون فوق كسلك المزيد من الصُّخور.

نجاة دوستويفسكي
سنة 1849 أُلقي القبض على المُنخرطين في رابطة بيتراشيفسكي، وهي حلقة أدبيّة معظم أعضائها معارضون لاستبداد النّظام القيصري الروسي آنذاك، وكان ضمن هؤلاء الأعضاء الكاتب الرّائع فيودور دوستويفسكي وحُكم عليهم بالإعدام، وفي يوم تنفيذ الحُكم وقف المحكُوم عليهم في السّاحة تحت حبال المشانق، بعد أن كانوا قد شهدوا المراسيم التّي تسبق التّنفيذ عادة، وفي آخر لحظة تمّ إعلامهم بإلغاء الحُكم ونجوا من موت محتُوم كانوا قد جهزّوا له أنفسهم وربّما كان البعض يرتعد، ولكن من أنقذهم من هذا الحكم القاطع في الدّقيقة الأخيرة؟
سيُجيب الكثيرون بـ«حظهم الجيّد» هو من قام بذلك مهما كانت الأسباب، إنّها الإجابة المُبتغاة لأنّها لا تبحث إلاّ في الآني الممسوس بالنّتائج، إجابة عارفة أكثر من اللاّزم وفي هذه المعرفة تفقدُ جوابها وتتحول إلى انفعال فتيّ، فكل ما يحدث يقع جرّاء طالعك، سيقولون ونجُومك وشمسك ومداراتك في الفلك، ولكنّ الحقيقة وحدها هي من تُجيب، حتّى وإن لم يهتمّ النّاس بمعرفتها، الحقيقة المتواجدة جنباً إلى جنب مع صناعة الكذب! لقد كان صُدور الحكم وانتظار تنفيذه واستعراض مراسيمه يوم التنّفيذ جزءاً من العقوبة، إذ لم يكن ذلك الحكم إلا مسرحية قام بها النّظام القيصري وطريقة أخرى للتّعذيب، ومن ثمّ فإنّ حسن حظّهم لم ينقذهم كما تتخيّل، بل إنّهم يقضون عقوباتهم السيّئة حتى حينما تتخيل أنتَ أنّهم يملكوُن حظوظاً جيدة، فجهلك للقرار وما يُحيطه هو من يقُودك، فالأمر هنا لا يعني النّجاة تماماً من حبل المشنقة، بل إن ذلك الحبل ما زال يلتفّ حول الرقاب بطريقة مخالفة، وأنّ أكبر حظ حسن يمكن أن يُصيب الإنسان حسب إريك هوفر، هو أن يموت في الوقت المناسب، وهذه سخرية أخرى سيضحك عليها الذّين أقدموا على الانتحار، ولكن كان الوحيدون المحظوظون حظّاً منطقياً منذ البداية، هو نحن الذّين حظينا بالكاتب فيودور، وعلينا أن نقف على هذا التلّ مع المؤرخ الفرنسي بيير باسكال ونقول مثله: «السّجن هو الذّي منحنا دوستويفسكي».

قلق المتنبي
«على قلق كأنّ الريح تحتي» يقُول المتنبّي في أحد أشهر أبياته الشعريّة، هذا التّصوير البارع لا يتوقّف عند القصد الشخصيّ أو العاطفيّ، بل يتجاوزه إلى فهم علاقة أبديّة تربط الإنسان بوجوده المليء بأسرار الغد الذّي لا يملك مفاتيحه، وجود يحدّه القلق، وحينما تختفي رؤيتهُ يبدأ في تقبّل المجاز كيقين، رغبةً منه في امتلاك القادم المشوّه ليتحرّر من شُعور الأيادي المكتُوفة، فالرّياح لن تهدأ بمجرّد أن أصبحت لنا بيوت نغلقُها بالمفاتيح، نحن مسكونون بالفراغ مثل الكون تماماً، وفي هذا الفراغ الرّياح لا تعوُد إلى الوراء، وبينما يقُودنا بعض (القلق) إلى حُلول يقوم بعضهُ الآخر بتقديم الكثير من المشاكل ومنها «الحظ» كحالة تجنّب خياليّة، تحجز مكاناً لها داخل عربة تخيّل الكوارث التّي تقع بسببها وكيفيّة تفاديها بصناعة وهم آخر من الاستعداد أو الاستسلام، هكذا حينما يختفي العمل، كعامل أساسيّ، للقضاء على القلق يظهر في الأفق مفهوم الحظّ اللاموارئيّ، فالشعّوب الأكثر كسلاً هي الأكثر إيماناً بالحظّ كمرحلة غيبيّة، وهُنا تصدق مقولة برتراند راسل التّي تعتبر أنّه ليس للجاهل سوى الحظ، سواءً في إخفاقه أو تفوّقه وهو جهل مبنيّ على النتائج.
في الثلاثينيات قام أحد القساوسة بتقسيم القلق إلى خمس فئات من المخاوف، أربع منها خياليّة والخامسة مخاوف ذات أساس حقيقيّ، ووجد أنّ نسبة هذه المخاوف 8 بالمئة وقد تفاقمت، جرّاء الأخبار المُتساقطة التّي تغذّي الميول البشريّ، لتصير كما لو كانت 98 بالمئة، كحالة من تشويه الواقع، عبر اختفاء استقلالية النزعة العقلانيّة للتصدّي لهذه الأحداث الخارجيّة، وأحد هذه التّشويهات سببّية الحظ. إنّ ما نُجيد تفسيره غالباً هي الأشياء التي لا نعرفها لا التّي لا نفهمها، إن الإنسان يُسارع إلى قراءة الماورائيات لأنه ليس مُطالباً بفهمها، بل بابتكارها، وهذا الابتكار يمنحه حقّ التّجاوز الخياليّ الذّي لا يحصلُ عليه في الفهم، ولكي ينجو الإنسان من مطالبته بالفهم حينما يعجز أيضاً عن الابتكار يتدرّع بالحظ العاثر، كأن الذّين ينطلقون نحو الخرافة يملكون حسن الحظ، دون أن يعلم أن كليهما قد وقع داخل الوهم، وكلاهما هاربُ داخل الدّروب الأفعوانيّة للجهل.
لقد كان للفيلسوف الروماني الرواقيّ سينيكا تعليق شهير يقُول فيه إنّ الحظّ هو عندما تتلاقى المعرفة مع الاستعداد، ومن ثمّ يعيدُ ضبطه بعيداً عن الخيال، فالأشياء التيّ تُخيفنا أكثر من تلك التّي لها المقدرة على سحقنا، نحن عادة ما نعاني في الخيال أكثر من الواقع، ونتحوّل إضافة إلى قلقنا الحقيقيّ إلى حرفييّ صناعة دوافع القلق الوهميّة التّي تسحبُنا معها إلى الاستعانة بالوهم كحل، بالإقبال على معرفة المُستقبل تارة، وعلى محاولة تغييره بالعرّافات تارة أخرى، ثم ننسى أن نقوم بالعمل لأجل ذلك. ويقدّم أرسطو ثلاث رؤى لمفهومه عن الحظ بعيداً عن الهالة السحريّة التّي تتحكّم فيه ويتقاطع مع سينيكا في بعض النقاط، وبما أنّ الفلسفة عند أرسطو تعني طرح سلسلة من الأسئلة والألغاز حيث تبدأ، كما يقول، بالاندهاش ثم بالألغاز، فإنّ معالجته لموضوع الحظ تكون معالجة منطقيّة لفك ذلك الغموض.
ويرى أنّه كلّما فكرنا بشأن الحظ، يزداد ارتيابنا في أنّنا لا نعرف ما نتحدّث عنه، ومن هنا اقترح حلوله، الأول وهي أنَّ حدوث شيء لمعظم الوقت أو طوال الوقت لا يُعَدُّ مسألةَ حظٍّ، فالأحداث المحظوظة غير مألوفة، ومن ثم غير متوقعة بشكل عام. الثاني: أنَّ الحظَّ ليس سبباً مستقلاً قائماً بذاته، ولكنه يوجد، بدلاً من ذلك، في أسباب «متزامنة». الثالث: أن الشيء يمكن أن يكون محظوظاً (أو غير محظوظ) لأي شخص، فقط إذا كان خارج نطاق سيطرة الشخص، وقد يعتقد الكثيرون مثلاً أنهم ليسوا محظوظين كفاية، لأن ينجحوا عادة في امتحان ما كشهادة البكالوريا التّي أحاطوها بالسّحر، فالمجتهدُون بحسبهم، عادة ما يرسبوُن في امتحانها وينجح في المقابل المحظوظون الكسالى، إلا أنّ الحقيقة تكمن في أنّ أحدهما استطاع أن يحصل على الإجابة الصحيحة بينما الآخر لا، وربما كان الكسول لا يملك إلا تلك الإجابة التّي حفظها، بينما المجتهد يملك كل الإجابات إلا تلك التّي جاءت كاختبار، فالمسؤول عن إجابته لا يهتّم ولا يعرف مسيرتهما، عليه فقط أن يحكُم من الورقة أمامه، وقس كل هذا على الحياة، أي أنّ الحظ شيء يوجد حين «تتصادف» العوامل المسببة معاً، ولذا فلا غرابة في أننا نتحدَّث عن الحظ والمصادفة في الوقت نفسه. غير أن أرسطو كان يقصد شيئاً آخر أعمق بعض الشيء مما نقصده. لقد تمثَّلت فكرته في أنَّ الحظ ليس عاملاً مسبباً إضافيّاً للعوامل التي تُفَسِّر كيفية إحداث تأثير ما. فالحظ ليس نوعاً من السحر، وإنما يوجد الحظ أينما يتزامن عاملان مسببان عاديان تماماً بطريقةٍ ما غير متوقعة.

الثقة والخيبة
لماذا يثقُ النّاس في الأبراج رغم أنّ هذه الأبراج نفسها كانت قد خيّبتهم لسنوات سابقة؟
لأنّهم يحبوُن كذبها، كذب يقدّم نفسه على أنّه الخلاص ليوُضع كمرهَم على الجُروح الذاتيّة المتعفّنة التّي لا تبحث عن علاجها، بل عمّا يزيدها التهاباً، وحتّى لو أتقنت علم الفلك فإنّك لن تستطيع قراءة حياتك من بعض التّخمينات، لا نستطيع معرفة القادم بأبراج أميّة، هذه الكلمات التّي يبيعُونك إياّها، ما هي إلا جبال عالية ترتفعُ في طبقاتك النّفسية العميقة لتحجبك، إنّها الطّريقة الوحيدة لكيفيّة وضعك جانباً على هوامش الحياة، فالأبراج تأخذُ منك ولا تعُطيك، وهؤلاء الذّين يقدّمون لك مستقبلك هم أنفسهم الذّين يُعينونك على التخلّي عنه، إنك تتحوّل للعيش داخل كذباتهم ورهاناتهم وتُؤمن بخيالاتهم وتبتعد عن الواقع. والأشياء التّي ستحدث لك مستقبلاً، هي مقدرتك الآن من عدمها قبل أن تُصبح ماضياً آخر يُضاف إلى ماضيك، وحينما تفضّل الأحجية على العمل تتوقّف رؤيتك وتتحوّل إلى ما ستسميه بـ«سوء الحظ» الذّي سيتحوّل بدوره إلى عقدة، «عقدة سوء الحظ»، ستنامُ وتستيقظ على هذه الهواجس التّي صنعت منك مضطرباً تجاه كلّ شيء حتى تجاه النّاس، تتحرك بما تُمليه عليك هذه العقدة التّي أفقدتك الثّقة في المقدرة، وتتحوّل كلّما أمعنت في سوء حظّك إلى كائن ينبذُ ذاته ويحمّل كلّ خيبته وانهزامه يداً خفيّة لا تريد منه التقدّم، إنّك إنسان الآن مسكون بفكرة المُطارَد، أمّا العالم من حولك فما هو إلا مجموعة من الذّين يريدون لك الشّر وينصبُون لك الفِخاخ، لقد أصبحت الأميّ الذّي لا يجيد من القراءة سوى أميّة الأبراج!