إنه رذاذ المطر الذي يعزف ألحانه من خلف نافذة الفندق مع بزوغ أول يوم من الرحلة إلى بلاد موزارت. كأن حبيباته تتساقط على غفلة لتؤكد أننا في فيينا التي لا تترك فرصة إلا وتقرع فيها أجراس الإقبال على كل مشهد يسكن شوارع. الساعة كانت تشير إلى السادسة صباحاً. الحركة في الخارج بطيئة، عدد قليل من السيارات يعبر بالاتجاهين وبضعة مارة ينتعلون أحذية رياضية ويمشون بنشاط بلا مظلات غير آبهين بالتبلل. كانت دعوة مشجعة للانضمام إليهم، واكتشاف صبيحة ممتعة من صباحات مدينة النغم. وعاصمة العالم الموسيقية التي تغفو على أصوات مرتادي جلسات الأرصفة، وتصحو على رائحة قهوة “الميلانج” التقليدية. (فيينا) - عمارات متلاصقة تجمع هندسة القرن التاسع عشر بفنون نحت انتقل عن قصد أو بغير قصد إلى العمارة الحديثة التي تتخذ بمعظمها لون الطلاء نفسه. الحجر الأبيض المغبر يظهر بتجانس كلي بالكاد يمكن تفرقته ما بين القديم الأمين على غبار الزمن والجديد الذي يوازيه شكلا وحجما وارتفاعا. ويبقى المعلم الأبرز فيها مبنى دار “الأوبرا” الشهير على كتف شارع “الرينج شتراسه” الشريان الحيوي لفينا عرابة الموسيقى والإبداع الحسي. والذي يخفي في قاعاته وهج “ليالي الأنس” الذي تغنت بها الفنانة أسمهان فزرعت في خيال كل من سمعها حلم المجيء إلى أرض الفنون ومشاهدة الرقصات الأرستقراطية تتمايل مع رومانسية اللحن. خطواتنا كانت تتسارع مع صحو الطقس الذي ساعدنا على التجول بين أحياء تجمع ما بين تناقضات الصخب التجاري والهدوء السكني. وكان القاسم المشترك بينها كثافة انتشار المقاهي وهي تتخذ طابع السياحة الثقافية وتوحي بعراقتها حجم الأهمية التي منحتها إياها المدينة النمساوية التي تضم اليوم أكثر من 2500 مقهى. وأول ما شهدناه من نبض المدينة، محال الورود التي تتباهى بأنواع الزهور والنباتات، وتعرض زينتها الفواحة على منصات تجذب بألوانها كل من تقع عيناه عليها. وقد لفتتنا العصرية الطاغية على واجهات المحال، والتي تعرض آخر صيحات الموضة وسط أحياء تراثية كل ما فيها يدل على تراكمات تاريخ ترك آثاره في الزوايا وعند الأسوار. لم تكن حركة الشارع قد اكتملت بعد، غير أن عربات الخيول التقليدية التي تنقل المتجولين قد وصلت للتو حيث الانطلاقة كما يبدو تبدأ من ساحة مبنى البلدية الصيفي. موطن النغم وهكذا كانت طريق العودة من على “حنطور” فييناوي أنيق، أتاح لنا فرصة التقاط الصور على امتداد درب يتسع ويضيق ليكشف روائع هندسية ووجوها مشرقة لشعب يجيد معاملة الضيوف والتبسم لهم. والدليل السياحي ديان ألفي أرادت أن تبدأ الجولة بزيارة إلى “بيت الموسيقى” أكثر المعالم دلالة على واقع المدينة التي شكلت مهد الإبداع لأهم المؤلفين الموسيقيين موزارت وشوبارت وبتهوفن. وتقول إن من يزور فيينا لابد أن يتعرف من قرب على دور الفنون السمعية في رسم ملامحها السياحية. “فالسائح أينما حل يغرق في بحر ألحان لا تشيخ على مر السنين، وإنما تزهو بعظمة الحفاظ عليها جيلا بعد جيل”. وتخبرنا ونحن نعبر الطريق المكسوة بورق الشجر، أن “بيت الموسيقى” يتضمن مجموعة كبيرة من الدلالات على كيفية اكتشاف النغم من موطنه الأصلي. وأنه يهدف الى إشراك المهتمين بمفردات الموسيقى، وتعريفهم عن قرب إلى هذه الصناعة التي تتكلم بلغة التواصل والانسجام. نتنقل بين الطبقات الأربع للمبنى وتلفتنا “النوتات” الموسيقية الموزعة على الجدران والأرضية والأسقف، حتى أنها تحتل التكوين الأساسي للديكور ذي الإضاءة الخافتة. نماذج سمعية مختلفة تصطحبنا في رحلة اكتشاف لأصوات الكائنات الحية وسط بيئتها وأنفاس الجنين داخل أحشاء أمه، وذلك الكرسي العجيب الذي يصدر ألحاناً تعلو وتخفت وفقاً لحركة الجسم. ونصل إلى إمكانية قيادة أوركسترا عبر شاشة عملاقة تضم فرقة أوبرالية تؤدي المعزوفات بحسب أوامرنا، حيث لا يتأخر “المايسترو” في حكمه على قيادتنا ولا في تعليقاته الطريفة على النشاز الذي نتسبب به. نتبع الرواق الطويل فيأخذنا بلافتاته وصوره المعلقة، إلى قصص عن حياة مبدعي الموسيقى الذين طرزوا بمؤلفاتهم أحلام الذواقة على امتداد الأرض. ولا نغادر المكان إلا بمحاولة خجولة لتأليف لحن من وحي اللحظة نحتفظ به على تسجيل موقع باسمنا. على بعد أمتار نمر بالبيت الذي قطن فيه “موزارت” وسط حي ضيق يسوده السكون ورهبة أجواء تعيدنا إلى مصدر إبداعاته. وهنا تخبرنا الدليل السياحي ديان ألفي عن واقعة تشهد على أن النابغة الذي بدأ يعزف بعمر 6 سنوات، اكتشف موهبته من الصدى الذي كانت تصدره الجدران التي ترعرع بينها. وتورد أن فيينا منذ عصر المؤلفات الموسيقية الخالدة تثمن الأجواء الثقافية الإيحائية. وهي تمتلك اليوم صالتين للحفلات الموسيقية على مستوى عالمي من خلال “جمعية الموسيقى” و”بيت الحفلات الموسيقية”. و4 دور للأوبرا تقدم كافة خصائص الفنون المسرحية، وهي “دار الأوبرا الوطنية” الشهيرة عالمياً ومسرح “آن دير فيين” و”أوبرا موسيقى الحجرة”. لوحة خضراء طقس اليوم الثاني من الرحلة كان أغزر أمطاراً، فظننا أنه سيعوق برنامجنا. غير أن الحركة السياحية في الطريق المؤدي إلى وجهتنا “قصر شونبرون” غالطت توقعاتنا. فهذا الصرح التاريخي الذي تعني ترجمته الحرفية النافورة الجميلة، يعتبر من أفخم قصور زخارف “الباروك” على مستوى العالم. وزيارته لا تعني مشاهدة تحف ولوحات وثريات، وإنما التغلغل إلى تفاصيل حياة الأباطرة والقياصرة من أسرة “هابسبرج”، والذين قطنوه وحكموا من خلاله البلاد على مدى 640 سنة. صعدنا عبر بهو عريض درجات القصر المغطاة بالسجاد الأحمر. رهبة المكان طغت على أي شعور آخر بأثاثه الذي يعكس مراحل العيش في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كل ركن هنا يشهد على مستوى الرفاهية السابقة لأوانها في ذلك الزمن، ومدى الاهتمام بأدق التفاصيل التي مازالت راقدة على حالها. من مفارش الخزائن وبياضات الأسرة المطرزة بـ”الدانتيل”، إلى أطقم السفرة والشمعدانات المذهبة التي أعادتنا ولو متأخرين إلى حفلات النبلاء بما فيها من رخاء وبذخ وترف. كنا نمعن النظر إلى الأسقف الملونة بالرسومات الفائقة الدقة، فيما كلاوس إرنبرنتنر المدير الإقليمي لمجلس السياحة في فيننا يشرح أن القصر يضم 1441 حجرة كانت تحت تصرف العائلة القيصرية. 40 حجرة منها متاحة حالياً أمام الزوار، وهي تكشف عن أحداث الأباطرة الذين تعاقبوا على القصر حتى عام 1918 ما بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى حيث تعرضت أجزاء منه إلى الحريق. مازلنا في الداخل نتبع خطى “نابليون الثاني” الذي ولد في القصر من أم نمساوية ونراقب سريره والنياشين على ملابسه التي تكشفها صورة له عندما كان طفلا. ومن خلف ستارة شفافة ما بين قضبان الحديد المشغول على أحد النوافذ الممشوقة، نلمح لوحة خضراء مزركشة بالأحمر والأصفر والوردي. إنها الحديقة الخلفية التي يوضح إرنبرنتنر أنها مصممة على أعلى مستويات الرقي المعماري، بما فيها بيت النخيل “بالمينهاوس” وحديقة الحيوانات التي توجت عام 2009 كـ”أفضل حديقة حيوانات” في أوروبا. ويشير إلى أن فيينا تضم أكثر من 27 قصراً وما يزيد على 150 مبنى عريقا، بينها متحف “سيسي” الذي يضمن إلقاء نظرة على الحياة الخاصة للزوجة الأرستقراطية للقيصر فرانس يوزيف. وفي جواره تقع مدافن عائلة “هابسبورج” التي مع خفوت وهجها، غير أنها تذكر حتى اليوم بواحدة من أعظم العائلات التي حكمت في المنطقة. ويذكر إرنبرنتنر أن كل من يزور فينا يمكنه الحصول على ما كان يتمتع به الامبراطور ذات مرة، وبنفس الجودة العالية. مثل الأحذية اليدوية الصنع وآنيات الخزف الراقية والمجوهرات التي يتم تصميمها تحت الطلب، بما يضمن خوض تجربة العودة إلى زمن “الباروك”.