22 أكتوبر 2011 00:46
لماذا اختار المخرج المكسيكي المعروف آرتورو ريبشتاين لفيلمه “أسباب القلب” أن يكون بالأبيض والأسود؟ هذا الفيلم الذي عرض مساء أول أمس ومساء الأربعاء الماضي في إطار مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لمهرجان أبوظبي السينمائي الدولي لدورته الخامسة.
بعيدا عن ما قاله الرجل، الذي حضر عرضي فيلمه في سينما فوكس بالمارينا مول، فإن الأفلام التي تعرض بالأبيض والأسود تعود إلى إنتاج الحقبة السينمائية التي لم يكن فيها التصوير السينمائي ملوّنا، أو ان الفيلم قد ينطوي على لقطات ومشاهد بالأبيض والأسود تُحيل بدلالاتها إلى شيء ما تتذكره شخصية من الشخصيات أو تشير إلى حدث ما، أي الفلاش باك بمعنى من المعاني، غير أن هذا التكنيك في خلق دلالة نفسية قد أكل عليه الدهر وشرب وبات دلالة ضعف إخراجي تقني يشير إلى قصور في الموهبة.
غير أن “أسباب القلب” ما إن يبدأ حتى ينتهي يبقى كذلك بالأبيض والأسود مع أنه لا يناقش فترة تاريخية سابقة سوداء بل يستند إلى الحاضر وإشكالياته الواقعية في واحدة من أكبر المدن في العالم وهي مكسيكو عاصمة المكسيك، مدينة طاحنة لا ترحم إلى حدّ أنها غرائبية بالفعل.
يبدو أن خيار المخرج آرتورو ريبشتاين قد انبنى على أمرين، الأول من بينهما له أبعاد ودلالات سيكولوجية أما الآخر فهو ينتمي إلى موقفه من العالم ومن المعرفة، أي يستند إلى ثقافته الخاصة التي يشير الفيلم إلى أنها ثقافة رفيعة وراسخة.
على المستوى الأول: فما من حلول وسطى بين الشخصيات وواقعها الاجتماعي الذي هو مرفوض من قبلها. حيث يتخذ هذا الرفض أشكالا عديدة بتعدد الشخصيات. “أسباب القلب” يعرض لأوضاع عائلة من ثلاثة أفراد: الأم إيميليا، تقوم بدورها الممثلة المميزة بأدائها آرثيلا راميز، والإبنة إيزابيل (10 سنوات) تقوم بدورها الطفلة باولا أرّيو، والزوج خافيير يؤدي دوره الممثل بلوتاركو هازا.
تعيش هذه العائلة في أسافل مكسيكو في شقة سعتها 84 مترا مربعا، حيث تحمل كل من هذه الشخصيات سخطا شديدا على الواقع. إيميليا الخائبة من خياراتها الشخصية المبكرة في الحياة تهرب إلى علاقة مع عازف السكسفون الكوبي نيكولاس، يؤدي دوره الممثل فلاديمير كروز، الذي يقوم بطردها من حياته تماما مغلقا الباب وراءها لتقع في أحضان أول رجل تقابله على درج البيت في الوقت الذي تكون فيه الابنة قد عادت إلى البيت وتحتاج إلى مَنْ يعينها على حل واجباتها المدرسية. تصب الابنة غضبها على أمها المهملة وتفرغ الأم قرفها من واقعها بعلاقات غير سوية، بل مرضية وربما مهووسة من شدة تناقضها ولا منطقيتها، فيما الزوج خافيير يعود من عمل صعب من وظيفته الحكومية التي تتطلب ساعات غياب طويلة عن بيت فيه زوجة عاطلة عن العمل وعاجزة عن أن تكون مفيدة لأسرتها.
غير أن هذه التفاصيل ليست حكاية الفيلم بل تتجسد الحكاية بأداء الممثلين الشيّق، في تكثيف الحالة النفسية شديدة الوطأة والقسوة على الشخصية إلى مشهد في سياق حواري تلعب فيه اللغة ودلالاتها دورا كبيرا في اختصار طبائع الشخصية وامتياز حضورها الخاص الذي يقدمه الممثل كرد فعل على حضور ممثلين آخرين بما يؤجج الصراع الدرامي في خط تصاعدي إلى حيث لا شيء سوى الخذلان والخسارة وما يشبه الاندثار تماما.
أما على المستوى الأخير، فالحيّز الضيق الذي تجري فيه أحداث “أسباب القلب”، شقة العائلة الصغيرة أو شقة عازف الساكسفون أو الممرات الداخلية، وكذلك الطبيعة الدرامية للحوار، بل المفرطة في دراميتها، فضلا عن التفاصيل القليلة المحيطة بالممثلين.. تذكّر جميعا بمسرح العبث أو العدم (Absurd) حيث دائما هناك تواصل وانقطاع في اللحظة ذاتها بين الشخصيات كما أن هناك حضور لماض ما لم يستنفد ممكناته حتى اللحظة الراهنة فيما الكل يعلم بما يقوم به الآخرون والعكس صحيح.
يضاف إلى ذلك محدودية عدد الشخصيات وقربها الشديد من شخصيات روائية ومسرحية عالمية عريقة تنتمي للمسرح الحديث مطلع النصف الثاني من القرن العشرين.
لكن ما يمكن وصف الفيلم به هو أنه تجسيد حقيقي لأثر الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الطاحنة على الأفراد التي تسرق منهم أعمارهم وحيواتهم دون أن يشعروا هم بذلك. في المشهد الافتتاحي، تستيقظ إيميليا على طرقات صاخبة على باب شقتها، فتقوم لا لتفتح الباب إنما لتنظر في المرآة وهي تتحسس التجاعيد على وجهها وجسدها، وتقوم بتلطيخ وجهها بلَبَن تبقى في صحنها من الأمس، هي التي لا تستحم ولا تنظّف البيت ولا تجد طريقا لتصالح ابنتها الرافضة لسلوكها، وذلك فضلا عن مشاهد يختلط فيها الأداء العبثي بالهوس بعد أن تدخل إلى حجرة عازف الساكسفون وقبل أن يأتي ليطردها، بمعنى أن المشكلة القائمة ليست في جسد “إيميليا” بما هو عليه إنما بما وصلت إليه طريقة تفكيرها وتعاملها مع المحيط والبيئة من حولها وبوصف هذه المشكلة تعبير عن اختناق من وضع قائم. وما يطرحه الفيلم كدلالة واسعة ان هذه المشكلة لا تخص “إيميليا” وحدها بل مجتمع بأسره يحتاج إلى إعادة النظر بعلاقته بذاته. لكن المخرج يطرح المسألة على بساط البحث لا كي يقدم حلولا أو نصائح، ليكتفي برؤية واسعة شاملة تنظر إلى المستقبل بعين مثقفة أو مدرَّبة جيدا على أن تكون مثقفة بالأحرى.
يضاف “أسباب القلب” الذي عرض في مهرجان سان سيباستيان للسينما العالمية مؤخرا في إسبانيا إلى رصيد آرتورو ريبشتاين الذي يضم أيضا عددا من الأفلام من بينها: ملكة الليل والبداية والنهاية.
المصدر: أبوظبي