22 أكتوبر 2011 01:06
تبقى مهمة التحكيم من المهام الصعبة التي تحتاج إلى كثير من الدقة، وإلى ابتكار معايير دقيقة تتوخى الإنصاف في الحكم والثقة بالنتائج، هذا في العادي من المجالات، أما في الإطار الإبداعي فالمهمة تغدو أصعب، إذ لطالما كانت الذائقة الفنية عنصراً نسبياً يحتمل تنوع الآراء ويقبل تعدد الرؤى أكثر مما هي معطى علمي يستبطن الحسم ويفترض البداهة.
في مهرجان أبوظبي السينمائي الخامس كان الجدول الذي تضمنته مسابقة أفلام الإمارات زاخراً. ثمانية وأربعون فيلماً تنافست على الفوز بإعجاب المشاهدين، وكان على لجنة التحكيم المؤلفة من رئيس وأربعة أعضاء أن تحسم الأمر وتقرر إعادة جدولة العناوين وفق أولويات فنية متقنة، الأفلام جميعها استوفت شروطاً تقنية محددة حتى أمكنها أن تجد لها مكاناً في لائحة المنافسة، لكن التحدي أبعد من ذلك، إذ أنه يتناول التمايز ولا يقتصر على حيازة القبول وحده.
سمة إعجاز
يقول المخرج المغربي أحمد المعنوني، رئيس لجنة تحكيم أفلام مسابقة الإمارات في مهرجان أبوظبي الخامس، أنه يتوجب على الفيلم السينمائي أن يجيب على أسئلة إبداعية محددة، ولا يكتفي بكونه مجرد مشاهد مرئية متراكمة، ويشير إلى سمة إعجازية تتلبس السينما: فنحن شاهدنا خلال فترة خمسة أيام ما يقارب الخمسين فيلماً خليجياً، مما منحنا الفرصة للإطلاع على جوهر الإنسان الخليجي، ومعرفة الأبعاد الحقيقية لشخصيته الفردية والجماعية.
ويضيف: عملنا كلجنة تحكيم هو أن نبحث عن مبدعين سينمائيين لديهم رؤية فنية حقيقية، وليس مجرد إلمام بالتقنيات والتكنولوجيا المتقدمة، وحسن استخدامها، الروح الروائية هي التي تؤطر الانتاج السينمائي، وتميز بين العامل العادي وبين المبدع الحقيقي.
يتابع المعنوني مستدركاً: من منظور المحترفين في المجال السينمائي مشاركة دولة حديثة العهد في هذه الصناعة المعقدة بهذا الكم من الأفلام دليل عافية من دون شك، ومؤشر واضح إلى الرغبة الصادقة في مجاراة الدول العريقة على هذا الصعيد، ثمة الكثير من النتاجات الواعدة التي يمكن الاعتداد بها، وهي تشي بارتقاء نوعي مرتقب في صناعة السينما الإماراتية خلال سنوات قليلة مقبلة.
شروط مغايرة
بالتطرق إلى الثغرات التي تعتري الانتاج السينمائي الإماراتي خاصة، والخليجي عامة، يقول المعنوني: يمكنني الحديث بثقة عن إشكالية من طابع عام تواجه العاملين العرب في الحقل السينمائي، على اختلاف مشاربهم شرقاً وغرباً، وإن كان يمكن التوقف عند شيء من التفاوت في هذا الإطار.. فنحن نعاني أولاً أزمة على صعيد السيناريو المكتوب الذي لا يأتي غالباً مساعداً على تزخيم العمل السينمائي، لم نكتشف بعد أن الكتابة السينمائية لديها شروط مستقلة عن النمط التقليدي من الكتابة، وأن كل كلمة تصاغ في سيناريو ما لها تأثير بالغ على نجاح العمل أو فشله، المطلوب من كاتب القصة السينمائية أن تكون لديه القدرة على تخيل الموقف المستقبلي، ومعرفة ما ستؤول إليه الأمور بعد أن تأخذ اللعبة الانتاجية مداها الأبعد، للأسف ما زلنا نخلط بين الأسلوب السينمائي في الكتابة وبين مثيله الروائي أو الخطابي حتى، وذلك عامل معيق بامتياز لتطور المسيرة السينمائية في بلادنا.
يضيف محدثنا: لدينا إشكالية على صعيد التذوق الجمالي للمقترح الإبداعي الذي نتلقاه، وهو ينعكس بدوره على الطريقة التي يسعى من خلالها المبدعون لحيازة إعجابنا، فنحن، كمتلقين، غالباً ما نجنح باتجاه التسطيح والمباشرة، كما لا نبدي رحابة صدر كافية حيال المقترحات التجريبية التي يسعها وحدها أن ترتقي بالنتاجات من مستوى إلى آخر. هذه الذائقة تتأتى من خلال التربية الفنية، ومنح المتلقي القدرة على التعامل المحترف مع المنجز الفني، على المستوى العربي ما زلنا نرى في كل ما يلمع ذهباً، وما زالت أي طرفة عادية تثير اهتمامنا كما لو أنها فتح في عالم الكوميديا، هذا القصور في تذوق الوافد الإبداعي لا بد له أن ينعكس سلباً على العملية برمتها، وأن يدخل السينما في نفق من الضبابية وانعدام الرؤية، والتأكيد فإن تجاوز هذا الواقع يتخطى قدرة المهرجانات السينمائية على اختلاف مستوياتها، ويستدعي إعادة نظر شاملة في مفاهيمنا التعليمية ونظرياتنا التربوية، فعندما يصبح المتلقي قادراً على التمييز بين الغث والسمين يصير لزاماً على المرسل أن يدقق النظر بخياراته، وهكذا تستقيم الأمور.
الرؤية أولاً
في ما يخص المعايير التي اعتمدتها اللجنة في تصنيف الأعمال المقترحة عليها، يوضح المعنوني: العنصر الأساسي هو توافر الرؤية السينمائية، على صناع الفيلم أن لا يتغاضوا لحظة واحدة عن كونهم يعملون في حقل إبداعي لديه شروطه الخاصة، وظروفه المتميزة، ثم تأتي القدرة على السرد السينمائي، فاللغة هنا خاصة بامتياز تستدعي تقنيات مختلفة، ومصطلحات معينة، وتراكيب متفردة أيضاً.
الجديد الواعد
من جهته يوضح عضو لجنة التحكيم المخرج الإماراتي هاني الشيباني، أن أول ما استوقفه في مسابقة أفلام الإمارات لدورة المهرجان الحالية هو وفرة الأسماء الجديدة، التي لم يسمع بها من قبل، وهو يصف الأمر بالمبشر، حيث من شأنه تعزيز الثقة بمستقبل الفن السابع في الدولة، لكن الشيباني يستدرك قائلاً: “كنت أتمنى أن تكون هناك مشاركة لأسماء مخضرمة، وذلك بهدف رفع سوية المنافسة”.
يصف محدثنا واقع المسابقة بالقول: كما في كل حال مماثلة هناك قدر من التفاوت، فالأفلام تتوزع بين جيد وعادي، وهذا لا ينتقص من مشروعية التنافس، بل على العكس يتيح فرصة لتبني صيغة تقييمية مدروسة قادرة على الفرز والتصنيف.
بالحديث عن التجربة السينمائية الإماراتية، يقول الشيباني، وهو أحد الأبناء المميزين لتلك التجربة، هناك ندرة على صعيد الأفلام المتكاملة، فما زالت السينما عندنا تعاني ثغرات على مستوى السيناريو والتنفيذ، ونسبية وضوح الرؤية الإخراجية، حتى ليمكن القول إن بعض الأفلام المعروضة في المسابقة ينقصها الكثير من الترميم حتى تبلغ مرحلة النضج.
المواهب الناشئة
في سياق توصيفه لسبل حل المعضلات القائمة يقترح المخرج الإماراتي إنشاء هيئة سينمائية متخصصة تتولى احتضان القطاع السينمائي من مختلف جوانبه، فتتعهد المواهب الناشئة بالرعاية والتدريب، وتأخذ بأيدي أصحابها على طريق الاحتراف، كذلك يكون بين مهامها إمداد الساحة السينمائية بالقدرات البشرية المطلوبة على مختلف الصعد، فالسينما ليست إخراجاً كتابة سيناريو فقط، لكنها بنية معقدة تحتاج إلى تقنيين متمكنين في مختلف مراحل الانتاج، وهذا ما ليس متوافراً حتى اللحظة.
حضور أنثوي
أيضاً يتوقف الشيباني عند أهمية المهرجانات السينمائية التي تقيمها الإمارات سنوياً، لكنه يحذر من تحميلها ما يتجاوز قدراتها، فهي ليست بديلاً عن المرجعيات الحاضنة، وإن كان بوسعها تقديم الكثير للمسيرة السينمائية الناهضة، إلا أن دورها يأتي في سياق التكامل مع سواها من المؤسسات التي تبقى ضرورية لصناعة متقنة.
بدورها تتوقف عضو لجنة التحكيم، المخرجة اليمنية خديجة السلامي عند الحضور النسائي في السينما الإماراتية، وتعترف أن الأمر شكل مفاجأة بالنسبة لها إذ ليس من المألوف في حالة صناعة سينمائية حديثة العهد نسبياً أن تتمكن من استقطاب العنصر الأنثوي بهذا القدر من الكثافة، وأن تعكس هذا المستوى من الاحتراف في الأداء بالنسبة لبنات الجنس اللطيف. توضح السلامي أن متابعتها لأفلام مسابقة الإمارات أكدت لها وجود أفكار ناضجة ومواهب متميزة لدى الواقفين خلفها، لكنها لاحظت في بعض الحالات قصوراً عن استخدام الأفكار بصورة سليمة، وعن استثمارها بطريقة وافية تستخرج كل طاقاتها المضمرة، حيث توقفت عند بعض المعطيات السينمائية التي كان يمكن توظيفها بصورة أفضل بما يمنح الفيلم الكثير من عوامل الثراء والجذب والتشويق، إضافة إلى حسن استخدام المؤثرات الصوتية والموسيقية التي تمثل مساحة حيوية من عملية صناعة الفيلم حتى لو كان وثائقياً أو تسجيلياً.
من جانبها، واعتماداً على مشاهداتها في المسابقة، رأت عضو لجنة التحكيم، المخرجة العراقية ميسون الباجة جي تصاعداً ملموساً في المسار الذي تختطه السينما الخليجية لنفسها، لكنها تشير بالمقابل إلى أن الطريق طويل، ومن الخطأ التصور أن المهمة قد انجزت، وصار بالوسع الاكتفاء بما ينتج ويعرض سينمائياً واعتباره آخر المطاف.
الباجة جي تدعو إلى التعمق في القصة السينمائية، وإلى بناء السيناريو وفق مستلزمات الحدث المرئي، بأوضح هي تشدد على ضرورة امتلاك آلية التفكير السينمائي المختلفة جذرياً وجوهرياً عن النمط العادي من الإنتاج الفكري، كذلك تشير إلى إشكالية مركزية أمكنها رصدها في السواد الأعظم من الأفلام المقترحة، وهي ظاهرة التأثر بالتلفزيون واعتبار السينما بمثابة وجه آخر له. إنها إحدى معضلات الانتاج السينمائي تقول ميسون.
المصدر: أبوظبي