يؤكد جان جاك روسو في الفصل الأخير من كتابه الشهير «في العقد الاجتماعي» أن من الصعوبة بمكان أن يتحقق السلام بين شخصين يعتقد كل واحد منهما أن الله غاضب على الآخر. ما يعني أن تصور الناس للجزاء الأخروي يؤثر بنحو مباشر على قدرتهم على العيش المشترك. وكما أن نوعية الأفكار تؤثر على نوعية الحياة، فإن أفكار الناس حول عالم «ما بعد الموت» تؤثر على حياتهم في عالم «ما قبل الموت». لكن إذا كانت بعض التصورات الأخروية تمثل تهديداً للسلم الأهلي كما يرى روسو، فلأنها قبل ذلك تمثل تهديداً للسلام الداخلي للشخص، أي أنها تمثل تهديداً صريحاً للأمن الروحي.
معلوم أن الأفكار تتحول إلى مشاعر وأحاسيس، وتتحول المشاعر إلى تصرفات وأفعال. لذلك، تشتعل الفتنة بادئ الأمر في العالم الداخلي للشخص قبل أن تنتقل إلى العالم الخارجي، تشتعل في مستوى علاقة الإنسان بذاته قبل أن تنتقل إلى علاقة الناس بعضهم ببعض، تشتعل في أعماق الكينونة قبل أن تنتقل إلى النسيج الاجتماعي.
لذلك السبب نبه أبيقور قديماً إلى أن «الإنسان الذي يملك راحة النفس لا يزعج نفسه ولا غيره» (الحكم الفاتيكانية). هنا تكمن الوظيفة الأمنية للفلسفة. غير أن المقصود بالأمن هنا هو الأمن الروحي على وجه التحديد.
بيد أن الرهان على الفلسفة اليوم لا يعني أن الفلسفة ستأخذ مكان الأديان بصفة فورية أو نهائية، لا يعني أن فضاءات العبادة ستترك مكانها لآغورا سقراط، وأكاديمية أفلاطون، وثانوية أرسطو، وحديقة أبيقور، ورواق زينون.
لمزيد من التوضيح أقول: ليس موضوع الفلسفة هو العالم، بل رؤيتنا إلى العالم. غير أني أضيف قولاً آخر، غاية الفلسفة تنمية قدرتنا على العيش في هذا العالم الذي نعيش فيه. لأجل ذلك، تتمثل وظيفة الفلسفة أساساً في إصلاح الكينونة في أبعادها العقلية، والغريزية، والروحية، وكل ذلك بصرف النظر عن الموقف من مسألة الحقيقة.
إن إصلاح الكينونة معناه:
أوّلاً، إصلاح العقل قصد إخراجه من حالة الخمول والعجز والتسليم، حيث بوسعنا أن نلتقي هنا بالعديد من المشاريع الفلسفية، من ضمنها على سبيل المثال، مشروع ديكارت (قواعد من أجل توجيه العقل)، ومشروع سبينوزا (رسالة في إصلاح العقل)، وثلاثية كانط في نقد العقل.. إلخ.
ثانياً، إصلاح الغرائز وتخليصها من دوافع الانحطاط، حيث نلتقي هنا ببعض المشاريع الفلسفية، على رأسها مشروع نيتشه، لاسيما في «هكذا تكلم زرادشت»، و«هذا هو الإنسان».
ثالثاً، إصلاح العقيدة، حيث مجمل مشاريع الإصلاح الديني في تاريخ الفلسفة منذ أفلاطون إلى غاية اليوم.
1- إصلاح العقل
لا ترتبط التنمية الروحية بأي سر غيبي كما قد يتراءى للبعض، ولا بأي وصفات سحرية كما قد يتوهم البعض الآخر، وإنما ترتبط التنمية الروحية بتنمية أسلوب التفكير ذاته. ذلك أن معظم مشاكل الحياة ترتبط بعدم القدرة على التحكم في التفكير. نعلم أن العقل عندما لا نتحكم فيه يكون ميالاً بطبعه إلى السهو والشرود، وميالاً إلى الأفكار السلبية الباعثة على الحزن، والخوف، والندم، والأسى، وغير ذلك. إن أصل المخاوف، والوساوس، والهواجس، ومختلف الاضطرابات النفسية لهو ميل التفكير إلى الجموح، حيث تتلاعب به الذاكرة والخيال والمزاج. لذلك نشعر بالأمن الروحي بقدر ما نمتلك القدرة على التفكير الإيجابي. وهذا ما أدركه الفلاسفة منذ العصور القديمة. وبهذا النحو يكون إصلاح العقل محوراً أساسياً من محاور إصلاح الكينونة، ومن ثم تحقيق الطمأنينة.
في مطلع العصر الحديث، سينطلق ديكارت من فكرة أنه لا يوجد عقل جيد أو عقل سيئ، وإنما يوجد منهج جيد أو منهج سيئ. بمعنى أن المسألة لا تتعلق بالعقل كجوهر خالص، وإنما بكيفية استعمال العقل.
كيف نوجه تفكيرنا بنحو يساهم في تحسين قدرتنا على الحياة؟ هذا هو السؤال.
تبدأ تنمية القدرة على الحياة من تنمية القدرة على التحكم في التفكير بنحو يخدم إرادة النمو لدى الإنسان في كل أبعاده، سواء تعلق الأمر بالنمو الجسدي، أو النفسي، أو العقلي، أو الروحي. ما يعني نمو الكينونة.
إصلاح العقل معناه:
أولاً، إصلاح الجهاز المفاهيمي. ذلك أن المفاهيم هي القوالب الأساسية لصياغة الفكرة وتوجيه الفكر. فليس دور المفاهيم أن نعبر بها وحسب، بل دورها الأساسي أن نفكر بها. وإذا كان إصلاح المفاهيم يحيل إلى ضرورة تطوير اللغة، فقد سبق لمارتن هيدغر أن اعتبر «اللغة مأوى الكينونة»، ما يعني أن نمو الكينونة يحتاج أيضاً إلى نمو المأوى، تماماً مثلما يحتاج نمو الحلزون إلى نمو القوقعة أيضاً.
ثانياً، إصلاح منظومة القيم. ذلك أن القيم تساهم في تأطير العقل، وتوجيه عملية التفكير، ومن تم تحديد مسارات السلوك في الأخير. إن منظومة القيم لهي مكون أساسي من مكونات قوقعة العقل. ومن ثمة فإنها يجب أن تنمو بنحو دائم حتى لا تعيق نمو العقل، أو يضطر العقل إلى تحطيمها. والمآلان خطران على الأمن الروحي للإنسان.
ثالثاً، تنمية القدرة على التفكير. ذلك أننا كما نفكر نكون. هنا يبدو الأمر عملياً، إذ يوفر لنا تاريخ الفلسفة تمارين أساسية لأجل تحسين مهارة التفكير: من قبيل تحرير النفس من سطوة الانفعالات السلبية، وفق تعاليم الرواقيين، وإفراغ الذهن من الأحكام المسبقة، وفق تعاليم الشكاكين، وكذلك إفراغ الذهن من جميع الآراء المسبقة وفق قواعد ديكارت. وهي التجارب التي تمنح الشخص شعوراً بالصفاء الذهني وراحة البال، ومن تم الاستعداد للتفكير بنحو إيجابي.
2 - إصلاح الغرائز
يقسم سبينوزا الانفعالات إلى صنفين: الانفعالات المبهجة (المحبة، المجد، الرضا عن الذات، الأمان، الرحمة، السخرية، الاكتفاء.. إلخ)، والانفعالات الحزينة (الكراهية، الخوف، الخجل، الندم، الأسى، الغضب، الثأر.. إلخ) (الأخلاق). بوادر ذلك التصنيف سبق إليها ديكارت حين أحال مجموع الانفعالات إلى انفعالين أساسيين، البهجة والنفور (انفعالات النفس). غير أن رؤية سبينوزا كانت ملهمة ومفصلية في تأكيده بأن الانفعالات الحزينة تضعف من قدرة الإنسان على الحياة (الأخلاق، الجزء3).
على نفس المنوال تقريباً يصنف نيتشه الغرائز إلى نوعين: غرائز السمو، وهي الغرائز التي تدعم إرادة الحياة (الجرأة، التفوق، الإبداع، تحقيق الذات.. إلخ)، وغرائز الانحطاط، والتي هي بمثابة غرائز معادية للحياة (الذنب، الضغينة، الخوف، الانتقام.. إلخ).
كذلك، على نفس المنوال يصنف فرويد قوى النفس إلى قسمين: قوى الحب (أيروس) والتي توجه الإنسان نحو الحب والإبداع وبناء الحضارة، وقوى الموت (ثاناتوس) والتي توجه الإنسان نحو الحرب والعنف والدمار.
بالنسبة لهؤلاء الثلاثة (سبينوزا، نيتشه، فرويد)، تحتاج الحضارة إلى تغليب الانفعالات المبهجة، وغرائز السمو، وقوى الحب. إذ عندما يتغلب الشق الآخر تدخل الحضارة طور الانحطاط والانهيار.
وبلا شك، فإن الاستنطاق الفلسفي الذي يجب أن تخضع له كل منظومة ثقافية على حدة، وكل تنشئة اجتماعية على حدة، وكل خبرة دينية على حدة، سيكون على النحو التالي: أي نوع من الانفعالات والغرائز يتم العمل على تنميته؟
شخصياً، أعتبر هذا السؤال هو السؤال الأكثر جدية بالنسبة لمآلات الحضارات ومصائر النوع البشري.
3 – إصلاح العقيدة
إذا كان النمو إجمالاً حاجة حيوية لدى كل الكائنات (سبينوزا، نيتشه، برغسون)، فإن النمو الروحي هو الحاجة الأكثر إنسانية لدى الإنسان. هنا يكون دور الفلسفة هو تذليل العقبات أمام النمو الروحي للذات وللنوع البشري. ذلك أن عقبات نمو الذات، ومن ثم نمو النوع البشري، تندرج ضمن الأمراض التي يتوجب على الفيلسوف تشخيصها باعتباره «طبيب الروح» بالمعنى الرواقي في حالة أمراض الكينونة، وباعتباره «طبيب الحضارة» بالمعنى النيتشوي في حالة أمراض الحضارة.
غير أن التنشئة الدينية السائدة عندنا، والموروثة من العصر الوسيط، تساهم في إجهاض إرادة النمو لدى الأفراد عبر ترسيخ الأفكار السلبية وتبخيس قيمة العمل.
في كتابه «الدين والتحليل النفسي» يصنف المحلل النفساني الأميركي الشهير إريك فروم الخبرة الدينية إلى نوعين:
أولاً، الدين التسلطي: والمقصود به الخبرة الدينية القائمة على الخوف، والخنوع، والاستسلام لقوة جبارة مخيفة.
ثانياً، الدين الإنساني: والمقصود به الخبرة الدينية التي تحفظ للإنسان شعوره بالحرية والكرامة والعقل والإرادة والطموح الإنساني نحو الأفضل.
هذا التصنيف من شأنه أن يفتح الباب أمام خريطة طريق واضحة للإصلاح الديني المنشود: انتقال الخطاب الديني من مستوى دعم الانفعالات الحزينة، غرائز الانحطاط، وقوى ثاناتوس، إلى مستوى دعم الانفعالات المبهجة، غرائز السمو، وقوى إيروس، بمعنى أن ينتقل الدين من كونه ديناً تسلطياً إلى كونه ديناً إنسانياً. هذه العملية ليست سهلة، إذ لا يتعلق الأمر بمجرد سيرورة للعلمنة كما قد يتراءى للبعض. ذلك أن العلمنة نفسها قد تصير مجرد علمنة للدين التسلطي، عبر مظاهر تقديس الانضباط الحزبي، أو ما إلى ذلك، بل يتعلق الأمر بتحويل الطاقة الدينية للإنسان، حتى في جوانبها السلبية، إلى قوة إيجابية للبناء والطموح والحياة. لا أشك قيد أنملة في أن هذا التحويل سيكون ممكناً عن طريق تنمية الحس العقلاني منذ الطفولة، وتنمية الحس الجمالي منذ الطفولة، وتنمية الحس الأخلاقي الإنساني منذ الطفولة.
محاولة تحرير العقيدة من غرائز الانحطاط، وعلى رأسها غريزة الخوف، هي الجهد الذي بدأته الفلسفة السياسية منذ أفلاطون. وعلى سبيل المثال، فقد كتب أفلاطون في (الجمهورية، 3) ينتقد قصص العالم الآخر التي تبث الرعب في النفوس. وكان من ضمن ما قاله ما يلي:
«وإذن فلا بد من أن نفرض رقابة على رواة هذا النوع من القصص، وأن نطلب منهم أن يصوروا العالم الآخر بأجمل الصور، بدلاً من تلك الصورة الكالحة الكئيبة التي تشيع بيننا اليوم، ما دامت قصصهم لا تنطوي على نصيب من الحقيقة (...) ذلك بأن شباب مدينتنا لو صدقوا، يا أديمانتوس العزيز، هذه الأقوال بدلاً من أن يسخروا منها بوصفها ميوعة لا تليق بالآلهة، فسيكون من الصعب عليهم -وهم بشر على أي حال- أن يعتقدوا بأن هذه الأعمال لا تليق بهم، أو أن يحاولوا كبح جماح أي ميل يثير في نفوسهم مشاعر وأقوالاً كهذه، وإنما سيستسلمون للنحيب والشكوى لأتفه الأسباب بلا خجل» (الجمهورية، الكتاب 3).
الموقف واضح:
بعض أنماط الخطاب الديني الشائعة لا تعمل سوى على تنمية ما يسميه سبينوزا بالانفعالات الحزينة، وتنمية ما يسميه نيتشه بغرائز الانحطاط، وتنمية ما يسميه فرويد بغرائز الموت. وهو ما يكرس الشقاء المفضي إلى العنف، والتعصب، والاكتئاب.
بهذا المعنى، قد تكون المادة الأساسية التي يوفرها لنا التصوف الفلسفي إيجابية من حيث إمكانية تحويل الخبرة الدينية من غرائز الانحطاط (الخوف، الكراهية، الحزن.. إلخ)، إلى غرائز الارتقاء (المحبة، العشق، الفرح.. إلخ). ولا أشك في أن للفنون الجميلة دوراً كبيراً في هذا التحويل، وهذا مقام آخر.
نتذكر اللقاء الشهير في شهر أبريل من عام 2018، داخل الفاتيكان، بين البابا فرنسيس والطفل إيمانويل الذي جاءه باكياً خائفاً على والده الذي توفي حديثاً من أن يذهب إلى جهنم لأنه لم يكن مؤمناً، مع أنه عمّد أبناءه الأربعة في الكنيسة، فرد عليه البابا بهدوء وطمأنينة: «يسهل أن نعمد أبناءنا عندما نكون مؤمنين، لكن ليس سهلاً أن نفعلها حين لا نكون مؤمنين.. ولأنه فعلها، فقد كان قلبه بين يدي الله، وهو وحده يعرف يا إيمانويل إيمان أبيك، ووحده يقرّر من يذهب إلى الجنة».
خلف هذه الإجابة الإنسانية والحكيمة ليس هناك فقط تاريخ المسيحية، بل هناك أيضاً تاريخ الفلسفة، تاريخ الأنوار الأوروبية. قد لا نحتاج إلى الاستغناء عن الأديان، لكن ثمة شرطاً ضرورياً لبقاء الأديان، وهو ألا تستغني الأديان نفسها عن تاريخ الفلسفة، ما يعني أن تعيد صياغة نفسها من جديد. «الحكمة ضالة المؤمن» كما جاء في الحديث النبوي الشريف.