أحمد الصاوي (القاهرة) - اهتمت الحضارة الإسلامية منذ وقت مبكر بعلم الفلك لدواعٍ مختلفة يتصل بعضها بأن الأمم التي تقطن ديار الإسلام كان لها إرث كبير في هذا العلم، وأضيف إلى ذلك أن الحاجة لتحديد اتجاه القبلة كان أمراً لازماً لبناء المساجد ولصحة صلاة المسلمين، الذين يتوجب عليهم التوجه في صلواتهم للبيت الحرام بمكة المكرمة. وعلى الرغم من أن البدايات الأولى لعلم الفلك جاءت في الحضارة الإسلامية ممزوجة بالتنجيم ومحاولة معرفة الطوالع، فإن ذلك لم يستغرق وقتا طويلا إذ سرعان ما اتخذ الاهتمام بالتأليف في علم الفلك اتجاها علميا قائما على الملاحظة والمعرفة.
ولعب الفن الإسلامي دورا مهما في تقدم علوم الفلك عبر إنتاج المخطوطات التي زودت دائما بالرسوم الشارحة والأشكال التوضيحية وبقيام الفنانين المسلمين بعمل وزخرفة المنتجات التطبيقية التي تعتمد على المعارف الفلكية مثل الإسطرلابات «آلة فلكية قديمة وأطلق عليه العرب ذات الصفائح، وهو نموذج ثنائي البعد للقبة السماوية، وهو يظهر كيف تبدو السماء في مكان محدد عند وقت محدد» بأنواعها المختلفة ثم البوصلات، التي تعين الاتجاهات الرئيسية وخصوصا اتجاه القبلة.
مؤلفات دقيقة
ومن بواكير المساهمات الفنية في علم الفلك بعض نسخ من كتاب الشهير أبي جعفر بن محمد البلخي المتوفى عام 272هـ زودت بتصاوير لتأييد نظريته في أن الصور النجمية تتراءى في السماء مع حلول العشور أي عقود الشهور الستة والثلاثين، والتي يشكل كل منها ثلث برج من الأبراج الاثنى عشر، وعلى الرغم من أن هناك مؤلفات عدة أكثر دقة من كتاب أبي معشر فقد لقي رواجا واضحا في أوروبا وتمت ترجمته للغات عدة في العصور الوسطى ونقلت المخطوطات الأوروبية من هذا الكتاب ذات الرسوم التي زود بها المسلمون النسخ العربية الأولى من كتاب أبي معشر.
وتحتفظ مكتبات عالمية عدة بنسخ مصورة من كتاب الصوفي المعروف باسم صور الكواكب والنجوم الثابتة، وهي تعتمد على رسم الأبراج الفلكية في هيئات آدمية وحيوانية بحسب مسمياتها، وتمثل تلك الصور طابع مدارس التصوير الإسلامي التي عرفتها فنون الإسلام ولاسيما مدرسة التصوير العربية، حيث دأب النساخ على نقل هذه الصور بشكل حرفي في النسخ المتأخرة من هذا المخطوط الذائع الصيت.
أحكام النجوم
ويلحق بذلك كتاب مهم ألفه العالم القيرواني علي أبي الرجال في علم أحكام النجوم والمعروف باسم البارع في أحكام النجوم، وقد ترجم هذا الكتاب في حياة المؤلف إلى الإسبانية بأمر الملك الفونسو العاشر في الثلث الأول من القرن الخامس الهجري، وتركت تصاويره أثرا لا يمحى على الصور التي استخدمت في مؤلفات علماء طليطلة خلال العصور الوسطى.
ومن نسخ مخطوط الصوفي عن صور النجوم والكواكب الثابتة نسخة محفوظة بمتحف الأرميتاج بروسيا الاتحادية نرى من بينها رسما لبرج الجوزاء وقد رسم تقليديا على هيئة جاريتين ملتصقتين من ناحية الأكتاف، وقد حرص الفنان على تجنب رسم التفاصيل الأنثوية، مكتفيا بتسجيل البيانات العلمية التي توضح منازل هذا البرج وصفاته.
مخطوطات
ومن المخطوط ذاته نجد أيضا رسما لكوكبة الفرس العظيم وقد رسمت بدقة بالغة على هيئة فرس مجنح أو البيجاسوس ووضعت على الصورة باللون الذهبي مواضع المنازل الخاصة بتلك الكوكبة.
وقد ترك الفن الإسلامي برسومه بكتب التنجيم والفلك أثرا لا يمكن تجاهله على رسوم النجوم والكواكب بأوروبا خلال عصورها الوسطى، وهو ما يبدو واضحا على سبيل المثال في رسوم كواكب مثل التنين وقيفاوس.
ومع نمو المعارف الفلكية بدءاً من القرن العاشر الهجري «16م» أخذت المخطوطات التي أنتجت في علم الفلك سواء باللغة العربية أو باللغتين الفارسية والتركية تهتم بأن تأخذ صورها الفنية هيئات أكثر دقة وتعقيدا.
ومن أمثلة ذلك رسوم فلكية بمخطوط تركي للفلكي مصطفى بن عبد الله من القرن العاشر الهجري «16م»، وقد وزع الأبراج فيه بهيئاتها التقليدية على دائرتين تمثلان النصف الجنوبي والنصف الشمالي للكرة الأرضية. ومن الفترة العثمانية نفسها لدينا مخطوط فلكي ألفه العالم المصري الدمياطي لتوضيح كيفية الاستدلال بالنجوم عند السفر وإن جاءت رسومه أقل اتقانا وعناية من سابقه التركي.
الطبيعة العلمية
أما المنتجات التطبيقية التي اعتمدت على المعارف الفلكية فهي متعددة ومتنوعة مثل الإسطرلاب والمزولة الشمسية وآلات رصد الكواكب والبوصلات، وقد حرص الفنان المسلم على إسباغ طابع من الجمال الفني على تلك المنتجات سواء في كتاباتها أو رسومها دونما إخلال بالطبيعة العلمية لتلك المنتجات.
وحتى في هذا النطاق لم يتخلف فن التصوير الإسلامي عن تزويدنا ببعض الصور الفنية التي تبين كيفية عمل بعض هذه المنتجات التطبيقية.
ففي نسخة مخطوطة من كتاب الملوك الذي ألفه الفلكي العثماني تقي الدين في القرن العاشر الهجري»16م» نجد لوحة فنية توثيقية للعمل في مرصد استانبول، حيث نرى مجموعة من الأشخاص بملابسهم وعماماتهم التي تشير لمكانتهم العلمية وقد انهمكوا في العمل مستخدمين شتى المنتجات من أدوات للقياس وإسطرلابات كاملة وأخرى ربعية، فضلا عن مجسمات الكرة الأرضية والساعات الرملية. وقد حرص الفنان على توزيع الأشخاص في ثلاثة مستويات مختلفة، كل بحسب تخصصه، مبينا أن المكان كانت به طاولة كبيرة يعمل عليها العلماء. وتوضح صورة أخرى من هذا المخطوط عمل الفلكيين بآلة رصد مبتكرة.
منتجات فلكية
ومن المخطوطات الفارسية نسخة من كتاب الفلكي الشهير نصير الدين الطوسي حافلة بالتصوير التي توضح موضوعات الكتاب، ومن أهمها لوحة توضح قيام الطوسي بشرح كيفية استخدام الإسطرلاب لعدد من معاونيه، وذلك في قاعة ذات قبة ومفتوحة على فناء، للاستفادة من الفضاء الخارجي في شرح درس الطوسي.
أما المنتجات التطبيقية الفلكية فهي شائعة الانتشار في المتاحف والمكتبات العالمية، ومن بينها إسطرلاب ربعي، قام بعمله ابن أحمد الميزي ميقاتي الجامع الأموي بدمشق في القرن الثامن الهجري»14م»، وتنم كتاباته وخطوطه المتقاطعة عن دقة علمية وفنية.
متحف أكسفورد.. شاهد على براعة العرب
يحتفظ متحف تاريخ العلوم بأكسفورد بإسطرلاب نادر «آلة فلكية قديمة وأطلق عليه العرب ذات الصفائح، وهو نموذج ثنائي البعد للقبة السماوية، وهو يظهر كيف تبدو السماء في مكان محدد عند وقت محدد»، قام بصناعته في عام 728هـ علي بن إبراهيم الحرار المؤذن بتازا بالمغرب بغرض توضيح مواضع 60 نجما بالسماء. ومن أهم أنواع الإسطرلابات تلك المتعددة الأوجه، والتي كانت تستخدم في عمليات المسح، ومن أمثلتها المشهورة واحد من عمل محمد مقيم بن ملا عيسى في عام 1641م بلاهور، وقد صنع من البرونز وتعطيه الزخارف والهيئة المركبة لأجزائه قيمة فنية وصناعية وعلمية كبيرة.
اتجاه القبلة
هناك بوصلات اعتمدت في إنتاجها على خواص المغناطيس وكان الغرض منها مساعدة المسلمين أينما حلوا على معرفة اتجاه القبلة، فضلا عن الاستعانة بها في أثناء السفر وغالبا ما زودت بأماكن المدن التي يمكن أن يزورها صاحب البوصلة، ومن أقدمها بوصلة من العاج من عمل بيرم بن إلياس في عام 990هـ، وهي من مقتنيات المتحف البريطاني بلندن. وثمة نماذج من بوصلات من الخشب الملون، وبعضها استخدم ألوان اللاكيه، وهي تعد تحفا فنية رائعة، إلى جانب أغراضها الوظيفية.
عدد اليوم
