الجمعة 20 سبتمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الاغتراب في شعر «المدني»

الاغتراب في شعر «المدني»
13 فبراير 2020 00:26

في ستينيات القرن الماضي وفي مدينة دبي، حي البطين ولد الشاعر أحمد أمين المدني ونشأ فيها، وتلقّى البذور الأولى من العلوم من خلال حضور مجلس الفقهاء والمطاوعة والشعراء الذين يعدون الطبقة المتعلمة في ذلك الوقت كالقاضي الشنقيطي، والشاعر مبارك العقيلي، وهاشم الهاشمي والأديب الكويتي عبدالله الصانع، فكان يحاورهم ويناقشهم وينتقد أقوالهم بجرأة، وكان يلازم الشاعر مبارك العقيلي وتتلمذ على يديه حتى صار يسجل له أشعاره.
ومع المجالس تلك كان دور المجلات الأدبية والفكرية والصحف التي كانت تصدر في مصر ولبنان والعراق مثل مجلة الرسالة ومجلة الهلال وغيرها الأثر الواضح في ثقافته الأولى، مع نهله من كتب الأدباء والمفكرين أمثال العقاد وطه حسين وزكي مبارك، كما كان يتابع الإذاعات، كل ذلك مكّنه من أن يجمع أبناء الحي يعلمهم القرآن والحديث ويعقد لهم الحلقات الدينية يعلمهم أمور الدين، ويخطب في الناس في المناسبات وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره. ويمكن تلخيص تحصيله الدراسي كالآتي: بدأ دراسته النظامية في الإمارات، وكانت الدراسة في المدرسة الأحمدية ثم المدرسة الفلاحية، ثم انتقل إلى العراق في العام 1947 م. وفيها حصل على الشهادة الابتدائية والشهادة الثانوية وكذلك الليسانس في الشريعة والعلوم العربية من كلية الإمام الأعظم. لينتقل بعدها إلى بريطانيا وينال درجة الماجستير في التاريخ الحديث ثم الدكتوراه. ويعد المدني أول مواطن يحصل على درجة الدكتوراه.
كان المدني وليد الساحة الثقافية بدولة الإمارات في القرن المنصرم الذي شهد ميلاد عدد من الشعراء رغم تواضع الإمكانات المتاحة ومنهم: سالم العويس - الذي تعود إليه الحركة الشعرية الحديثة في الدولة - وصقر بن سلطان القاسمي وخلفان بن مصبح، وسلطان بن علي العويس وإبراهيم المدفع، وأحمد بن سليم ومنهم أحمد أمين المدني، ونشر في الصحف المحلية الإماراتية والخليجية والعربية، منها مجلة الآداب والعاصفة والأهالي والقبس والزمان والأديب وشِعر والفكر التونسية، والضاد السورية. إضافة إلى أنه أصدر ديوانه الأول «حصاد السنين» في العام 1968 م، وديوان «أشرعة وأمواج» في العام 1973م وسبق له أن شارك في مسابقة شعرية أدبية لمجلة «فتى بغداد» العراقية وفاز بالجائزة الأولى عن قصيدته «حب عجيب»:
حبيبــــي، أغنيــــــــــة وادعـــــــــــة
وترنيــــــــمة، حلــــــــــــوة شــــــائعة
وأغــــرودة في ربـــــوع الجمــــال
وفي مســـرح الأنجـــم اللامعة
ووشوشـــــــة في خيــال الربيــــع
تمــــــوج بأزهــــــــــــاره اليانعــــة
وقيثـــــارة في ضفـــاف الغديــر
تُسلســــــــل أنغامهـــــا الرائعــــة
لهـا مبســــم يغمــــر الأرجـــــوان
لآلئـــــه البضّــــــــــةَ المشـــــرقة
ووجــه طليـــق كغجــر الحقــــول
وكالشمس في الروضة الموبقة
وعينـــــان تســـــتلهمان الغيــــوب
وأســـــــــرار آفاقـــــه المغلقــــــة
وشــعر كلـون شــــبابي الحزيـــن
تغطّ بطياتــــــــــــه زنبقــــــــــــــــــة
لماذا أحــــس بـــــدفء النعيـــــم
يشــــــــيع ارتعاشــــا بأعراقيـــه
ويرقــــــص قلبــي إذا ما التقــت
بأهدابهــــــا الوُطْـــــف أهدابيـــه
لمــــاذا تجنحنــــــي غبطـــــــــــــــة
إلهيـــــــــــة بـــــــرؤى غافيــــــــــــــه
إذا جاذبتنـــــــــــي أحاديثهــــــــــــا
وذابــــت نشـــــــيدا بأســــــماعيه
لمـــاذا يحـــــــــن فــــؤادي هـــوىً
إليهــــــا ويفـــــرح فــــي قربهـــــــا

بداية التجربة الشعرية
من خلال ما سبق ذلك يمكن أن نحدد بداية التجربة الشعرية أثناء وجوده في العراق، حيث نشر قصائد في مجلات العاصفة والأهالي والقبس والزمان بين عامي 1950 م و1958 م، وإضافة إلى ذلك تم العثور على قصائد تعود إلى العام 1952 م والتي قامت مجلة الأديب اللبنانية بنشرها.
ويعيش الإنسان، الشاعر أو الأديب المال في نهجه، صراعا دائما، لذا يبقى غريبا عن الواقع الذي يريد تغييره، يصور ما يجب أن يكون عليه المجتمع لا ما هو كائن، قلبه ينبض بعواطف إنسانية، وينفرد عن غيره وأدبه مرآة ذلك التفرد. يتجاوز المفكر حاضره إلى مستقبل آمل أو بائس ينشد فيه ضالته، يقلق من عزلته. إن الشاعر عضو منغمس في وضع اجتماعي معين، فالمجتمع سابق في وجوده على العمل الأدبي ، والكاتب مشروط بما يعكسه ويعبر عنه.
يقول المدني:
ينقل الروح.. عبــر أفق بعيـــد
يتغنـى الفــــــــــؤاد فـي لحونـــــه
حيث تسمو نوازع النفس فيــها
عن حياة غريقة في الضـــغينة
ووحيد شطت صــروف الليالي
بمنــــاه.. ولاذ يشـــــكو ســــنينه
وغريب ناء عــن الأهل ألقــى
في حنـــــاياك بؤســـــه وأنينــــه
إنه المحيط الاجتماعي الذي يشعر الشاعر بأنه محيط غريب لا يمكن الانسجام فيه. وهذا ما يؤكد عليه بعض الفلاسفة الذين يصنفون الاغتراب في مراحل ثلاث: المرحلة الأولى: مرحلة التهيؤ للاغتراب، والمرحلة الثانية: مرحلة السخط والنفور الثقافي، أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الانعزال الاجتماعي.
اغتراب الشخصية يكمن في الصدام القائم بين ما هو ذاتي وما هو واقعي، وإذا كان من الضروري للفرد- كما يذكر هيجل- أن يراعي النظم الاجتماعية وأن يتطابق معها، فإنه من الضروري لهذه النظم نفسها أن ترقي بنفسها إلى مستوى الشخصية أو مستوى الوعي الذاتي.. ولاحظ الدكتور إحسان عباس أن في الشعر تُستعمل الأفعال والصفات في أقصى ما تؤديه من مبالغة، فهو لا يستعمل المعنى الوسط في الفعل، بل الطرف الحاد، فهو لا يلج الغاب بل يخبطه، وهو لا يسري الليل بل يصدعه ويمزق جيبه.
يقول المدني:
أيها الحالــــــم الغريـــب ترفـــق
بفـــــــــؤاد يـــــذوب فـي أناتـــــــه
إن دنيـــــاك عالــــم مـن جمــــاد
أو مـــــوات يســــــــربل برفاتـــــه
لست تقوى أن تنفث الروح فيه

العزلة والفراغ الوجودي
إن الانعزال الاجتماعي هو غربة الفرد وهذا النوع من الاغتراب يشير للعزلة والابتعاد عن المجتمع وهو الذي يؤدي إلى خارج البناء الاجتماعي المحيط، ويدعو للبحث عن إحضار بناء جديد للوجود، بحيث يكون بناء جديدا معدلا إلى درجة كبيرة.
فنجده يقول كذلك:
لا طـــــاب عيــــــش أو ســــــرور
بيــــــن المذلـــــــــة والثبــــــــــــور
لو كان حتـــــى فـــــي القصــــور
ســـــــيان عنـــــــــــدي والقبــــــور
إن الفراغ الوجودي هو الأثر الناتج عن إحباط إرادة المعنى أو فقدانها، والفراغ الوجودي ليس شيئا آخر غير الاغتراب، فالمغترب حياته تتسم بالخواء، وفقدان الشعور بأن الحياة ذات معنى، ويفسر الفلاسفة انتشار حالات الفراغ لأسباب بعضها تاريخي وبعضها يتعلق بظروف المجتمع المعاصر.
إن الكثير من الأعمال الأدبية قد لعبت دوراً في تشكيل وعي أخلاقي في المجتمع وإن دورها في قارئها واضح، وإن المتلقين يتأثرون بعوامل اجتماعية تؤثر فيهم وهي: الثقافة الشاملة لحضارة معينة والثقافة القومية والماضي القومي والتقاليد ووعي الجماعة أو الطبقة الاجتماعية. وإن الإنسان الغريب يكون مشحونا بالتوتر، ومن ثم فإنه يكون كثيرة الحركة والإشارة والتعامل مع الأساليب المتنوعة، وإن أسلوب التمني والاستفهام يكتسب معنى آخر يتجاوز المعنى النحوي واللغوي العادي إلى معنى ثالث أو رابع، إلى الدلالة المشحونة بالانفعال والإحساس الإنساني.
يقول:
لم يكن هذا الحزين
انطوائيا، يذيب الروح في ظل السكون
أو نباتيا، ولم يأكل لحوم الآخرين
هو مثل العابرين
في الدروب تغريه وجوه الآخرين
فالقيمة هي كل ما هو جدير بعناية الفرد وتقديره، والقيم ذات طابع روحي أخلاقي تمثل ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان بما هو إنسان، وهذه القيم عندما يحتضنها الفرد تمثل بالنسبة له تفضيلات تملي عليه اختيارات معينة أو توجها معينا من بين توجهات أخرى متاحة، توجها يراه الفرد جديرا بتوظيف إمكاناته المعرفية والوجدانية والسلوكية. والمغترب ليس مفتقدا للقيم بل لديه كثير من القيم التي يعاني من أجلها لكنها قيم تناقض قيم المجتمع كما أنه عاجز عن تحقيقها سواء في سلوكه الشخصي أو الواقع الذي يعيشه، فالاغتراب ينشأ نتيجة التعارض بين بنائه القيمي الخاص والبناء القيمي للمجتمع.
والشعور بالعزلة والغربة خاصة من خصائص الرومانسيين، فالرومانسية تطرح قضية العلاقة مع الآخر بكثير من الاهتمام والإلحاح، فالرومانسي ينطلق من الأنا، ويتمسك بحريته، بل بحقه في الاختلاف عن الآخرين، كما يعتبر الفرد قادرا على التمييز والإبداع، ولأنه يرى الفن إلهاما، إذن لابد أن يكون الفنان متميزا متفوقا وهذا التميز يولّد لديه الشعور إلى عالم أسمى، والغربة عن العالم الذي يعيش فيه، ويعزز هذا الشعور بالغربة انتماؤه إلى عالم الحلم والخيال والشعور بدنية عالم الواقع، لذا تصوير الغربة من الموضوعات العزيزة على قلب الشاعر الرومانسي.
يقول:
تعبر الشارع.. غيما عبر آفاق الخريف
تختفي خلف ابتسامات ولكن هناك
صرخات داميات وأنين
فإننا نجد من خلال الصور المعين الإنساني المشترك، وإذا كانت غاية الشعر هي إحداث التأثير في النفوس عن طريق التخييل، فإن ذلك لن يتحقق إلا بمقدار ما يذوب الشكل في المضمون أو المضمون في الشكل. والشاعر أحمد أمين المدني عاصر تحولات بيئية واجتماعية واقتصادية وسياسية في المنطقة، فكان طبيعيا أن يتأثر وينعكس ذلك على شعره، فالشاعر يتمتع بقدر عال من الحساسية أكثر من غيره، إضافة إلى التوتر الناجم عن البحث في الشخصية الحقيقية للإنسان الخليجي الذي تأثر في ذلك الوقت التأثر الكبير بالقوميات العربية، لتشابه الظروف، والذي تأثر كذلك بالشعراء في الأصقاع العربية الذين سبقوه في النهضة الأدبية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©