تخيّل معي الآتي: شاعرة شابة في بداية مشوارها الأدبي ولها إصدار شعري وحيد، تجرّأت وشاركت به في مسابقة أدبية مرموقة، لتجد كتابها الأوّل هذا يدخل القائمة الطّويلة للجائزة لينافس كُتَّاباً وشعراء كباراً لهم ثقلهم الأدبي المعروف. فتبدأ الشكوك تساورها في الحصول على شيء من هذه المنافسة غير المتكافئة، لكن بعد قليل يصعد كتابها إلى القائمة القصيرة للجائزة، ويوم إعلان النتيجة تفاجأ باسمها يتردّد من مكبرات الصوت في الحفل المهيب بوصفها: صاحبة أفضل مجموعة شعرية صدرت في لغتها الأم هذا العام!
هذا عن التخيُّل، أما الواقع الحقيقي فربما فاق ما في التخيّل من سعادة، يقول الخبر الصحفي: فازت الشّاعرة الهولندية الشّابة رادنا فابياس (مواليد 1983)، عن مجموعتها الشّعرية الأولى «هابيتوس - Habitus» بجميع الجوائز الشّعرية الكبرى التي تُمنح للشّعر المكتوب باللغة الهولندية في عام واحد. بعدما حصلت على جائزة «الشِّعر الكبرى» الهولندية مؤخراً، وهو الاسم الجديد لجائزة VSB الشّعرية العريقة. وبهذا تكون فابياس أوّل هولندية تحصد جميع الجوائز الكبرى للشِّعر في هولندا عن ذات المجموعة، حيث سبق لها الحصول على ثلاث جوائز هي على التوالي: «آفاتار»، «هرمان ده كونينج»، وجائزة «سي بودينغ»، وتعدّ قيمة الجائزة المالّية الأخيرة هي الأعلى التي تُمنح لمجموعة شِعرية في نطاق اللغة الهولندية، وتُقدَّر قيمتها بـ 25 ألف أورو.
في المجموعة الشِّعرية الأولى لها، والتي ظلّت صاحبتها تعمل عليها لعشر سنوات كاملة، تدخلنا رادنا فابياس إلى عالم سردي يحمل الكثير والكثير من السّيرة الذّاتية والثّقافية - إن جاز لنا التعبير - لصاحبتها، حتى أنّنا نشعر في لحظات عديدة بالغرق في عالم جزر الأنتيل الذي ترصده الشّاعرة بعين تشكيليّة لم تعرفها اللغة الهولنديّة من قبل. وليس من قبيل المصادفة أن يكون غلاف المجموعة أسود اللون مع وجود أربعة ثقوب متباينة الحجوم في الغلاف الأمامي للمجموعة، فالصّوت الغالب على القصائد هو صوت أسود لامرأة وحيدة ومهاجرة، صوت غاضب لامرأة تتّخذ في قصائدها من السّردية والتّداعي والغناء، وحتى التّجريدية والرّمزية أحياناً، سُبلاً، لتقدّم لنا سبيكة لُغوية عنيفة وصادمة في أحيان كثيرة، وهو ما يتجلّى مع أوّل قصائد المجموعة، والتي حملت عنوان «مشهد افتتاحي».
حدود السّخرية اللاذعة
مع أوّل قصائد المجموعة التي وُصفت بأنّها «زلزال شعري» حظيت به اللغة الهولندية، تستعيد رادنا فابياس الكاريبيّة لحظات استقبال هولندا لها بلا رحمة. هي المولودة بجزيرة «كوراساو» إحدى جزر الأنتيل، والواقعة جنوب البحر الكاريبي مقابل فنزويلا، وتتبع سياسيّاً المملكة الهولنديّة، قبل أن تنتقل وهي في السّابعة عشر من عمرها إلى مدينة أوتريخت الهولندية لدراسة الفنون. هي اللاتينيّة ابنة المناخ الكاريبي الذي لا يعترف بالحياة الماكينيّة المتطوّرة في مدينة كبرى مثل أوتريخت الهولنديّة. من هنا يأتي صدام الشَّاعرة المبكّر مع مدنيّة هولندا، البلد الذي احتلّ جزيرتها وامتلكها حتى يومنا هذا.
تتقاسم الجزيرة الكاريبيّة التي ولدت الشّاعرة فيها إذن مناخات المجموعة الشِّعرية ومسرحها مع مدينة أوتريخت. حيث كلّ شيء يخضع لدى رادنا فابياس إلى المقارنة بين ما نشأتْ عليه «هناك» وما تعلَّمته «هنا»، وهو ما يرفع من مستوى القصائد في أحيان كثيرة إلى أن يصل إلى حدود السّخرية اللاذعة من رؤية الهولنديين للشّعوب الأخرى، وتحديداً من أصحاب البشرة الملونة، ومن ثمّ تنبني في مخيّلة قارئ المجموعة، وقصيدة بعد أخرى، هذه الحّدة السّياسيّة التي تتجلّى في قصائد فابياس، والتي تشير فيها بوضوح إلى أزمتها كصاحبة بَشرة مُلوّنة في المطارات الهولنديّة، فترصد تشكّك موظّفي الأمن «المحميّين ببياض بشرتهم» في الأجانب وذوي البشرة السّوداء مع كلّ عملية تفتيش في المطارات، هذا الاستعلاء الأمني الذي يجعل الشّاعرة تتعامل مع نفسها في بعض قصائدها المترجمة هنا على أنّها إرهابية مُحْتملة، ستلجأ إلى اتخاذ رجل كرهينة للتّمكّن من دخول هولندا!
تقول رادنا فابياس في حوار صحفي نشر بعد حصولها على جائزة الشّعر الكبرى الهولندية مؤخراً، أنّها ظلّت تعمل عشر سنوات على مشروع مجموعتها هذه، كانت خلالها تجمع المعلومات وتجري الحوارات مع أمّها وأقاربها من نساء وعجائز جزيرتها الكاريبيّة، حول رؤيتهم لكلّ شيء، للحياة والحبّ والفقر والغربة، لذلك ربّما نجد منحى فلسفياً آخر في قصائد المجموعة، التي تطغى عليها الهموم النّسوية ذات الصّوت العالي أحياناً كثيرة.
في قصائد فابياس ثمّة دائماً صوت تأمّلي لكنّه عنيف، بحّة مجروحة تؤلمنا. ورغم هذه الحدّة في الكتابة، ترصد الشّاعرة التّفاصيل الحيّة والموجعة في المشهد الذي تكتبه بحسٍّ تخريبي ساخر، ويبدو لي أن هذا الحسّ السّاخر كان الوسيلة الأمثل التي اصطفتها الشّاعرة في مجموعتها الفارقة، لتستكشف من خلالها، وبشكل نقدي جريء، قضايا أصيلة لديها كالبحث عن الهويَّة والجذور والاغتراب والوحدة والعلاقة بين الرّجل والمرأة، وما يدخل ضمن ثنايا هذه المفاهيم من سُلطات مجتمعيّة أو حتى أُسَرّية، مروراً بقصائدها المقنَّعة في نهاية المجموعة، والتي تصوّر من خلالها الشّاعرة المقاربة الهولنديّة العامّة للمهاجرين بطريقة لاذعة لكنّها موجعة، وصولاً إلى أبسط المشاهد اليومية التي نعبر بها دون أن نلتفت إليها.
شاء الحظّ أن يولد صوت رادنا فابياس الشِّعري في مجموعتها الأولى كبيراً، أو بالأحرى شاءت «الموهبة»! فأين هو الحظّ من شاعرة لم تنشر سوى قصائد معدودات قبل أن تكتسح اللغة الهولنديّة بمجموعتها الشّعرية الأولى «هابيتوس» في مارس من العام الماضي؟ قبل ذلك لم يكن أحد قد سمع باسمها، لكن بمجموعتها التي توّجت بجميع جوائز الشِّعر الكبرى في اللغة الهولندية، وضعت رادنا فابياس اسمها عالياً في الشِّعر الهولندي الجديد، وللسّبب ذاته، صعَّبت على نفسها خطوتها الشِّعرية المقبلة.
فصل اللحم عن العظم (مختارات شعرية)
* مشهدٌ افتتاحي
أخلعُ حذائي في المطار
حزامي، ولو سُئلت
فبنطالي أيضاً
تركتُ نفسي للكلاب تتشمّم الأسلحة
التي ثبَّتُّها تحت أناملي
هناك أيضاً
احتفظت بلسعة الفن المتسارعة
أبدو أنيقة وشَعري على ما يرام
ابتسمتُ كنعجة تنظر إلى أسفل
القناع مُعلَّقٌ بمطَّاط
مشدودٌ خلف أُذنيَّ
* آدم يستحم
صباح الأحد بساحة الكنيسة
الخريف في المدينة.. هناك ورقة سقطت
لأن المصادقة أُلغيت لسبب حُكوميٍّ، أَحْملُها
وأُجفِّفُها محتفظة بها
لأكتب عليها جملة تليق بحقيبته الأنيقة
انتشلَ آدمُ نفسه من الغرق
جيّد ما فعل، كم هو نظيف الآن
لديه ستّة أقنعة
يرتدي إحداها الآن
ذلك الذي أحضره من الصّحراء
حيث كان وحيداً وسليماً
ولا يزال جافّاً
* كُمثرى للطّهو
gieser wildeman هي كمثرى للطّهو
وأنا امرأة
هذا هو سقف بيت عمره ثلاثمائة عام
وأنا امرأة
هذا هو السّائل الغائم
الذي ينزّ من بين شفتي ثمرة خوخ إسباني
ولسوء الحظّ صرت أنا السّائل وثمرة الخوخ
وكلّ ثمرة أخرى، ليّنة، حلوة
ناضجة في يديّ
لأنّني امرأة
وهذا هو الإطار الخارجيّ
لنظّارة رجل متوسّط الذّكاء،
لكنّني امرأة ومُكتفية بنفسي
لا يوجد فراغ بداخلي
صحيح هناك مكان للاختباء وغرفة أماميّة وغرفة انتظار
ومساحة أستطيع فيها استقبال أحد ما:
رجل
بداية طفل
أصابع امرأة
ورغم هذا أنا مُكتفية بنفسي،
لا تهمّني كمْ نظريّة ما بعد حداثيّة
يمكن رؤيتها مُعلقَّة حولي: فأنا امرأة
ويمكنني التّواجد جوار رجل
ولكن الرّجل ليس جسداً
الرَّجل ليس طنين نغمات آلة باص
ليس صوتاً منخفضاً،
ليس أذرعاً غليظة ولا أصابع قاسية أو جلداً سميكاً
ليس لحية
الرّجل ليس لحية وليس مَطْهَراً أيضاً
ليس قَدَراً
الرّجل ليس بيتاً للعيش بداخله
ليس سريراً للنّوم عليه
الرّجل ليس خلق فرص عمل، ليس إلهاءً
الرّجل ليس مُعالجاً نفسياً للعُمّال وليس حصاناً أصيلاً
الرّجل أكثر من عينين عاشقتين في ليلة مسروقة
ليس حقيبة سيّارة خلْفيّة، ليس ضوءاً وامضاً
ليس انحناءة عميقة أمام صليبي
الرّجل لديه أيضاً مشاعر
يفكِّر أيضاً
يتألَّم
أحياناً يعرف حتّى لماذا يتألّم!
الرّجل ليس خطّاف ذبائح
ليس سكِّين فصل اللحم عن العظم
ليس بندقية
ليس ماركة حديد ملتهبة، وليس كتاباً مقدّساً
الرّجل ليس سلاحاً ولا هِوَاية
الرّجل ليس هِوَاية
الرّجل ليس هِوَاية
الرّجل ليس هِوَاية
الرّجل ليس عقوبة
وليس عرشاً لتعتليه بساقين متقاطعتين كسيّدة
أنا لست سيّدة
انا امرأة.
* في الماضي
اصْطدم وزنُ سيّارة مسرعة على الأسفلت
بجسم كلب
واستمرّ السّائق في القيادة لأنّه غير مُؤَمّنٍ عليه
مع انبعاج في سيّارته على شكل كلب
نازع الكلب لوهلةٍ
يُداس الآن وهو يحتضر مرّة بعد أخرى
تحت السّيَّارات المتعاقبة
ارتفع صوت تكسُّر قوائمه
إلى السّماء الزّرقاء النّقية فوق الأسفلت
حيث لا يزال الكلب المحتضر راقداً
هنا لفظ الكلبُ حياته مُتنهّداً
الكلب الميّت يرقد الآن في الهجير
يبدو كما لو أنّه نائم
الآن يتورّم
كأنّه يعاني من زيادة في الوزن
واثنتان من قوائمه المهروسة
تواجهان السّماء
انتفخ الكلب
والآن انفجر انتفاخه
قفزت أحشاؤه ساخنة من جسده
صار الكلب الميّت قذيفة مفرغة
جثّته المهروسة تبدو الآن كأنّها
كيس دم مضغوط وفارغ
أو لباس متَّسخ
ترتفع الرّائحةُ الكريهة إلى السّماء الزّرقاء النّقية فوق الأسفلت
حيث الكلب الميّت
لا يزال راقداً
الكلب
المحاط الآن بالذباب
* القواعد الرّئيسية للانتقام
سمّ الشّيء باسمه: وحْش
وضَعْ تاجك
تعلّم كلّ شيء عن التّغذية الإجبارية
وضَعْ تاجك
اصنع دمية من القماش
وامنحها ثلاثة أرجل
شاهدها تحجل
وضَعْ تاجك
دع الغضب يغلي عشر سنوات على الأقلّ
دع أظافرك تنمو
ابتلع الكثير من الكالسيوم
وغادر البرج
هذب الأظافر كلّ ليلة
لتجدها عند الاستيقاظ - بهدوء –
وقد أصبحت مخالب حادّة
وضَعْ تاجك
شقَّ التنين نصفين بمخلبك
(مدبّب، مثير، حادّ ولاذع)
ارتدِ زيَّ احتفالاتك البرّاق
وقُل:
«لكن لديك كلمات، أيُّها الوحْش، فاستخدمها»
وضَعْ تاجك
هنا دعه يقرفص
دعه يسعل حتى يتقيَّأ
ما لم يكن منه.