28 سبتمبر 2011 22:18
في “حيدر”، المسرحية القصيرة التي من أربع شخصيات، للشاعر والقاص وكاتب والسيناريست البحريني أمين صالح، وصدرت لهذا العام ضمن كتاب “نصوص مسرحية بحرينية” عن منشورات دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة ضمن سلسلة “مسرحيات عربية”.. في هذه المسرحية يلاحظ القارئ أمرين أو فكرتين أساسيتين تداهمان الوعي مباشرة منذ الشروع في قراءة النص: كما لو أنه هناك حضورا طيفيا للشخصيات، بمعنى انها ليست موجودة سوى في ذِهن الشخصية الرئيسية “حيدر”، بالطبع ليس من باب السعي إلى استكمال عناصر هذا العمل أو الرغبة في الالتزام بأصول وقواعد كلاسيكية في الكتابة المسرحية. بل تتحدد وظيفتها ومبرراتها الفنية بهذا الحضور الذي يجعل من الصراع الدرامي وتوتراته شديدة الحضور في الأبعاد النفسية للشخصية في حين هي تدفع بها إلى بؤرة الإشكالية المسرحية أو عقدتها الأساسية:
“حيدر: أنت؟ أرجوك لا تعاقبني اليوم، لم أخطئ .. لم أرتكب إثما.. الذنب ذنب الكوابيس التي تطلع لي لا أعرف من أين.. أنام لكي أحلم لكن يطلع لي الكابوس، فأصحو خائفا وأنا أصرخ. عندئذٍ تأتي المرأة وتوبِّخْني، ولكي أتفادى عقابها أظلّ يقظا طوال الليل”.
أما الأمر الآخر فهي الأحلام، التي هي أحلام يقظة أيضا، إذ أن شخوص الواقع هي تقريبا شخصيات العمل المسرحي، على هذا النحو أو ذاك، غير أن هذه الأحلام ذاتها تمثل جدارا فاصلا بين الشخوص والشخصيات، ما يعني في نهاية التحليل أن شخصيات الواقع هي شخوص تترد على الأحلام الكابوسية لـ”حيدر”:
الطبيب: لماذا لا تجلس؟ (حيدر يتجه إلى الكرسي).
سأجلس لِمَ لا؟ ومن الذي سيمنعني.. أنت؟ لا أخاف منك ولا أخاف من الممرضة.. (حيدر يجلس ويدنو برأسه من الطبيب، كما لو يخشى أنْ يسمعه أحد).. بيني وبينك الممرضة مخيفة.. لها ذيل.. لو تنظر بتمعُّن أسفل ثوبها من الخلف فسوف ترى ذيلا.. يتحرك.. هكذا.. (حيدر يحرك أصبعه كما لو يقلِّد الذيل).
وبحسب الديكور مرسوما من قِبَل الكاتب في مستهل النص الأدبي للمسرحية، فإن الوعي الأول يقودنا إلى حالة مرضية عقلية صعبة، تتجسّد في “حيدر”، تتعامل مع العالم والمحيط والبيئة بعسر، في حين هو ـ أي العالم ـ يبادلها المعاملة ذاتها. أيضا المكان الذي هو مكان للفحص السريري وكذلك الاسترخاء على السرير وإتاحة الفرصة للتحدث عن ما هو دفين وكامن في الطوايا العميقة للشخصية.. هذا كله بوصفه المستوى الظاهر للعمل أو مستوى القراءة الأولى له يشير إلى شخصية معَذَّبَة في مستشفى للأمراض العقلية تقول الهذيان على أنه الحقيقة القاطعة، ويدركه القارئ بدءا من الصفحات الأولى من المسرحية كما سبق ذكره.
هذا كله يتيح لمخيلة القراءة أن تفتح أبواب التأويل، فالنص الأدبي لـ”حيدر” ليس مسرحية كلاسيكية والمكان هو اختزال لأمكنة أخرى والشخصيات ليس كلها سوى شخصية واحدة هي شخصية “حيدر” وقد تشظتْ وتفتتت وقَبِلَتْ القسمة على أكثر من شخصية أخرى في العمل ذاته، وكذلك هو الحوار القائم على الإشارة والإلماح والواقعية المكتملة الجوانب ليقود ذلك كلّه إلى ما يعرف في المسرح وتياراته المعاصرة بمسرح العبث أو اللاجدوى أو العدم بحسب الترجمات العديدة إلى العربية.
هكذا فالنص الأدبي، بوصفه معمارا وبنية، يقيم إلى جواره معمارا وبنية أخرى إذا كانت الذات التي تمارس القراءة هي ذات مخيلة إخراجية، حيث تتعدد هذه القراءة وتختلف من ذات إلى أخرى.
أيضا، لأن النص الادبي للمسرح يختلف عن أي نص أدبي آخر لجهة غمكانية تحويله المباشر من نص للتلقي عبر القراءة إلى نص من الممكن تخيّله نصا بصريا أو إقامته بالفعل كنص بصري يمكن تلقيه من قِبَل الجمهور على هذا النحو، فإن “حيدر” من الممكن تأويله بصريا كذلك، فهو لجهة المكان إذ يمثل مستشفى للمجانين فإن من الممكن أن يكون غرفة للتعذيب دون أن نرى سوطا أو نسمع صوت فرقعته بل دون أنين الألم، بل يكفي الخوف وحده كي تبرز معاناة الإنسان الفرد في مواجهة مصيره الخاص الذي لا فكاك منه أبدا. أيضا من الممكن أن يكون ساحة قتال أو حلبة سيرك أو محطة قطار بل من الممكن أن يتحول إلى سيناريو لفيلم سينمائي روائي قصير ومكثف ضمن معالجات خاصة تنزع إلى طرح الأسئلة الكبرى التي تطرق جدران وعي الإنسان عبر العصور ومن خلال قصص معاصرة وراهنة في تفاصيلها وانشغالاتها واهتماماتها.
ولعل ما يعزز من ذلك أن الشخصيات في حدّ ذاتها متقلِّبة على صعيدين: إن طبيعة الحوار ونبرته لدى الشخصيات “حيدر” والطبيب والمرأة لا تسير ضمن مستوى واحد من الفعل المسرحي، فالطبيب، على سبيل المثال، يتحوّل الحوار لديه من نقاش بين طبيب ومريضه إلى حوار يديره ويتحكم بمفاصله محقِّق في لحظة ما ثم تنعكس هذه الصورة في لحظة أخرى ضمن مستوى آخر. وهذا ما يحدث بالفعل مع المرأة أيضا.
أما الجانب الآخر فكما لو أنه قادم إلى النص الأدبي المسرحي لأمين صالح من جهة أنه كاتب سيناريو أيضا، إذ يأخذ الطبيب أيضا دور الأب لينقلب بعد ذلك إلى دور المدير وكذلك هي المرأة التي تاخذ دور عجوز يمضي في صحبة الموت لتعود امرأة أكثر شبابا.
ما يعني أن إمكانات النص الأدبي لـ”حيدر” مركّبة وعديدة وغنية وشديدة الحساسية للتأويل وإعادة التشكيل وفقا للثقافة البصرية للقارئ.
كذلك، إذا كانت اللغة بوصفها جُملة بُنى تركيبية ونحوية مباشرة تماما أو قابلة للتأويل أم واضحة من الممكن فهما من المرة الأولى أو تحتاج إلى مستوى ثقافي ذي حدّ أدنى، فإن “حيدر” تتوفر على ذلك كله، إنما ليس تبعا لكل شخصية فتقول إنه هذه الشخصية مثقفة أكثر من سواها بدلالة استخدام لغة عسيرة وموضوعات أقرب ما تكون إلى الطرح الفكري والمقولات الجاهزة؛ هي هنا لغة تتطور غالبا مع حدة التوتر الدرامي الناشئ بين الشخصيات في مفاصله الأساسية التي ترقى إلى مستوى الصمت أحيانا، لكنها بالمجمل لغة تنزع إلى الاختصار وليس الغموض أو الانغلاق على الرغم من ميلها إلى لغة الشعر أحيانا، كما في هذا المثال:
“حيدر: أرى الغرف تتداخل ببعضها، والأسرّة تطفو، والغيمة تدخل من النافذة، فلا يعود هناك فاصل بين السماء والأرض، والبحر يدخل أيضا إلى الغرفة. كل شيء يتداخل”.
وهذه ليست لغة “جنون” وفقا للمنطق المرضي، بل هي لغة الشعر إذ تمتزج بها لغة الاستشراف التصوّفي مع لغة اللوحة التشكيلية، فالمرء إذ يقرأ هذه العبارات يتخيل لوحات تشكيلية سوريالية الطابع بعينها.
كذلك، على مستوى النص المسرحي ذاته، هي لغة الاختلاف والنفور والنأي عن المجموع والمشي فرادى في الدروب الخشنة إلى الصوامع والمعتَزلات والأمكنة العالية. إنما هذا كله ما يستشفه بوصفه ملامح أو خطوط لشخصية “حيدر” وحكايته مع “الجنون” الخاص الذي أودى بآخرين إلى أنْ يقمعوا الفرد الذي في ذواتهم ويحيلونه إلى شيء من الهلام الذي بلا ملامح والممسوخ إلى حدّ غياب الشخصية والعاجز عن الفعل فكيف هي الحال ببناء تصوّر راسخ عن الذات يحدد الملامح بإزاء الآخرين.
بين فنون الكتابة
أمين صالح كاتب ومثقف من البحرين وهو قاص من طراز خاص جعله من القاصين المعروفين على مستوى الثقافة العربية. وهو من مواليد 1950، يكتب القصة القصيرة والرواية والسيناريو. وهو مترجم، ومهتم بالسينما بشكل خاص وقد كتب قصة وسيناريو أول فيلم روائي في البحرين “الحاجز” وله العديد من الأعمال التلفزيونية في مجال الدراما والمنوعات.
ترجمت قصصه لبعض اللغات الأجنبية. وصدر له من الكتب:
هنا الوردة، هنا نرقص 1973، الفراشات 1977، أغنية ألف صاد الأولى 1982، الصيد الملكي 1982، ترنيمة للحجرة الكونية 1994، السينما التدميرية تأليف أموس فوغل (ترجمة)، الطرائد 1983، ندماء المرفأ، ندماء الريح (نصوص) 1987، العناصر (نصوص) 1989، الجواشن (نص مشترك مع قاسم حداد) 1989، مدائح (نصوص) 1997، وسواها من كتب النقدية في الحقل السينمائي وكذلك الرواية وما يعرف بالنص المفتوح خلال السنوات العشر الماضية.