الأحد 4 مايو 2025 أبوظبي الإمارات 33 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«جسر الحكمة» بين حضارتين

«جسر الحكمة» بين حضارتين
28 سبتمبر 2011 22:15
في دراسته عن “آفاق التواصل الثقافي بين العرب واليابان في المرحلة الراهنة”، التي نشرها “الاتحاد الثقافي” في العدد الماضي، استعرض الدكتور مسعود ضاهر أهم المفاصل التي ميأت جهود أجيال المستعربين اليابانيين، والقضايا العربية أو المشتركة التي شغلتهم، مبينا تعاطفهم مع العرب في قضاياهم العادلة. في هذه الحلقة تستعرض الدراسة عوامل التأثير في ما يسميه الحوار الثقافي العربي الياباني، سواء من داخله أو من خارجه. أبرزت هذه الدراسة أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين شهد اهتماماً متزايداً من جانب المستعربين اليابانيين والعرب بالتبادل الثقافي بين الجانبين. وتنظم سنوياً سلسلة مؤتمرات ثقافية بين الجانبين تتميز بالابتعاد عن المقولات الاستشرافية السائدة. فهي تقدم تاريخ شعوب الشرق الأوسط وثقافاتها بعيون يابانية وليس غربية. ونبهت إلى وجود مجالات واسعة للتعاون المثمر بين المستعربين اليابانيين والباحثين العرب المهتمين بتطوير العلاقات العربية - اليابانية في المجالات الأكاديمية، والثقافية، والفنية، وبناء فضاء ثقافي آسيوي مشترك تتحدد فيه معالم الثقافات الآسيوية، ومنها العربية، المؤهلة لبناء قرن آسيوي بامتياز، والمشاركة في قيام عولمة أكثر إنسانية. لعب الباحثون اليابانيون دوراً أساسياً في إقامة حوار ثقافي عميق حول أفضل السبل الواجب اعتمادها من أجل الارتقاء بالعلاقات الثقافية المشتركة مع العرب نحو مستقبل أفضل. وفتحوا الباب واسعاً لمزيد من الأعمال الثقافية المشتركة عبر الجامعات والمؤسسات الثقافية العربية واليابانية التي عززت جوانب الحوار بطرق متعددة. وبقدر ما كانت تتسع دائرة التبادل بين العرب واليابانيين في المجال الاقتصادي، كانت تبرز إمكانيات موضوعية جديدة لتعميق الروابط الثقافية بينهم، وفتح حوارات متقدمة إلى أن بلغت مرحلة التخطيط المنظم لمواجهة تحديات العولمة عبر مشاريع ثقافية مشتركة. ومع تزايد عدد المستعربين اليابانيين والمهتمين بقضايا الشرق الأوسط ونزاعاته المزمنة، بات من الصعب تجاهل الدور المتزايد للباحثين اليابانيين في توجيه العلاقات الثقافية بين العرب واليابانيين. وذلك يتطلب من الباحثين العرب تشكيل مجموعات متخصصة بالدراسات اليابانية، ومعرفة كيفية إعداد المستعربين اليابانيين، والدور المنوط بهم لفهم المجتمعات العربية وتعزيز الروابط الوثيقة مع الباحثين العرب. وذلك يحتاج إلى دراسات معمقة ومطولة تتسع لمناقشة تطور المقولات النظرية التي تبلورت عبر الدراسات اليابانية في مرحلتي التضامن مع القضايا القومية التحررية العربية، والدراسات الأمبيريقية المحايدة. أبحاث شمولية جل ما يمكن إيجازه في هذا المجال أن الدراسات اليابانية عن العالم العربي بدأت بأبحاث شمولية تأثرت كثيرآً بالمقولات النظرية حول ضرورة الربط بين خصائص التاريخ الفرعي في إطار التاريخ العالمي. وبرزت سمات الاستعراب الياباني عبر رواد الجيل الأول الذين تعلموا في الدول العربية وعايشوا الأحداث الكبرى في تاريخ العرب المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد ساهموا في توليد جيل ثان من المستعربين الشباب الذي أتقنوا إلى جانب العربية لغات عدة، ونشروا دراسات معمقة في مجال التاريخ العربي، والتراث الإسلامي. وتشهد معظم المؤتمرات الدولية التي تعدها الجامعات والمعاهد اليابانية عن القضايا العربية والإسلامية حضوراً ملحوظاً للباحثين العرب. مما ساهم في تعزيز دور المستعربين اليابانيين المناصرين للقضايا العربية. بعد أن ترجمت كثير من المصادر العربية الأساسية إلى اليابانية، تطورت الدراسات العربية في اليابان لتصبح نموذجاً خاصاً من الاستعراب العلمي الذي يسعى إلى التمايز النوعي عن الاستشراق الغربي. بالمقابل، هناك مجموعة أخرى من الباحثين اليابانيين الجدد الذين يرفضون مصطلحات الاستعراب، أو حتى الاعتراف بمصطلح “الدراسات العربية في اليابان؛. وهم يفضلون صفة الدراسات الشرق أوسطية على الدراسات العربية أو الإسلامية، ويتلقون الدعم الكافي من مؤسسات يابانية ودولية، ومنهم من تصله دعوات دورية من مؤسسات إسرائيلية. كما أن بعض الباحثين من الجيل الجديد في اليابان لا يعترفون بوجود دراسات عربية بحتة في اليابان بل يشددون على تسمية الدراسات الشرق أوسطية بالتزامن مع تسمية الدراسات الإسلامية في اليابان. ويدمج بعض الباحثين اليابانيين بين تاريخ فلسطين وإسرائيل/ وأبرزهم الباحث كازوماسا أوهيواكادوا Kazumasa Ohiwakwa الذي يعتبر مؤسس هذا الاتجاه الذي يدمج بين فلسطين وإسرائيل في عنوان واحد نشر عام 1966 دراسة عن فلسطين/ إسرائيل هاجم فيها النظرة الدينية الضيقة لتاريخ البلدان. وإنطلق فيها من مقولة نظرية ترى أن إسرائيل الحالية ليست جزءاً من التاريخ اليهودي فحسب بل جزء لا يتجزأ من تاريخ غرب آسيا المعاصر. وليس هناك تاريخ مستقل للعرب واليهود على أرض إسرائيل/ فلسطين بل تاريخ مشترك من العلاقات المتبادلة والعميقة. وانتقد في دراساته المقولات المتشددة في كل من القومية الصهيونية والقومية العربية لأنها التي تمنع كتابة تاريخ علمي لجدلية العلاقة الجغرافية بين فلسطين وإسرائيل، والتاريخية والدينية والسكانية بين العرب واليهود. وهذا المنحى خطير جداً لأنه يطمس، عن وعي أو دون وعي، هوية فلسطين التاريخية العربية في المرحلة الراهنة. يعتبر أن الصراع العربي - الإسرائيلي تحول إلى صراع فلسطيني - إسرائيلي فقط ينتهي بقيام دولتين بهويتين مختلفتين قومياً ودينياً، وتتعاونان معاً لضمان المصالح المشتركة بين فلسطينيين وإسرائيليين يقيمون على أرض واحدة يدعي كل منهما امتلاكه لتاريخ خاص عليها. علماً أن تلك المجموعة لم تستطع حتى الآن أن تظهر انحيازها بالكامل إلى جانب إسرائيل، خشية أن تصاب بالعزلة داخل تيار المستعربين اليابانيين المنصفين، وهو تيار ما زال قوياً وفاعلاً. نخلص إلى القول إن المستعربين اليابانيين الأوائل اتخذوا مواقف عقلانية منصفة من القضايا القومية التحررية العربية، وفي طليعتها الصراع العربي - الإسرائيلي. لكن استمرار الحضور القوي لهذا التيار يستوجب بناء استراتيجية عربية عقلانية تجاه المستعربين في مختلف أنحاء العالم، وبشكل خاص في الدول الآسيوية كاليابان والصين وكوريا والهند. فهم يواجهون هجوماً منظماً من إسرائيل والدول المساندة لها. وقد نجحت في استمالة عدد متزايد من المستعربين اليابانيين الجدد. كما أن تجاهل المؤسسات الثقافية العربية لدور المستعربين اليابانيين أضعف التيار المناصر لقضايا العرب في اليابان. فتراجع دورهم كثيراً لصالح جيل جديد من المستعربين اليابانيين الذين ينظرون إلى القضايا العربية بصورة أكاديمية باردة تحت ستار من الحياد والاهتمام بالدراسات الميدانية. وتشهد المرحلة الراهنة نهاية جيل الرواد الكبار من المستعربين المناصرين للقضايا العربية. بعد أحداث 11 أيلول 2011 اتسعت دائرة التحريض الغربي ضد العرب والمسلمين، وأعيد نبش مقولات عنصرية في إطار مقولات غير عقلانية منها “صراع الحضارات”. فسارع مفكرون يابانيون إلى التقاط اللحظة الملائمة لفتح حوار واسع ومعمق مع العرب، ورفضوا المقولة الغربية التي تصف العرب أو المسلمين بالإرهابيين لأنهم من أكثر شعوب العالم التي خضعت للإرهاب بكافة أشكال. وبادروا إلى فتح حوار ثقافي مع العرب في أكثر من ندوة ومؤتمر سنوي في مسيرة مستمرة منذ العام 2011 بوتيرة متصاعدة. ومهد لها الأستاذ في جامعة طوكيو يوزو إيتاغاكي Yozo itagaki لمسيرة الحوار الثقافي المنتظم بين العرب واليابانيين بمحاضرة في جامعة البحرين بتاريخ 21 تشرين الأول 2011 تحت عنوان: “الحوار بين الحضارات: وجهة نظر يابانية في الاستراتيجية الحضارية”. شدد فيها على ضرورة تعزيز الحوار بين الحضارات الإنسانية، بمشاركة مفكرين يابانيين ومن مختلف دول العالم العربي والإسلامي. وأولت السلطات اليابانية أهمية استثنائية للمسألة الثقافية مع العرب وباقي الشعوب الإسلامية بعد المخاطر الجدية التي رافقت التهديدات الأميركية بمعاقبة العرب والمسلمين واتهامهم بتصدير الإرهاب الدولي. ورأت اليابان أن من واجبها تبني سياسة عقلانية تنطلق من مسؤوليتها الأخلاقية في لجم التوتر على الساحة الدولية. فالإرهاب يستدعي الإرهاب. ولا بد من إيقاف هذه الحلقة المفرغة من الموت العبثي الذي يودي بحياة المواطنين. وحذر الباحثون اليابانيون من استخدام الغرب لمقولة الصراع الحضاري ضد الإسلام خاصة بعد أن بدأت تظهر أشكال من العنصرية ضد المسلمين تجلت بنوع من المضايقة التي مورست ضدهم حتى داخل اليابان نفسها. وقدموا أدلة تاريخية دامغة علي أن الإسلام شجع على حياة مدينية يتعايش فيها أناس ينتمون إلى ديانات وثقافات مختلفة. العلوم والتراث في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تطور الحوار الثقافي بين العرب واليابانيين بصورة مرضية. وكان للباحثين من الجانبين دور أساسي في اختيار محاورها وموضوعاتها. فدعوا إلى بناء “جسر الحكمة” الذي أطلق في مؤتمر الكويت في 11 ـ 12 آذار 2009 بهدف تعزيز الحوار الدائم بين اليابان والعالم الإسلامي. فتكررت موضوعات حوار الحضارات بين الجانبين دون تنفيذ توصياتها. كما أن الحوار الثقافي كان في البداية غير متكافئ بين دولة يابانية عصرية بنت نهضتها على توطين العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة ومراكز الأبحاث العلمية الناشطة، ودول عربية فشلت في توطين العلوم العصرية والتكنولوجية، لكنها تنتسب إلى تراث عربي إنساني لم تعرف كيف تحافظ عليه، أو تستفيد منه في عصر العولمة والثقافة الكونية الواحدة، بيد أنه كان مفيداً جداً على المدى الطويل لأن قنوات التواصل بين الباحثين العرب واليابانيين ما زالت مستمرة بخطى متزايدة من خلال مؤتمرات الحوار الثقافي التي تناقش القضايا ذات الاهتمام المشترك. والحوار البناء هو أفضل وسيلة لمعرفة الرأي الآخر، وتوسيع دائرة التفاهم معه، وتقليص دائرة الاختلاف من خلال احترام خصوصية الآخر، وعدالة قضاياه الوطنية والقومية، وتطوير الحوار الثقافي معه على أسس جديدة تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة، وفتح جميع النوافذ التي تساهم في تطوير الدراسات العربية في اليابان والدراسات اليابانية في العالم العربي، وتعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الجانبين على قاعدة المصالح المشتركة في عصر التبدلات المتسارعة التي يشهدها تاريخ العالم المعاصر. ختاماً، انطلاقاً من خصوصية الثقافة اليابانية ونظرتها الموضوعية إلى الثقافات العربية والإسلامية يمكن القول بأن آفاق الحوار الثقافي مفتوحة الآن على مصراعيها، خاصة وأن تاريخ العرب واليابانيين يقدم الدليل القاطع على وجود حوار دائم مع الثقافات الأخرى، وقد تفاعلوا معها إلى أقصى الحدود. فاحتضنت الثقافتان العربية واليابانية أمهات المصادر الأصلية التي تؤكد على دورهما في حماية التراث الإنساني، وتطويره، ونقله إلى الشعوب الأخرى. وعرف اليابانيون كيف يحافظون على هويتهم القومية، وقيمهم الثقافية الأصيلة التي ما زالوا يفاخرون بها حتى اليوم رغم توغلهم عميقاً في العلوم العصرية، وإبداعاتهم المتنوعة والمعترف بها دولياً في حقول التكنولوجيا، وثورات التواصل، والاتصال، والبيولوجيا، والاكتشافات العلمية. ويرتدي الحوار المنتظم والبناء بين مثقفي الجانبين أهمية استثنائية بالنسبة للعرب في المرحلة الراهنة. فاليابان بلد صديق للعرب، وليست لديها معهم ذاكرة استعمارية أو أطماع من أي نوع كان. وتربطها بهم علاقات اقتصادية وثقافية متطورة باستمرار، واحترام متبادل للتراث العربي والياباني. وهناك دروس كثيرة تولدت عن نجاح تجربة التحديث اليابانية منفردة خارج تجارب التحديث الغربية، واستفادت منها دول كثيرة، كالنمور الآسيوية وغيرها، لتطلق نهضتها بمقولات خاصة بها وليس بتقليد اليابان أو غيرها من الدول الآسيوية. وهي تقدم الكثير من الخبرات النظرية والعملية للنهضة العربية في كيفية إقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة، وتحاشي السقوط في التقليد السهل لتجارب التحديث الغربية أو الآسيوية. * محاضرة ألقيت بدعوة من المركز الثقافي الإعلامي لسمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض