الأحد 20 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحث عن معنى المعنى

البحث عن معنى المعنى
4 أكتوبر 2011 14:37
الرؤية: تصور يستطيع التعبير عنه أديب أو ناقد أو فيلسوف. متخذاً مواقف معينة من قضايا تشغل عصره، بأساليب وطرق مختلفة لها قيمتها الأدبية والاجتماعية والإنسانية، حيث تحقق أقصى حد ممكن من التلاحم بين أجزاء التصور الكلي للمعرفة للوصول إلى نتائج تجانس العصر. ويرى عبد السلام المسدي في كتابه “الأسلوبية والأسلوب” أن “الرؤية”: هي صيرورة واستيعاب يضيف في مدلوله شحنة من الحركة والشمول، ويرى أن الأسلوبية وليدة البلاغة، وأنها تتحدد بدراسة الخصائص اللغوية التي بها يتحول الخطاب من سياقه الإخباري إلى وظيفته التأثيرية والجمالية، ويعني ذلك العدول عن استخدام الحقيقة إلى المجاز في الصوغ البلاغي؛ على أنه يرى “أن الحصيلة الأصولية في مقارعة البلاغة بالأسلوبية تتلخص، أن منحى البلاغة متعالٍ بينما تتجه الأسلوبية اتجاها اختباريا”، ولأنها اختبارية وجدت في ميدان البلاغة مجالا رحبا للتجريب وانتهت باستثمار مقولاتها النظرية في التطبيق بالإتكاء على مصطلحات البلاغة وإنجازها العلمي في وصف أبنية النص الصوتية والتركيبية والدلالية. ودلل على ذلك محمد عبد المطلب في كتابه “البلاغة والأسلوبية” وعليه يمكن القول: إن الأسلوبية اليوم وبعد تعريبها هي فن من أفنان البلاغة؛ ومن قبل كانت “فنا من أفنان اللسانيات” على حدّ وصف “جاكبسون”، ولكن جورج مولينيه يقول: “في البدء كانت البلاغة... وليس من الممكن إخفاء الحداثة الفعلية لهذه البلاغة التي تبحث في الشكل والمضمون”. مقاربات أولية في ضوء هذه المعطيات يمكن إيجاد مقاربة موضوعية بين حداثة الأسلوبية وزمنية البلاغة وعراقتها المعرفية، من خلال جسور الارتكاز التي يقيمها الأسلوبيون على أساس “أن البلاغة أسلوبية القدماء”، وان الواقع اللساني لا ينفك يقر بأن الأسلوبية إنما هي بلورة منهجية لمستويات التعبير البلاغية بعد أن حصر أتباع بالي خصوصية الأسلوبية في فنية الخطاب، وان “علة وجودها اليوم وقف على كينونة الحدث الأدبي” وبذلك وحدت المسار المنهجي مع البلاغة في عنايتها بالجانب الإبداعي للغة، فالبلاغة هي فنية التعبير الأدبي وقاعدة له في الوقت نفسه، وهي أيضا أداة نقدية لتقويم الأساليب وتأليف الخطاب إذ “انتهت إلى احتواء التعبير اللساني كله، وبالاشتراك مع الفنون الشعرية احتوت الأدب جميعا”. وعلى هذا تعد البلاغة المهاد الموضوعي للدراسات الأسلوبية المعاصرة، فهي تعرف دائماً بأنها: “فن الخطاب الجيد” والجودة سمة جمالية، تشكل “الحقيقة اللسانية الوحيدة الواقعية” لتكوين المعنى الذي يؤدي إلى الكيفية الأسلوبية في الكلام الموصفة بلاغياً “بمطابقة الكلام لمقتضى الحال” فالبلاغة نظام لغوي يتحقق في النص، يؤثر على القارئ بإقناعه كما وأنها تؤثر على المتلقي في عملية الاتصال الأدبي. ولأن علوم اللسان تبحث في اللغة، واللغة هي مادة الأدب، والأدب ضرب من ضروب الإبلاغ كانت اللغة الشعرية في المفهوم الألسني: “كلاماً بلاغياً يسعى إلى القيام بوظيفة جمالية، استعملت اللغة فيه استعمالاً خاصاً في مستوياتها الأربعة: المعجمي والصوتي والتركيبي والدلالي”. وهذه المستويات تتمايز وتتآلف في وصف الأساليب لان الخصائص اللغوية بها “يتحول الخطاب عن سياقه الإخباري إلى وظيفته التأثيرية الجمالية” ولذلك كان هدف الأسلوبيين “إعطاء عملهم خاصية منهجية تمكن القارئ من الفهم والتأثر من خلال النسق الفني للأسلوب، مع الوعي بما يحققه هذا النسق من غايات جمالية... تتصل بتنوع لغوي محدد يرتبط بالموقف الكلامي المتاح، بتحليلات تنبع من الصوت، والكلمة والتركيب” وبهذا الوعي قرر البلاغيون: “أن اللغة تجري مجرى الموضوع لصناعة البلاغة”. وصناعة البلاغة تعني وصف لعملية الكلام “فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب” وعليه تكون البلاغة سمة في الكلام لا في متن اللغة، لأن معجم اللغة مسميات معروفة، أما الكلام فهو اقتدار الصانع على استخدام مسميات اللغة بتراكيب لها خاصية متميزة عن الكلام العادي، وهو مبدأ تأخذ به اللسانيات، وقد احكم استغلاله علمياً سوسير “بالتمييز بين اللغة كظاهرة لسانية مجردة... والكلام بوصفه الظاهرة المجسدة للغة” ولذلك قيد البلاغيون حدّ البلاغة بالمتكلم فهي: “ملكة يقتدر بها ـ المتكلم ـ على تأليف كلام بليغ”، فالبلاغة تعمد إلى تفكيك بنية الكلام للاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره فهي تأخذ بطرفي الجملة: التركيب والدلالة، فتصف الكلام وتحكم على “بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حداً له اختصاص بتوفية خواص التركيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجوهها”. وفي هذا المجال يمكن أن يقال إن النص البلاغي خطاب تغلبت فيه “الوظيفة الشعرية للغة” وان اللغة “هي الظاهرة الشكلية الوحيدة التي تتيح لنا أن نتعرف على الأدب الذي لا يتحقق إلا بها وفيها، ولا تعتمد في حكمنا على صانع الجمال أو الأديب إلا بتفحصنا المادة الحية التي ينتجها”، فوظيفة اللغة في البلاغة تتخصص بقدرة الدال على تشكيل مدلوله، من منطلق: أن العلاقة القائمة بين الدوال مصطنعة تختزن الفكرة بالاختيار (وان كل كلمة في أي جملة هي ـ اختيار) وبذلك تنفي عفوية الحدث الأدبي اعتماداً على: “ان كل صوغ لساني فني هو ضرب من الاختيار الواعي يستقصي به الباث الوسائل التعبيرية الملائمة لغرضه مما تمده به اللغة عموماً” وسمة هذه الصنعة البلاغية تراها في “حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر ـ متفقة ملساً، ولينة سهلة، وتراها مختلفة متباينة، ومتنافرة مستكرهة تشق على اللسان وتكده، والأخرى تراها سهلة لينة، ورطبة مواتية ـ سلسة النظام، خفيفة على اللسان حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد”. وهذا يعني أن الاعتبار البلاغي ليس في الحروف ذاتها، وإنما في ائتلاف الأبنية واختلافها في التراكيب اللفظية، وإلا فإذا اعتبرت مخارج الحروف منفردة لا تجد لها مزية حسن ولا قبح، فالسمة البلاغية في الألفاظ هي “ضرب من التأليف في النغم” كما يقول ابن سنان: وعلى هذا أخذ البلاغيون على امرئ القيس قوله: غدائرها مستشزرات إلى العلا تضل العُقاص في مثنى ومرسل فلفظة (مستشزرات) ثقيلة لتنافر حروفها، فقد توسط حرف (الشين) المهموس بين التاء وهو من الحروف المهموسة الشديدة والزاي وهو من الحروف المجهورة الرخوة، ويرى النقاد أن امرأ القيس لو قال: (مستشرف) لزال الثقل. وعلى هذا جعل البلاغيون النظر في بنية الألفاظ اللغوية المدخل العلمي لمعرفة سمتها الجمالية فجعلوها مدخلا لدراسة علمي المعاني والبيان وسماها الرازي المحاسن الحاصلة بسبب اللفظ من حيث هو لفظ، وإلى حال تركبها قال: “وهذه الاعتبارات لابد من رعايتها، ليكون الكلام سلساً على الأسلات، عذباً على العذبات وهي كالشرط للفصاحة والبلاغة”. وبمثل هذا الوصف، تفقّد البلاغيون الألفاظ في سياقات الكلام، وتعد ملاحظات الجاحظ أول ملمح تطبيقي لدراسة العلل البنائية التي تعتري النص ملفوظاً ومكتوباً؛ وتعد مصطلحاته التي أدارها في كتابه “البيان والتبيين” عمدة البلاغيين في وصفهم لأبنية الكلام الفصيح، فقد نقل الجاحظ قيم الألفاظ الصوتية إلى قيم نقدية مدركة، فشخّص علّة التنافر الصوتي في السياق الشعري بشواهد ما زالت تدور في كتب البلاغة النظرية والتطبيقية، قال: “ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر، وان كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض الاستكراه”... ومن ذلك قول ابن يسير: لم يضرها والحمد لله شيء وانثنت نحو عزف نفس ذهول قال: “فتفقد النصف الأخير من هذا البيت، فانك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض، وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك انه قد أُفرغ إفراغا واحداً، وسُبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان، حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد”. وذلك بوضع الألفاظ مواضعها في السياق المنظومة فيه: “وربت كلمة لا توضع إلا على معناها الذي جعلت حظه، وصارت هي حقه، والدالة عليه دون غيره وربت كلمة تدور مع واصلتها، وتنقلب مع جارتها، وإزاء صاحبتها، وعلى قدر ما تقابل من الحالات وتلاقي من الأسباب”. وعلى هذا يقيد عبد القاهر سمة الفصاحة بالنظم على أساس أن الكلمة المفردة لا تكتسب سمتها معزولة، ولا توصف من غير أن ينظر إلى مكان تقع فيه من التأليف والنظم قال: “وهل تجد أحدا يقول هذه اللفظة الفصيحة” إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها؟ وهل قالوا لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافه قلقة، ونابية، ومستكرهة، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم... ثم يقرر القول: “ان الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وان الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك، مما لا تعلق له بصريح اللفظ”. وهنا نلحظ بوضوح تحول المنظور اللغوي المحض عند الجاحظ إلى تصور شمولي يتعدى تحديد السمة الفنية بالمفردات إلى السمة الكلية في التعبير، عند عبد القاهر، أي أن العناية بالتراكيب ليست قضية لفظية إنما الغرض بنظم الكلم أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل، فلا حال “للفظة مع صاحبتها تعتبر إذا أنت عزلت دلالتها جانباً... ولو فرضنا أن تنخلع من هذه الألفاظ، التي هي لغات دلالتها لما كان شئ منها أحق بالتقديم من شئ ولا تصور أن يجب فيها ترتيب ونظم... وان العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق” فالمعاني المتصورة في أذهان الناس والمتصلة بخواطرهم والحادثة عن فكرهم مستورة خفية، وموجودة بمعنى معدومة، كما يقول الجاحظ. أسلوبية النظم البلاغي “الأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه” لذلك فمدار الأمر البلاغي على اعتبار التراكيب اللغوية لأن “الألفاظ المفردة لا تستعمل لإفادتها مدلولاتها المعنوية إلا عند التركيب، والمركبات أصنافها كثيرة، جعلوها مخصوصة بالنظم دون غيره مما يستحسن له الشعر ؛ وأهل العلم بالشعر وتمييزه يرون أن ابتداء الشاعر في معنى ما لابد له من طريقة مخصوصة وتلك الخاصية في النظم هي الأسلوب. وإن أردت أن ترى حسنا تنسبه إلى النظم أو ما هو في حكمه فانظر إلى قول إبراهيم بن العباس يمدح محمد بن عبد الملك الزيات: فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب وسُلِّط أعداء وغاب نصير تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور وإني لأرجو بعد هذا محمداً لأفضل ما يرجى أخ ووزير فإنك ترى ما ترى من الرونق والطلاوة، ومن الحسن والحلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان بتقديمه الظرف الذي هو “إذ نبا” على عامله الذي هو “تكون” ولم يقل “كان” داري عن الأهواز بنجوة إذ نبا دهر، ثم أن نكّر دهر ولم يقل “إذ نبا الدهر” وساق هذا التنكير في جميع ما أتي من بعد. ثم أن قال: “وأنكر صاحب” ولم يقل وأنكرت صاحبا، وكله من معاني النحو كما ترى، وهكذا أبدا في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم وأحيل فيهما إليه. وعلى هذا يقرر عبد القاهر القول “واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحق وينظم بعضها إلى بعض حتى ـ تكتمل الصورة ـ وتستوفي القطعة وتأتي على عدة أبيات وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات... وحتى تعلم ـ إن لم تعلم القائل ـ أنه من قبل شاعر فحل، وإنه خرج من تحت يد صناع... وتشهد له بالحذق وطول الباع، وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر، والذي لا تجده إلا في شعر الفحول المطبوعين الذين يُلهمون القول إلهاما”. وكأن عبد القاهر في هذا يستبق الزمن ليرد على متقولين أن نقدنا البلاغي يعنى بالقاعدية وليس بالوصفية. وهل وجدت وصفا أسلوبيا كالذي يصف فيه عبد القاهر الآية: “واشتعل الرأس شيبا” قال: ومن دقيق ذلك وخفيه أنك ترى الناس لم يزيدوا في ذكرها على ذكر الاستعارة، ولم يروا للمزية موجبا سواها، وليس الأمر على ذلك، إنما المزية والروعة التي تدخل النفوس في سلك الكلام بطريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء وهو لما هو من سببه فيرفع به ما يسند إليه ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده؛ مبينا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني ولما بينهما من الاتصال والملابسة.. وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه؛ وذلك أننا نعلم أن اشتعل للشيب في المعنى وإن كان هو للرأس في اللفظ وهذا المنحى في التعبير هو الذي اصطلح عليه الأسلوبيون “العدول” للتمييز بين مستويي التعبير/ القاعدي أو المثالي/ والأسلوبي الذي بيّنه عبد القاهر ودلل عليه بقوله: إن تدع هذا الطريق وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحا فتقول: اشتعل شيب الرأس أو اشتعل الشيب في الرأس؛ هل تجد ذلك الحسن والروعة التي تراها في الآية؟ ولينظر الأسلوبيون كيف يفصّل لهم القول في وصف عدولهم الذي يزعمون قال: فما السبب في أن كان “اشتعل” إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل ولم بان بالمزيّة من الوجه الآخر هذه البينونة؟ السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى؛ الشمول وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه واستغرقه، حتى لم يبق من السواد شيء، قال: ووزان هذا أن تقول: اشتعل البيت نارا والمعنى أن الاشتعال كان شاملا، وليس في دلالته على المعنى القول: اشتعلت النار في البيت. ولم ينِ عبد القاهر يدلل على أسلوبية البلاغة (ليستحكم هذا الباب في نفسك ولتأنس به) فقال: ومن عجيب ذلك والنادر فيه قول المتنبي: غصبَ الدَّهرَ والملوكَ عليها فبناها في وجنة الدَّهر خالا فتمثل روعة النظم أن قال: غصب الدهر والدهر لا يغصب، وإنما كنى بذلك عن القوة التي بلغها سيف الدولة ثم عطف الملوك على الدهر لتكون القوة بالغة مداها على العام والخاص، وليس الحسن أن جعل للدهر وجنة وجعل البنيّة خالا في الوجنة، وإنما موضع العجب؛ أن أتى “بالخال” منصوبا على الحال من قوله “فبناها” أفلا ترى أنك لو قلت: وهي خال في وجنة الدهر، لوجدت الصورة غير ما ترى؟ وعلى هذا ارتبطت الدلالات البلاغية بمعاني النحو باعتبار التراكيب لا المفردات قبل أن يصوغ “بالي” مستويات أسلوبيته بقرون، يقول محمد مندور: “إن عبد القاهر قد اهتدى في العلوم اللغوية كلها إلى مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة النظير... وهو أصح وأحدث ما وصل إليه علم اللغة الحديث في أوربا لأيامنا هذه على يد “دي سوسير”.. لقد فطن عبد القاهر إلى أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات” ولنر الآن رواد الأسلوبية كيف يصفون في قراءة المسدّي للشابّي، نقف عند هذين البيتين وقد عدهما “المكون لبنية المقطع الاستهلالي الأول” يقول الشابي: عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللّحن كالصباح الجديد كالسماء الضحوك كاللّيلة القمراء كالورد كابتسام الوليد قال المسدّي: “هذا المقطع يجري مجرى المناجاة لأنه خطاب وجداني ذو مهجة غنائية... والذي يعنينا هو وصف التركيب؛ يقول أما تضافر التركيب والتوزيع فيتمثل في ورود البيتين على أبسط الأنماط النحوية إذ هما جميعا جملة اسمية بسيطة ولكن توزيع محوريهما قد انعكس بتقدم الخبر ثم تلاحقت سلسلة من صيغ الجار والمجرور كلّها متعلق بالخبر المتقدم... على أن هذه البنية التوزيعية المقلوبة قد وفرت للقالب اللغوي قدرة على تصوير الحركة بعد إرساء البنية”. أقول: تدبيج العبارات الإنشائية لا يغني عن المعرفة شيئا؛ فأصول هذا الوصف هي (معاني النحو) التي هي مقوم نظرية النظم الأسلوبية عند عبد القاهر وفات المسدّي أن لتقديم الخبر على المبتدأ (تقديم المسند على المسند إليه) أغراض مجازية؛ وغرض التقديم هنا للتشويق ولو قال “أنت عذبة كالطفولة” لذهب التشويق الذي ولّده تقديم الصفة على الموصوف؛ هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد ذهب إلى أن هذا القالب اللّغوي وفر قدرة على تصوير الحركة والأمر على العكس تماما لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت بتقديم وتأخير والذي يفيد الحركة هو التعلق بالجملة الفعلية؛ وتأخير المبتدأ هنا تقصده الشاعر ليجعله مشبه ويبني عليه تعدد المشبه به الذي أضفى الإيقاع بالتكرار. ومن الخصائص الأسلوبية في شعر شوقي في دراسة الهادي الطرابلسي قوله: تجاذباهم كما شاءا بمختلف من الأماني والأحلام مختلب قال: فالمنتظر قوله “الأماني والأحلام المختلفة المختلبة” لكن الشاعر غير الترتيب فأبرز الصفتين معا وخلق توازنا في البيت على أساس/ مختلف ومختلب/ صفتان للأماني والأحلام والذي أراه أن مختلف ليست صفة لهما إنما أراد شوقي “أن التجاذب متعدد”، ولكن “صفة الأماني والأحلام مختلب” أي كاذبة لا تتحقق؛ وأن الذي أشاع التوازن في البيت هو المجانسة بين: مختلف/ مختلب وهو من صيغ الجناس الناقص الذي أغفله الطرابلسي وتعلق بالصفة. وعليه فهل المبتدأ والخبر والجار والمجرور والصفة والموصوف والتوازن من اختراع الأسلوبيين؟ أم هي معنى من معاني النحو حاملة للدلالة بطرقها المختلفة؟ أفق انتظار القارئ حيث “لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر” وكان فخر الدين الرازي من أوائل الذين عملوا على تطبيق نظرية عبد القاهر في منهج الدرس البلاغي بأن جعل الدلالة وسيط الصوت والتركيب في وصف بنية النص البلاغي وقسمها على قسمين، قال: “دلالة اللفظ على المعنى: إما أن تكون وضعية أو عقلية، فالوضعية كدلالات الألفاظ على المعاني التي هي موضوعة بإزائها، كدلالة الحجر والجدار والسماء والأرض على مسمياتها، ولا شك في كونها وضعية، وإلا لامتنع اختلاف دلالتها باختلاف الأوضاع. وأما العقلية: فإما على ما يكون داخلاً في مفهوم اللفظ كدلالة لفظ (البيت) على (السقف) الذي هو جزء مفهوم البيت، ولا شك في كونها عقلية، لامتناع وضع اللفظ بإزاء حقيقة مركبة، ولا يكون متناولاً لأجزائها، وإما على ما يكون خارجاً عنه كدلالة لفظ السقف على الحائط، فانه لما امتنع انفكاك السقف عن الحائط عادة كان اللفظ المفيد لحقيقة السقف مفيداً للحائط بوساطة دلالته على الأول، فتكون هذه الدلالة عقلية”. وقسم الدلالة العقلية على قسمين: دلالة التضمن ودلالة الالتزام، قال: “أما دلالة التضمن، ودلالة الالتزام، فهما عقليتان لان اللفظ إذا وضعه الواضع لمسماه انتقل الذهن من المسمى إلى لازمه، ثم لازمه إن كان داخلاً في المسمى فهو التضمين. وان كان خارجاً عنه فهو الالتزام”. وأورد ابن البناء المراكشي تقسيماً آخر لدلالة اللفظ على المعنى. قال: وقيل إنها على ثلاثة أقسام أخر وهي: دلالة المنطوق، ودلالة المفهوم، ودلالة المعقول وهذه القسمة انسب من جهة التخاطب، والقسمة الأولى انسب من جهة اصل الوضع، ثم إن كل قسم من أقسام اللفظ بالنسبة إلى كل قسم من أقسام المعنى يحدث عنه في الاعتبار أربعة أقسام: الأول تركيب تقييد واشتراط، كالنعت مع المنعوت والمضاف مع المضاف إليه. والثاني تركيب طلب، وهو إما طلب الفعل، أو طلب الترك أو طلب القول بالاستفهام. والثالث التنبيه: وهو على أقسام، كالنداء والترجي والتمني وغير ذلك. والرابع الإخبار، ويعنينا منه ما سماه الجازم كالمبتدأ وخبره. لأنه أصل بنية الإسناد. وقد أشار الرازي إلى أصل التصور البلاغي للدلالة بقوله (وعبر عبد القاهر) عما قلنا بأن قال: “ها هنا عبارة مختصرة وهي أن نقول، المعنى ومعنى المعنى، ونعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، وهو الذي يفهم منه بغير واسطة، وبمعنى المعنى، أن يفهم من اللفظ معنى، ثم يفيد ذلك المعنى معنى آخر، ثم قال: واعلم أن الكناية والمجاز والتمثيل لا تقع إلا في هذا القسم وذلك لان هذه المعاني: التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل من بعدها من مقتضيات النظم وعنه يحدث وبه يكون” وعليه فإن منهج الدرس البلاغي يستند إلى فاعلية اللغة في إعطاء النص الأدبي سمته البلاغية وذلك بتوصيف مفردات اللغة وبنيتها الصوتية والتركيبية، من حيث التقديم والتأخير والفصل والوصل والحذف والذكر على وفق متغيرات العلاقة في السياق. ومن حيث دلالة هذه التراكيب التضمينية والالتزامية في توليد ـ معنى المعنى ـ ولذلك فإن الرؤية الأسلوبية في البلاغة العربية هي مقاربة علمية “تستشرف للبلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية آفاقاً طرية (رحبة) تبرأ بها من قوادح العلل” على حد قول سعد مصلوح وعليه يُحمد “لغيرو” أن اختار للأسلوبية متكأ البلاغة بزعمه “الأسلوبية بلاغة القدماء” ليُحمد للبلاغة بعد الذي بيّناه تأويل الرؤية “أن بلاغة القدماء أسلوبية المحدثين”. dr-mahrem@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض