22 ديسمبر 2010 20:05
أطلق مهرجان دبي السينمائي في دورته السابعة، التي اختتمت الأحد الماضي، ولأول مرة مسابقة مستقلة للأفلام المحلية حملت مسمى (المهر الإماراتي)، واعتبر البعض هذه المسابقة حافزاً مهماً لتجويد وتطوير هذه السينما، التي تشكلت ملامحها الواضحة قبل عشر سنوات من الآن في المجمع الثقافي بأبوظبي من خلال مسابقة (أفلام من الإمارات). وتأتي أهمية مسابقة (المهر الإماراتي) وفي هذا التوقيت بالذات لكونها تحمل خصوصية فنية وسط حدث كبير يجمع أطيافاً مختلفة من الهويات والمدارس السينمائية التي تتوزع على قارات العالم الخمس، وكذلك لأن هذه المسابقة باتت تزاحم وتتوازى مع مسابقات أخرى كرّست وجودها في المهرجان مثل (المهر العربي) و(المهر الآسيوي الأفريقي) وذلك من خلال تنافس يصبّ في جوهر البحث عن هوية ناضجة ومتماسكة للفيلم الإماراتي.
توزعت الأفلام المشاركة في الدورة الأولى للمهر الإماراتي على عدة أفلام روائية قصيرة وأخرى وثائقية، بينما غاب الفيلم الروائي الطويل عن جدول المسابقة بسبب صعوبة التصدي لمثل هذه الأعمال، التي تتطلب تكاليف إنتاجية ضخمة وبسبب انتفاء عنصر الخبرة والتراكم الكمي والرصيد النوعي عن الفيلم الطويل في الإمارات.
الأفلام الروائية القصيرة التي شاركت في المسابقة هي: (ملل) للمخرجة نائلة الخاجة، و(سبيل) للمخرج خالد المحمود، و(ريح) لوليد الشحي، و(صولو) لعلي الجابري و(عتمة) لأحمد زين، و(الفيلسوف) لعبدالله الكعبي، و(صوير) لسعود محمد مروش، و(رجلان وعنز) لسعيد الظاهري، و(إعادة) لمنى العلي.
أما الأفلام الوثائقية المشاركة في مسابقة المهر الإماراتي فهي: (حمامة) للشاعرة والمخرجة نجوم الغانم، و(غواص غزة) لعلي خليفة بن ثالث، و(حياة من صخر) لمعاذ بن حافظ، و(رسائل من فلسطين) لراشد المري، و(الكتاب البني) للمخرجين أحمد بن شبيب وراشد بن شبيب.
وحسب مدونة العروض، فإن إطلاق مسابقة المهر الإماراتي - وكما أشار مسعود أمر الله المدير الفني لمهرجان دبي السينمائي - ارتكز على معطيات ومؤشرات كثيرة أسهمت بشكل جذري في حراك فيلمي في الإمارات، لأن السنوات العشر الأخيرة أحدثت تغيراً واضحاً في رسم خارطة أولية لشكل الإنتاج المحلي. وأوضح “أمر الله” أن الانطلاقة الأولى لمسابقة المهر الإماراتي احتضنت 14 فيلماً، منها 12 فيلماً في عرض عالمي أول، وأن معظم هذه الأفلام يقدم خلاصة بصرية لتجربة طموحة ومتواصلة، والأهم من كل ذلك أنها آتية من عمق المكان.
وهنا عرض لثلاثة أفلام روائية قصيرة تضمنتها المسابقة وأفصحت عن وجود نقلة نوعية على مستوى الوسائط التقنية المستخدمة في تنفيذها، خصوصاً فيما يتعلق بعمليات التصوير والإضاءة والصوت والمونتاج، كما أفصحت هذه الأفلام عن تعامل فني رصين وعن وعي إبداعي متوهج على مستوى الإنتاج، وكذلك على مستوى المواضيع والقصص والحالات الإنسانية المطروحة، وكان التنافس بين بعض الأعمال شديداً لدرجة المطالبة بضرورة زيادة عدد الجوائز، مقارنة بما هو مخصص للمسابقة في دورتها الأولى.
سبيل: روح السينما
يقدم المخرج خالد المحمود في فيلمه (سبيل) ما يمكن أن نسميه بالروح المخلصة للسينما، فمن خلال لغة بصرية واعية لقيمة وثقل اللقطة السينمائية، ومن خلال مشهديات عذبة ومعذبة يختفي فيها الحوار تماماً، يعرض المحمود ومن خلال سيناريو متقن للشاعر محمد حسن أحمد، قصة شقيقين يعتنيان بجدتهما المريضة وسط بيئة جبلية معزولة، بحيث تصبح صلة الوصل الوحيدة بين هذين الشقيقين وبين العالم الخارجي، هي الدراجة النارية التي يستقلانها إلى الشارع العام من أجل بيع الخضراوات التي يزرعانها حتى يمكن لهما شراء الدواء الذي تحتاجه الجدة. تتحدث الكاميرا هنا ومن خلال كادرات متقنة وانتباه صاف لمعنى الوحشة ولهوس الفقد المسيطرين على المكان وعلى دواخل الشقيقين أيضاً، وكان لغياب الحوار عن الفيلم دور في إضفاء حس تأملي كبير على أجواء الفيلم رغم الإشارات المأساوية في نسيج الحكاية. إن الصمت الطاغي هنا يتلون بأصداء عميقة وبصرخات وتأوهات، لا يمكن سوى للسينما، والسينما وحدها أن تنقلها للمشاهد بكل هذا الوعي الجريح، وبكل هذا الألم العاري والمنهمر نحو البصر والبصيرة في آن.
نمتدح الصمت هنا لأنه جاء تماماً على مقاس فيلم (سبيل)، ولكننا في ذات الوقت لا نقلل من أهمية الحوار في أدبيات السينما وفي البعد الجمالي للأفلام عموماً.
ينتهي الفيلم على مشهد آسر يختزن بلاغته البصرية، ويشيد عمارة من الوجد الذي يتهدم ببطء في المسار المؤلم لدراجة الأخوين، الذين يشقان طريقهما وسط طيف واسع لحزن كبير ومتشعب وموغل حتى العظم!.
ريح: ألم الذاكرة
في فيلم (ريح) لوليد الشحي والذي كتبه أيضاً الشاعر محمد حسن أحمد، تتواصل الانشغالات الجمالية الرمزية لهذا المخرج المبدع، الذي يقدم في كل عمل جديد له حالة من التمازج مع الفضاء الأسطوري والنوستالجي للمكان، فمع إهماله للبعد الواقعي والشرح الموضوعي يذهب الشحي دائماً لمنطقة تخص مختبره البصري، الذي بات أشبه بالبصمة الفنية المستقلة في المشهد السينمائي المحلي، ونذكر هنا أفلام مثل “باب” و”حارسة الماء” و”طوي عشبة” التي اشتغل عليها الشحي من منطلق البحث عن طاقة مستترة وخبيئة للسينوغرافيا والميزانسين السينمائي، وكذلك من زاوية التنقيب عن اللحظة المدهشة والغرائبية التي تحتاج لوعي ودربة وإنصات مبجل لصوت الشعر ولضفافه التي تلامس الأسطورة، دون إلغاء لإشارات وتلميحات الألم المنتشر في واقع غامض وملتبس.
تدور أحداث الفيلم في مكان يبدو منفصلاً ومتصلاً في ذات الوقت مع الحاضر، ولكن هذا الحاضر نفسه يعاني اشتباكات دامية مع الذاكرة، ومع التغيرات التي حولت هذه الذاكرة بالذات إلى منطقة مأهولة بالخراب واللوثة والاغتراب الداخلي الذي يجمع شخصيات الفيلم بخيط رفيع يكاد لا يرى، ولكنه أشبه بالدم السري الذي ينزف من الروح لا من الجسد، هذا الدم المسموم وهذا الألم الخبيث يكشف عن نفسه من خلال مسمار صدئ ينغرس في رجل طفل غريب يعثر عليه رجل وابنه، يستقلان شاحنة مياه في أرض جافة وجائعة للمطر، أرض أشبه بـ (غيتو العطش) المحاط بأسوار تعزله عن رفاهية الخارج وعن الوعد البعيد والمخيف أيضاً، لأنه عندما يتحقق هذا الوعد يتحول فجأة إلى كابوس، وعندما تتفجر المياه بعنف وقسوة، تتحول إلى مقابر عائمة وإلى نعوش تطفو فوق أرض تتنفس حضورها رغم بؤسها وعذاباتها التي يمكن التكيف معها. يقدم الفيلم رسائله الضمنية حول الطفرة التي دفنت تحتها تاريخاً من القصص والذاكرات التي توهجت ذات يوم، وباتت في الزمن الحالي والحالك مجرد هياكل مطمورة ومنسية وسط غبار التحولات العنيفة ووسط البؤس المهيمن الذي لا يمكن الشفاء من ويلاته وتبعاته.
“ملل”: اللحظة المكثفة
قدمت المخرجة نائلة الخاجة في فيلمها الروائي القصير (ملل) واقعاً اجتماعياً معاصراً من خلال معالجة ذكية ومكثفة للقضية المطروحة في الفيلم، وبعيداً عن الخطابات الوعظية والمباشرة التي تشكل مدخلاً سهلاً ومريحاً للمخرج التقليدي، استطاعت الخاجة أن تطرح مشكلة (البرود) في العلاقة بين الأزواج في الإمارات بشكل سلس وعفوي يستند إلى اللحظة المفارقة التي تنتجها الصدفة أو الحدث الآني الذي يتدرج ويتشكل في سياق القصة المطروحة، هذا الحدث الذي يكشف عن المرارات والآلام الداخلية المتوارية في الذات الأنثوية، والتي لا يمكن في أحيان كثيرة التعبير أو الإفصاح عنها لأسباب اجتماعية صرفة ومتوارثة.
يتحدث الفيلم عن زوجة إماراتية تفاجأ أثناء الأيام الأولى من شهر العسل بتصرفات زوجها المنشغل عنها روحياً وعاطفياً والمهموم كلياً بوظيفته وأعماله التجارية التي تركها خلفه، ووسط الأجواء الساحرة لولاية كيرلا الهندية تتنقل الكاميرا الرشيقة لنايلة الخاجة لتترجم حالة الجفاف الرومانسي لدى الزوجة مقارنة بجماليات المكان المحيط بها. وعندما تتوه لوحدها في الغابة المتشابكة، ينقذها شاب هندي من متاهتها ومن عزلتها الداخلية، ومن خلال إحساسها الكبير بالهجران والخواء الداخلي تتحول الصحبة الطارئة مع هذا الشاب الغريب إلى نوع من الإعجاب والألفة، خصوصاً مع القدر الكبير من الشهامة والطيبة التي يبديها هذا الشاب مع الزوجة التي لا يعرف أي شيء عن وضعها الحرج والمرتبك. ينتهي الفيلم على مشهد يحمل الكثير من التأويلات والإسقاطات عندما توقف الشاب الهندي عند نقطة معينة لا يمكن تجاوزها، وتعترف له بأنها متزوجة حديثاً دون أن تبوح له بما يعتمل في داخلها من لوم وتوبيخ لهذا الزوج، يترك مشهد النهاية مجالاً خصباً للكاميرا كي تترجم القول المسكوت عنه والذي بات يخلق أزمات وانتكاسات عاطفية للكثير من النسوة الشبيهات ببطلة الفيلم.