الثلاثاء 12 أغسطس 2025 أبوظبي الإمارات 36 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

أخطر فكرة في العالم (6-8)

23 ابريل 2005
غادة سليم:
كم من حروب دامية اشتعلت من وراء فكرة مجنونة حاولت أن تفرض نفسها بالقوة على الآخرين · وكم هي المآسي التي عرفتها البشرية نتيجة فكرة مسيطرة تحولت إلى أفعال مدمرة· وفي السنوات القليلة الماضية انتشرت أفكار عديدة جاءت وليدة ثورات علمية أو صراعات سياسية أوأزمات اقتصادية أو إفرازات دينية· منها أفكار شائكة ومعقدة تركت أثراً محسوساً على واقع الأحداث العالمية، ومنها أفكار تجريدية وغير ناضجة تخفي من ورائها نتائج ضارة ومؤذية··هذه الأفكار على خطورتها تصبح هشة ويسهل تحطيمها وتفكيكها إذا ما تم بحثها ومناقشتها في حوار على قدر عال من الحياد والموضوعية والشفافية· ولكن ما هي أخطر فكرة في العالم؟·
سؤال طرح على 16 من أبرز قادة الفكر وصناع القرار والأكاديميين ورواد العلم والفلسفة في الشرق و الغرب· بدايته جاءت من خلال مناقشة ثمانية من الغربيين عبر مطبوعة ' فورين أفايرز' الأمريكية بهدف دق ناقوس الإنذار المبكر والتنبيه إلى ما يمكن أن تحمله الأفكار الخطرة من أحزان للبشرية ، تابعنا ذلك بوعي وأدركنا أهمية الإضافة والتطوير من خلال ثمانية مفكرين من الشرق ، مما يجعل هذا الجهد ليس متمما فقط للأول ولكنه يمثل الإثراء للفكر البشري و التبليغ برؤية أخرى من خلال المشاركة في الحقل العالمي للمعرفة والثقافة وعالم الأفكار بوجه عام ، وبذل كل تقدم لرؤية شاملة للفكر الإنساني لجهة تبيان أخطر فكرة في العالم ·· رحلة بحث طويلة شملت آراء كل من: عبدالرحمن النعيمي وريتشارد رايت ، نادر فرجاني ومارثا ناسباوم ، سيار جميل و وبول دايفز، سليم الحص وفرانسيس فوكوياما ، عبد الوهاب المسيري وإريك هوبسباوم ، منصف مرزوقي وسامنتا بور، عبد العزيز المقالح وفريد زكريا ، فاروق الباز وأليس ريفلين ·
في الحلقة السادسة من سلسلة أخطر فكرة في العالم يرى المفكر التونسي د·منصف المرزوقي أن الأفكار التي تزرع اليوم سيحصد شوكها الأحفاد غداً· واعتبر أن ما يمكن أن يتسبب في كوارث في المستقبل هي عدة أفكار خطرة وليس فكرة واحدة· فمآسي البشرية جاءت نتيجة عامل واحد هو الفكر الخطر· وما الكوارث إلا حصيلة شبكة سببية معقدة تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والتاريخية والثقافية والفكر الخطير واحد منها· واعتبر أن الشمولية والإطلاق والتبسيط والتعصب هي قواسم مشتركة بين كل الأيديولوجيات الخطرة والتي تسببت بمآس للبشرية·
أما د· سامنتا باور أستاذة السياسة العامة بجامعة هارفارد الأمريكية فرأت أنه لا يوجد أخطر من أن تدار الأمم المتحدة بمنطق ' البزنس' وأن يصبح هذا الكيان الدولي كفناً يغطي مصالح الدول العظمى على حساب مظالم الشعوب الضعيفة· وعلة الأمم المتحدة في كونها لا تقدر أن تضع يدها على موضع الداء ولا تجرؤ على رفع صوتها بالألم· فالأعضاء الدائمون في مجلس الأمن يتعمدون إضعاف الأمم المتحدة واستخدامها كواجهة دولية لتنفيذ مآربهم السياسية والاقتصادية· واعتبرت أن المرحلة القادمة من صياغة السياسات والفصل في النزاعات تحتاج إلى مؤسسات دولية قوية لا مجرد مبنى فخم في قلب نيويورك·
شرق:
منصف المرزوقي : الشمولية والإطلاق والتبسيط والتعصب·· قواسم مشتركة بين كل الأيديولوجيات الخطرة
ما هي أخطر فكرة في العالم ؟ سؤال يعتقد د·منصف المرزوقي أنه من أخطر الأسئلة المطروحة على الصعيدين النظري والسياسي· وتمنى أن يترتب على طرحه في ملفنا هذا تبعات إيجابية من تجميع هذه الأفكار في شكل متناسق· وقال : نعم ، يجب أن نتعلّم من دروس الماضي ومن أهمها أن الكوارث التي يتعرض لها جيل ،تزرع بذورها من طرف الجيل السابق سواء عن جهل أو عن حسن نية · نعم ، يجب أن يرتفع وعينا بأننا نرث ونواصل السلبي والإيجابي في التاريــــــخ وأن علينا اليوم، نظرا لتعاظم الأخطــار، أن نتحكّـــــــم فيما نفــــــعل وما نقول لأننا لا نملك هذه الأرض وإنما نستعيرها من الأجيال المقبلة وعلينا أن نسلمها إياهم في أحسن حالة لا أن نزرعها بالألغام الموقوتة·
السؤال إذن ·· هل الأفكار التي نتداولها اليوم قد تؤدي إلى ما أدت إليه على صعيد الفعل السياسي ·· مقولات الماركسية اللينينية والنازية والصهيوينة والثورية المفرطة والقومية في القرن الماضي؟·· يتطلّب هذا أن نتفحّص مأساة ملايين سجناء المعسكرات السوفيتية ، ومأساة ملايين اليهود والغجر الذين أبيدوا في محتشدات النازية، ومأساة شعب كمبوديا الذي ذهب ثلثه نتيجة أفكار الخمير الحمر، ومأساة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ما قبل التسعينات، ومأساة المجازر في منطقة البحيرات الكبرى في التسعينات لنحدّد طبيعة الأفكار التي حرّكت كل هذه المآسي كمقولة' شعب بلا أرض وأرض بلا شعب' التي نادى بها هرتزل والتي لا يزال الفلسطينيون يدفعون ثمنها إلى اليوم·
لننتبه هنا لكون هذه الأفكار الخطرة هي نتاج فكر خطير وأنه قد يكون من الأجدى أن نحدّد خصائص الفكر الخطير قبل البحث عن الأفكار الخطرة لأن ما سيتسبب في كوارث المستقبل عدة أفكار خطرة وليس فكرة واحدة· أمّا إذ كان الهدف هو الوقاية فإن العمل الأنجع يجب أن يكون على منع كل الأفكار الخطرة وليس على واحدة منها نختارها بالضرورة حسب مواقفنا السياسية والفكرية، يجب أن ننتبه أيضا لعدم جدية اعتبار مآسي البشرية نتيجة عامل واحد هو الفكر الخطر· فهذه الكوارث هي حصيلة شبكة سببية معقدة تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والتاريخية والثقافية والفكر الخطير واحد منها· لكنه من حقنا أن نقول إن هذا الأخير عامل ضروري يلعب، داخل الشبكة السببية المعقدة، دورا أساسيا عندما يستولي على العقول والقلوب التي تستولي بدورها على الحكم لتطبّق الأفكار القاتلة للشعوب والأفراد وأنه لولاه لما كان القيام بالأعمال الإجرامية ومواصلتها وتبريرها أمرا سهلا أوحتى ممكنا·
قواسم مشتركة
إذا انطلقنا من هذه النقطة المنهجية يصبح السؤال: ما هي القواسم المنهجية المشتركة بين الأيديولوجيات التي تسببت في المذابح التي ذكرناها والتي ستعطينا نوعا من الوصف المختزل للفكر الخطير· لنذكّر أن العلماء يتشاركون في نفس طرق التفكير تجاه القضايا العلمية مهما تباعدت أجناسهم وجنسياتهم· نجد نفس الظاهرة عندما يتعلّق الأمر بالفنّ عند الفنّانين أيا كانت المدارس الفنّية التي يتبعون· كذلك نكتشف مقومات فكر واحد عند عقائديين يدينون بالوفاء والولاء لهذا الدين أو لمنافسه ، لهذه المدرسة الفكرية السياسية أو لتلك، لهذا الشعب المختار أو عدوّه· إنه الفكر الذي تجده عند أي متعصّب بنفس الكيفية الذي تجده عند ألدّ خصومه تبعا لقانون يمكن أن يسنّ كالآتي: إن مواقف وتصرفات متطرف أو قومي أو ديني أو اقتصادي في صراعه مع متطرف الاتجاه المعاكس ، ناجمة دوما عن تناقض مطلق في الأفكار وتشابه مطلق في التفكير·
ومن خصائص هذا الفكر، الشمولية والإطلاق والتبسيط ورفض تاريخية كل الأفكار أو تشبعها بالنواقص التي لا يخلو منها فكر إنساني· هناك دوما ادعاء بأن هذا الفكر مضمّن في بنك الحقيقة المطلقة مصدره العلم أو الوحي أو عبقرية ذلك الزعيم الفذّ·والفكر الخطير دوما فكر مريض يحمل من جهة بصمات الشيزوفرينيا لأنه يخلط بين الواقع والنظرية التي تريد استيعابه مثلما تحاول القطرة استيعاب المحيط ، حيث لا وجود لنظرية (فارّة ، ثابتة ، مكتملة ) تستطيع استيعاب واقع مذهل التعقيد متعدّد المستويات يتحرّك ويتغيّر طول الوقت· وهو مريض بالبارانويا حيث يتصوّر أصحابه أن هناك مؤامرة تحاك ضدّ عقيدتهم ومصالحهم وأن محور الشرّ بصدد الترصّد بمحور الخير الذي يمثلونه وحدهم دون سواهم ·
ومن مظاهر الفكر الخطير الوثنية اللفظية حيث توضع كلمات لا حياة فيها في مصاف المقدسات· والحال أن موضوع العبادة (المعنى) غير موجود أو أنه لم يعد يتجسد في المصطلحات الميتة· لكن العقلية البدائية تؤمن بتواجد صلة وثيقة بين اللفظة وما تعنيه مثلما يؤمن الساحر بقدرته علــــى إلحاق الأذى بإنسان ما إذا ما ثقب عين دمية ترمز له· لكن أهمّ خصائص الفكر الخطر هو طريقة تناوله لقضايا متشابكة معقدة ذات مستويات متعددة· فثمة دوما داخله ســــبب يتيم وحل لا حلّ إلا هو والحال أن كل الرؤى هي بمثابة تسليط النظر على سطح واحد من مكعب لا يفهم إلا إذا أخذ من كل الجهات· هكذا يأتي الفكر الخطر بمقولة ' الإسلام هو الحلّ' أو الليبرالية هي الحلّ' أو ' الديمقراطية هي الحلّ' أو الاشتراكية هي الحلّ' وتبقى الإنســانية تجـــــــرّب الحـــــــلّ تلو الآخر لتكتشف أن الحلّ لم يكن حلاّ وإنما أكبر جزء من المشكل·
المخلصون ·· الأطهار!
ثمة مستوى أخر لفهم الفكر الخطر، وهو الطاقة التي تغذيه ، لأننا إلى الآن لم نصف إلا الآليات الذهنية· هذه الطاقة هي القيمة المطلقة التي يجب على كل القيم الأخرى أن تخضع لها وتخدمها· إن من يحبّون بكلّ قواهم أوطانهم (أو عقيدتهم أو طائفتهم) ولا شيء آخر أو قبل كل شيء آخر، هم أخطر الناس على بقيّة الأوطان والطوائف والعقائد وحتّى على من يدّعون الموت في حبّه، لأن وطنيتهم المفرطة قادتهم وقادت ضحاياهم وأحيانا شعبهم نفسه إلى الهلاك· لقد علّمنا التاريخ أنّه لا ألعن على المجتمعات من 'الأطهار' مثل روبسبيار وبول بوت والمستعدّين دوما للتضحية بالثلثين الفاسدين لإنقاذ الثلث الصالح· فهؤلاء القادة ألأكثر تطرفا في البحث عن مجد الأمّة، هم الذين كلّفوا شعوبهم فاتورات رهيبة من الدم والدموع · إن هتلر الذي قاد كل حروبه حبا في الشعب الألماني لم يتوان عن رفض كل حق له في الحياة في ظل فشله في ربح الحرب ·
إن القراءة التي قدمناها تمنع بالطبع التوجه بإصبع الاتهام لفكرة خطرة واحدة لأن الأمر قد يكون انخراطا واعيا أو غير واع في حرب الأيدولوجيات حيث موقف الآخر ضلالة مطلقة في أسوأ الأحوال وفي أحسنها ' خطأهم الذي يحتمل بعض الصواب في مقابل صوابنا الذي قد يتخلله بعض الخطأ '· فما يجب أن ننتبه إليه وننبه باستمرار هو الفكر الخطر أيا كانت الأشكال التي يتخذها· نحن رصدنا التطرف العرقي أو القومي أو الوطني أو القبلي أو الديني· لكن هل هناك أشكال أخرى لم ننتبه لها ؟· ربما، لأنها تعرف كيف تخفي خطورتها أو كيف تدسّ السمّ في الدسم ؟· نعم ، هناك فكر خطر آخرهو الليبرالية وهذه حججي للتدليل على رأي قد يفاجئ الكثيرين ·
حرية·· الرأي الواحد
نحن أمام فكر في طور غزو العالم وبمنطق المنتصر وهو يتقدّم كالحلّ الأمثل بل الأوحد لمشاكل العالم السياسية والاقتصادية بكل ما في منظومة الفكر العقائدي الخطير من عجرفة وشمولية وإيمان ساذج ومغرور بأنه يمثل الخير في مواجهة الشرّ (وتعريفه كل ما يخالف ويتعرّض للمشروع الليبرالي) · نحن أمام فكر تحرّكه قيمة واحدة هي الحرية ولا مجال داخله لقيم أخرى مثل العدل والمساواة· وهذه الحرية هي الحق الشخصي في المبادرة لجني الربح المادي بغض النظر عن كل تأثير لها على حرية الشعوب وحقوق العمّال أكان ذلك على مستوى الوطن أوالعالم · نحن أمام فكر يكتسح العالم اعتمادا على قوة المال وقوة السلاح · نحن أمام فكر يستعمل الاستبداد أينما كان في خدمة أغراضه ويستخدم الديمقراطية إذا بانت له الطريق الأقصر للتحكم لكنه يضحي بها ( مثال فنزويلا) إذا شكلت عقبة· ناهيك على أنه يسمم آليات الديمقراطية عبر تحكمه في وسائل الإعلام وفرض الرأي الواحد تحت غطاء تعددية مزيفة ، أو عندما يجعل المال أداة الوصول للسلطة عبر الانتخابات الإشهارية التي هي اليوم نقطة الضعف الكبرى في النظام الديمقراطي إن لم تكن مقتله· نحن أمام فكر تسبب ممارسته الاقتصادية والسياسية، متمثلة في سياسة كبرى الدول الليبرالية، في تدمير البيئة عبر التلوث وخاصة الاحتباس الحراري· إن رفض الولايات المتحدة تطبيق بروتوكول كيوتو - مع كل ما يعنيه الأمر من تفاقم كارثة بيئية ستدفع ثمنها الباهظ كل البشرية- حتى لا يتراجع المستوى المعيشي بكمية بسيطة لستة في المائة من سكّان العالم هو بحق جريمة في حق الإنسانية لا وجود لمحكمة تنظر فيها - باستثناء محكمة التاريخ ·
أخيرا ·· نحن أمام فكر ينتج سياسة اقتصادية هي أهم عامل في ارتفاع ثروة الأقلية وانتشار فقر الأغلبية وهو الأمر الذي من شأنه أن يولّد ردود فعل عنيفة تلبس رداء أيديولوجيات متطرفة تحاول عبر 'الإرهاب ' تعديل خلل غير قابل للاحتمال · نحن إذن أمام فكر لا يكتفي بأن يلد أفكارا خطرة بل هو ويولّد أفكارا خطرة أخرى مما يزيد الطين بلّة· والحلّ ؟ هو لا يكمن بالطبع في فكر أحادي تبسيطي ثأري آخر وإلا بقينا ندور في حلقة مفرغة نصرخ تجربة فاشلة بعد تجربة فاشلة،' وداوني بالتي كانت هي الداء' ·نحن بأمسّ الحاجة اليوم إلى فكر ينطلق من تعقيد الظواهر وترابطها وكونها نتيجة شبكة سببية معقدة تحتاج لأدوات مختلفة لتناولها من كل الجهات· نحن بأمس الحاجة لفكر متواضع وموضوعي متعدّد الآليات يعترف بأنه لا وجود لسبب واحد وحل يتيم و قيمة مركزية ولو كانت الحرية أو المساواة أوالعدالة وإنما لشبكة من الأسباب والمقترحات وخاصة لشبكة من القيم المتماسكة لا مجال فيها للتضحية بالعدالة باسم الحرية أو بالحرية باسم العدالة·نحن بحاجة إلى ثورة منهجية في التعامل مع المشاكل البالغة الصعوبة والتعقيد وبثورة أخلاقية ·· وما عدا هذا فكر خطر يستبدل فكرا خطيرا آخر·
غرب:
د· سامنتا باور: الأمم المتحدة ··
وتسويق صفقات البزنس
تقول د· سامنتا باور في مستهل أطروحتها الخاصة بأخطر فكرة في العالم : لا تزال عبارة 'وثيق الصلة' محفوفة بالمخاطر في الأمم المتحدة ·· تماما بقدر ما هي عبارة 'عديم الصلة'· ففي عام واحد تأرجحت المنظمة العالمية بين توبيخ إدارة بوش واستجداء العون منها· في الوقت الذي ساهم فريق من الأمم المتحدة في التسويق لصفقات البزنس في العراق تحت اسم إعادة البناء والخدمات الاجتماعية وحقوق الإنسان والانتخابات الحرة ، فإن فرق حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تتبرعم وتتوسع في انتشارها· فمن بروندي وجمهورية الكونغو إلى هايتي وساحل العاج ينكفئ ذوي القبعات الزرق على العمل أكثر من أي وقت مضى في تاريخ المنظمة·
وعلى الرغم من أن أنصار الأمم المتحدة يجدون متعة بالغة في الاعتماد العالمي المتزايد على تلك المنظمة العالمية إلا أنها رغم النشاط الزائد لا مجال لتلميع صورتها· فالأعباء الجسيمة الملقاة على عاتق المنظمة العجوز - التي أكملت عامها الستين والتي تحرص الدول العظمى على إضعافها- لم يسبق أن كانت بمثل هذا القدر لتكشف العجز وقلة الحيلة· فلقد سقطت مصداقية المنظمة الدولية إلى أدنى حد· ففي الوقت الذي انشغلت فيه الدول العظمى بالحرب على الإرهاب وبتأمين أمنها الداخلي تم تسليم الأمم المتحدة كافة المهام الدولية التي سبق أن أخفق فيها المجتمع الدولي حتى تلك التي تجاهلها· وبدون إحداث تغييرات في الأمم المتحدة تم تقييد المنظمة بهموم ومهام ثقال لا تقدر على تنفيذها· وبالتالي تعثرت الفكرة التي من أجلها قامت الأمم المتحدة · وهي الفكرة التي تنتشر الآن بقوة في كثير من عواصم العالم ، بل حتى داخل مكاتب المقر الرئيسي للأمم المتحدة· لذا أعتبر أن الإيمان بقدرة الأمم المتحدة على القيام بمهامها في ظل ما هي عليه من فوضى فكرة خطرة·
معوقات الإصلاح
وترى د· سامنتا باور أن معظم الذين بإمكانهم تغيير المنظمة إلى الأفضل تمنعهم مصالحهم الشخصية من الإصلاح· فليس بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن من يريد التخلي عن حق النقض الفيتو أو أي من الامتيازات الأخرى التي تتمتع بها الدول العظمى· في الوقت الذي نجد فيه كثيرة هي الدول القمعية التي تتمتع بعضوية هيئات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة· والتي بحكم موقعها من المنظمة تتمكن بطريقة أو بأخرى من استصدار قرارات دولية مثيرة للإرباك والإحراج الدولي· أما القوى الغربية التي تحتاج الأمم المتحدة إلى قواتها وخزائن أموالها لاستمداد قوتها في حفظ السلام فلديها أولويات أخرى· وحتى بداخل بيروقراطية الأمم المتحدة فإن كثيرا من رجال الأمم المتحدة المحنكون وأصحاب الخبرة العريقة يخجلون من الحديث عن إصلاحات جذرية دراماتيكية بعد أن أصبحوا على مدى عشرات السنين أسياد الوضع الراهن بإجراءاته القديمة والتغيير يلوح لهم بمخاطر محتملة·
وفي الوقت الذي يلقي موظفو الأمم المتحدة - وعلى رأسهم أمينها العام- باللائمة على الدول الأعضاء، وتحميلهم مسؤولية ما يواجهون من متاعب ومعوقات، فإنهم نادرا ما يملكون الشجاعة لإلقاء الضوء على أصل المشكلة أوتحديد أسماء الدول العنيدة والشحيحة والمسيئة والمعرقلة للدور الرئيسي للأمم المتحدة· لذلك فكل الانتقادات الموجهة للأمم المتحدة غير عادلة · فمع احترامنا للمنظمة الدولية فما هي إلا مجرد مبنى تجتمع فيه الرؤوس للتشاور والتفاوض طبقا لما تمليه عليهم مصالحهم· وعلى صعيد المهمات العملية فإن أداء المنظمة العالمية لا غنى عنه ، كمهام الإطعام والإيواء والعلاج لملايين البشر ولا بأس من نزع سلاح ديكتاتور العراق أيضا· إلا أن سمعة المنظمة تهبط وتعلو هذه الأيام استناداً على أدائها المتمثل في ثلاثة من عناصرها الرئيسية وهي مجلس الأمن ومفوضية حقوق الإنسان وقوى حفظ السلام على الأرض· وكل منها بحاجة ماسة إلى الإنقاذ·
وتشرح د· سامنتا باور الهيئات الثلاث الرئيسية في الأمم المتحدة فتقول : لقد أصبحت مفوضية الأمم المتحدة بجنيف والتي تتكون من 53 دولة عضواً أشبه بمسرحية هزلية· بعد أن باتت المفوضية تقبل عضوية كل من يتقدم إليها بطلب عضوية وبالتالي أصبحت تضم تحت جناحها أكثر الأنظمة وحشية في العالم· ليبيا ترأست المفوضية عام 2003 ، والسودان جددت عضويتها هذا العام رغم أعمال التطهير العرقي التي تجري في دارفور· وعندما ترتبط العضوية بالمسؤوليات فإن المفوضية تتستر على الكثير من منتهكي حقوق الإنسان وتندد بالقليل· وعندما تطلب الدول الأعضاء في مجلس الأمن من الأمين العام للأمم المتحدة أن يضع قدميه على الأرض فإن قواته لحفظ السلام تواجه مهمة مستحيلة· فهم يوجهون إلى أكثر مناطق الأرض دموية حيث لا توجد مصالح اقتصادية أو سياسية غربية يمكن أن تتعرض للرهان أو المخاطرة· وليس بدواعي الصدفة أن قوات حفظ السلام تفتقد إلى المال الكافي اللازم لمهمات حفظ السلام· ففي التسعينات من القرن الماضي عندما أرسلت قوات حفظ السلام إلى مستنقع صربيا لتقوم بدور ساعي بريد لمجتمع دولي عاجز ، كانت قوات الدول الغربية تذهب بأسلحة خفيفة ودون تفويض رسمي لوقف الإبادة الجماعية في رواندا· وتعليقاً على الإقبال غير المتوقع على تجييش قوات حفظ السلام في العام الماضي كان كوفي أنان يمزح دائما فيقول أن 'إس جي' اختصار الأمين العام للأمم المتحدة بالإنجليزية ترمز إلى ما معناه ·· كبش الفداء·
قوات رخيصة
ورغم ارتفاع ميزانية تمويل مهمات حفظ السلام في العالم إلا أن مليار دولار لا تزال مطلوبة· والأهم من ذلك أن الأمم المتحدة لابد أن تضم أفرادا من الدول العظمى - والتي لم تمنح سوى بضعة مئات فقط من جنودها- أما الدول التي تساهم بأعداد كبيرة لا يستهان بها فهي دول مثل باكستان وبنجلادش وأرجواي ونيجيريا لذا، لا عجب أن القيادة والسيطرة على هذه القوات تخضع لإغواء المال والعتاد حتى تحرك جيوشها· فإذا استمرت الدول العظمى في البحث عن قوات رخيصة لحفظ السلام فستفشل الأمم المتحدة التي لا يجد ملايين المدنيين حول العالم أملاً في النجاة من ويلات الحروب والأمراض والكوارث سوى الاحتماء بأصحاب القبعات الزرق· وإلى مدى بعيد يمكننا القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول العظمى الأعضاء يأخذون ما يريدون من الأمم المتحدة ولكن·· لا يعطون إلا القليل·
واليوم ·· ينتظر مؤيدو الإصلاح في الأمم المتحدة اللحظة المناسبة للمطالبة بالتغيير· وبدلاً من أن يحاول الأمين العام للأمم المتحدة اقتناص فرصة مستنقع العراق والحديث بعقلانية عن أعضاء هذا الكيان الدولي الذين يعارضون بإصرار أن يتم تحديث نظام الأمم المتحدة بما يتماشى مع متطلبات القرن الحادي والعشرين· لقد كان داج هامرشولد الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة يردد دائماً: ' أن الأمم المتحدة لم تخلق لكي تأخذ الإنسانية إلى نعيم الجنة بل لتنقذها من سعير الجحيم' · ولكن يا سيادة الأمين العام ·· حتى الفرار من الجحيم يحتاج إلى منظمة دولية كفء للقيام بالمهمة
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض