تحدثت المصادر التاريخية طويلاً عن أوضاع المرأة في المجتمعات الإسلامية ورغم ما حفلت به هذه المصادر من وقائع تاريخية، كانت المرأة ضمن شخوصها البارزة، فإنها لم تعكس “الصورة” التي كانت المخيلة الجمعية للمسلمين تضع فيها المرأة، ولعل المخطوطات المصورة التي أنتجت في ديار الإسلام خلال العصور الوسطى أفضل ما يمكن للمؤرخ اللجوء إليه لاستجلاء تلك الصورة ولاستيفاء ذلك الملمح الذي لم يكن بمقدور المصادر التاريخية أن توفيره.
(القاهرة) -تجدر الإشارة إلى أن المصورين في مختلف الأقاليم الإسلامية كانوا يرسمون النساء في تصاوير المخطوطات وقد اكتسبن الملامح ذاتها التي كانت لنساء أقاليمهم بغض النظر عن أن القصص المصورة جرت وقائعها في أزمان غابرة أو في أقاليم مغايرة.
وعندما زينت مخطوطات بصور إبان سيطرة المغول على معظم أقاليم آسيا رسمت وجوه النساء وقد اكتسبت ملامح مغولية ذات عيون ركنية منحرفة وبتسريحات الشعر المألوفة لدى المغول كالضفائر التي تتدلى خلف الظهر.
وتصاوير النساء في المخطوطات الإسلامية معين لا ينضب للباحثين في التاريخ الاجتماعي الذين يتوخون البحث عن أدلة مادية ملموسة عن حقيقة الوضع الاجتماعي للنساء المسلمات في العصور الوسطى وأيضاً عن الأنشطة والأدوار التي كانت تقوم بها المرأة في المجتمعات المختلفة، وهي أيضاً أفضل ما يمكن اللجوء إليه من مواد موثقة للحصول على صور واضحة عن الأزياء الخاصة بالنساء على مر الحقب الزمنية وفي مختلف الأقاليم شرقاً وغرباً.
صورة مثالية
وإن أهم ما اتسمت به صور النساء في المخطوطات الإسلامية هو ذلك الحرص من قبل الرسامين على إظهار المرأة في صورة “مثالية” أقرب ما تكون للكمال الإنساني والحضور الأنثوي، كما يطيب للمجتمع أن يرى فيه المرأة ويبدو ذلك واضحاً في الأزياء التي رسمت غالبا لتمثل أفضل ما عرفه مجتمع المصور من أزياء نسائية من جهتي الأشكال والألوان في طبيعة الجسد لا سيما من زاوية الوزن المثالي للمرأة فتارة ترسم بدينة ممتلئة وتارة أخرى ترسم رشيقة أميل للنحافة.
ففي صورة شخصية لسيدة، نجد أن الفنان حرص على إبرازها في الصورة المثالية التي يجب أن تكون عليها النساء في تلك الفترة فهي ترتدي زياً أنيقاً متناسق الألوان إلى أبعد حد، بل هو إن شئنا الدقة “شديد التأنق”، فهي ترتدي ثوباً ليس بفضفاض وقد ازدان برسوم نباتية، بينما وشيت أطرافه بزخارف ذهبية وحرصاً على بعض الاحتشام غطت السيدة منطقة الصدر بمنديل كبير متناسق اللون والزخرفة مع ثوبها الأنيق، كما ارتدت سروالاً يكاد يكرر ذات الزخرفة التي على الثوب بما في ذلك الوشي المذهب عند نهايته.
ورغم أن السيدة ترتدي قبعة رأس تحت غطاء للرأس أبيض طويل، فإنها سمحت لبعض خصلات شعرها الكستنائي أن تتطاير بعيداً عن القبعة والغطاء، ويكتمل هذا الزي بحزام ربطت عقدته بشكل جانبي حول وسطها فيما يتدلى الطرفان من الأمام.
واللافت للنظر أن السيدة تقف منتصبة القامة بوجه أبيض صبوح تعلوه ابتسامة متحفظة فيما تمسك بيدها اليمنى “أرجيلة” بينما تمسك باليسرى كأسا زجاجية يعتقد أنها تستخدم لشرب النبيذ.
ويبدو واضحاً من هذه الصورة أن نساء الطبقة العليا، كن كما الرجال سواء بسواء من جهة شرب الخمر وتدخين الأرجيلة، بل إن الأرجيلة الزجاجية الممسكة بها رسمت لتبين لنا أنها تحمل صورة لسيدة ولعلها هي صاحبتها الممسكة بها، وهو ما يفصح عن أن الأرجيلات كانت تصنع برسم الأشخاص الذين يقومون بالتدخين بها تعزيزا لفكرة الامتلاك والاستخدام الشخصي لها.
ومما يستحق الالتفات هنا أن السيدة رسمت ممتلئة القوام بشكل ملحوظ من دون أن يتمادى ذلك الامتلاء إلى حدود البدانة، وهو ما يعني أن المجتمع كان الذوق العام فيه يميل لاعتبار المرأة الممتلئة القوام هي الأقرب للصورة المثالية للسيدة الجميلة.
واختلفت نظرة الفنان للمرأة “النموذج” كما يتضح من صورة رسمت في القرن الحادي عشر الهجري “17م” بريشة المصور “معين”.
فتحت تأثير العلاقات المتنامية بالدول الأوروبية تسربت الملابس الأوروبية لعالم الأزياء النسائية، وكذلك الصورة النمطية للمرأة “النموذج” ويبدو ذلك جلياً عند مقارنة تلك الصورة بسابقتها.
ملابس أوروبية
فالسيدة التي مثلت بصورة “معين” تبدو بملابس أوروبية الطراز وتفتقد العناصر الزخرفيه الكثيفة المألوفة في الفن الإسلامي، بل تضع على رأسها ريشة تتوج غطاء الرأس المنسدل خلفها بينما لا يكاد هذا الغطاء يحجب أي جزء من وجهها أو شعرها.
وبينما اختفت “الأرجيلة” هنا نجد أن كأس النبيذ بقيت حاضرة وزيدت عليها قنينة نبيذ تمسك بها السيدة في اليد الأخرى، بما يعزز الإحساس باقتراب الصورة المثالية للمرأة.
أما صور النساء في مخطوطات الدولة المغولية بالهند، فتعكس صورة المرأة في مختلف الثقافات التي تعايشت تحت حكم المغول لشبه القارة الهندية وتوضح بجلاء مدى الاختلاف فيما بينها بشأن المرأة النموذج. ففي صورة رسمت حوالي عام 1004هـ نجد، رسما لامرأة من قبائل “جغتاي” التركية المغولية التي ينتمي إليها أحفاد تيمورلنك حكام الهند وهي تبدو ممتلئة تماماً حتى أن الفنان حول صورتها الشخصية إلى دراسة للاستدارات والتجسيم بدءاً من ركبتها إلى بطنها فوجهها، ولعل تلك الصنعة تعكس حقيقة صورة المرأة النموذج في موطنها من ناحية الثياب وأغطية الرأس والحرص على مظاهر القوة مجسدة في البدانة.