26 يناير 2012
ضم ديوان العرب أغراضاً شعرية عديدة أبدع فيها الشعراء عبر العصور الأدبية كافة، وتوزعت تلك الأغراض ما بين المدح، الوصف، الغزل، الرثاء، الهجاء، الفخر والحماسة. وبرز لكل غرض شعراؤه المُبرزون في مسيرة الأدب العربي، وشعر العتاب غرض ذو مجريين: شعري ونثري، عُرف عند العرب منذ عصر ما قبل الإسلام. وقد حدد مفهوم العتاب الأزهري بقوله: “هو كلام المدلين إخلاءهم طالبين حُسن مراجعتهم، ومُذاكرة بعضهم بعضاً ما كرهوه مما كسبهم الموجدة”.
وبغية الوقوف على شعر العتاب في ديوان العرب، أفرد الشاعر والناقد العراقي محفوظ فرج إبراهيم كتابه “غرض العتاب في الشعر العربي إلى نهاية القرن الرابع الهجري” ليوضح مفهوم العتاب ورحلته خلال القرون الأربعة منذ عصر ما قبل الإسلام إلى العصر العباسي بصفحاته الــ 86 من القطع المتوسط، وبمباحثه وهي: مفهوم العتاب، شعر العتاب في عصر ما قبل الإسلام، شعر العتاب في صدر الإسلام، شعر العتاب في العصر العباسي، شعراء العتاب، الدراسة الفنية، لمحات فنية في شعر العتاب، فضلاً عن المقدمة وخاتمة الكتاب.
أشار مؤلف الكتاب في مقدمة كتابه إلى أن العتاب من الأغراض الشعرية البارزة في عصر ما قبل الإسلام، فقد كان هنالك المديح، الغزل، الفخر، والرثاء، أما العتاب فكان غرضاً أخذ يتّسع تدريجياً حتى صار غرضاً بارزاً في العصر العباسي، حيث تنوعت بواعثه، وتعددت موضوعاته. ثم ذكر في مفهوم العتاب واشتقاق معناه فقال: “ومن معانية ما دخل الأمر من الفساد ويقال ما في مودته إذا كانت خالصة لا يشوبها فساد، والعتب: الموجدة، وعاتبه مُعاتبة، وعتاباً: لامَهُ”.
قال الشاعر العباسي علي بن الجهم:
أعاتب ذا المودة من صديق
إذا ما رابني منه اجتنابُ
إذا ذهب العتاب فليس ودّ
ويبقى الودّ ما بقيّ العتابُ
وأضاف محفوظ بأن العتاب “من الأغراض الشعرية الدقيقة التي تختلف عن الأغراض الشعرية المعروفة؛ فالمدح مثلاً يلجأ الشاعر فيه إلى وصف الممدوح بالقيم الإنسانية النبيلة، والهجاء يلجأ الشاعر فيه إلى ذكر مساوئ المهجُو، أما العتاب فإنّه غرض شعريّ يضع الشاعر في موقف حرج يحتاج إلى براعة، وجدارة، وحِيطَة لكي يجعل عتابه متوازناً بين عواطفه وعواطف المُعاتَب، ولذلك كانت طرق العتاب كثيرة تختلف باختلاف أساليب الشعراء في بواعثه، وموضوعاته.
عرض محفوظ فرج إبراهيم في مبحث “شعر العتاب في عصر ما قبل الإسلام” لنماذج من أشعار الشعراء إبان هذا العصر، ثم ذكر أنّه كان لنظام القبيلة أثر في إبعاد الشاعر عن مزالق الضعف، والخذلان، والهَوَان، فهو صحيفتها السائرة ولسانها الذي ينشر مفاخرها”، وأضاف قائلاً: “فإذا ما شعر الشاعر بأن قبيلته قد قصرّت في حقّه فأنّه سيُعاتِب ويلوم مثلما عاتب قُريط بن أُنيف أحد بني العنبر قومه بقصيدة هي أول قصائد ديوان الحماسة للشاعر أبي تمّام الطائي، قال:
لو كنت مِن مازن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة مِن ذهل بن شيبانا
إذاً لقامَ بنصري معشر خشن
عند الحفيظة إذ ذو لوثة لانا
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي حسب
ليسُوا مِن الشرّ في شيءٍ وإن هانا
يجزون مِن ظُلم أهل الظلم مغفرة
ومِن إساءة أهل الودّ إحسانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا
شنُوا الإغارة فُرساناً ورُكبَانا
في الإسلام
جاء الدين الإسلامي لكي يهذب أظافر الضغينة ويهذّب النفوس عند المسلمين، وليس غريباً أن نجد في ظل الإسلام الحنيف مفردات نحو العفو، الصفح، الرِفْق، العطف، والسلم، مبثوثة في انعطافة الشعر في صدر الإسلام وقد امتد أثرها على شعر المشركين الذين ما زالوا على جاهليتهم. وقد تمثل مؤلف الكتاب بصور شعرية عن هذا العصر منها، ما عاتب به الشاعر كعب بن زهير أخيه بُجَيْر الذي قَبِلَ الدعوة الإسلامية وأعلن إسلامه، فقال:
ألا أبلغا عني بُجَيْراً رسالةً
فهل لكَ فيما قلت ويحك هالِكا
شربت مع المأمون كأساً رويّة
فأنهلك المأمون فيها وعلكا
وخالفت أسباب الهُدى وتبعته
على أيّ شيء ويبَ غيرك دَلَكا
على مذهب لم تلف أماً ولا أباً
عليه ولم تعرف عليه أخاً لَكا
وكان للعتاب بواعث جديدة له تفضي به إلى موضوعات جديدة على نحو ما نجد عند الشاعر جميل بن مَعْمَر في قوله:
لمّا أطالوا عتابي فيكَ قلت لهم
لا تُكثروا بعض هذا اللوم واقتصدوا
قد ماتَ قبلي أخو نهْدٍ وصاحبه
مرقّش واشتفى من عُروة كمدُ
إن لم تنلني بمعروف تجود به
أو يدفع الله عني الواحد الصمدُ
فما يضرُ امرأً أمسى وأنتَ له
أن لا يكون مِن الدنيا له سنَدُ
وفي مبحث “العصر العباسي” أشار محفوظ فرج إلى التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي طرأت في العصر العباسي في العراق التي كان لها أثرها البين في الشعر من حيث البواعث، والموضوعات، وذكر أيضاً “أنّ عتاب خلفاء بني العباس ليس جديداً، إلاّ أنّ البواعث جديدة، وأسلوب الشاعر فيه يميل إلى الرِّقَة والوضوح، ويمكن أن نُعدّ مشروعية العتاب، وسابق الصلة بين الشاعر والخليفة من أسباب نجاح الشاعر في إيراد ما يسوّغ عتابه، فهناك تحوّل سياسي واجتماعي اقترب فيه الشاعر إلى الخليفة يوم كان ينظر إليه بعين الرضا، مما جعل الخليفة العباسي هارون الرشيد في حُكمه على الشاعر لأنّه أمين الله، وهو المسؤول عن رعيته وذلك يفتح للشاعر حُججاً ومعاني فرضتها التحولات في العصر العباسي”.
وقد استشهد المؤلف بنماذج شعرية عن شعراء العصر العباسي.
شعراء العتاب
أربعة شعراء هم حصيلة مبحث “شعراء العتاب” بدأهم المؤلف بالشاعر العباسي أبي عبادة البُحتري، وهو من أبرز شعراء العتاب في تاريخ الشعر العربي لأنه سلكَ طريقة لم يسلكها أحد سبقهُ، وهي الطريقة المُتسمة بالمبالغة في الرِقّة، إذ يتجه البُحتري إلى المعاتب برغبة جامحة لإزالة الموجدة وما علق بها من سخائم في قلبه، مهما كلفه مِن استعطاف وتذلل؛ ولعل مردّ ذلك يعود إلى ما جُبِلَت عليه طبيعة الشاعر النفسية الرافضة للخلافات والأحقاد، ميله إلى السلام في أغراضه الشعرية كافة. ومن عتاب البُحتري ما عاتب بها ابن حمدون النديم فقد بدأ قصيدته بالغزل وكأنّه يثير مشاعر الحُب والشوق في قلب معتوبه ويُنسِيه كل ما يتعلق بالضغائن، فقال البُحتري:
طيف لعَلوَة ما ينفك يأتيني
يصبُو إليّ على بعدٍ ويُصبيني
تحية الله تُهدَى والسلام مني
خيالُك الزائرِي وهناً يُحيِّيني
إذا قربت فهجر منك يبعدني
وإن بعُدت فوَصْل منكَ يُدنيني
وجاء مبحث “الدراسة الفنية” ليقف على بناء شعر العتاب عن الشعراء الذين تناولهم المؤلف في كتابه، فعرض أن هناك ثلاثة محاور ارتكزت عليها قصيدة العتاب والمتمثلة في: تطرق الشاعر إلى حالته النفسية، والتي يعرض فيها الشاعر فخره واعتداده بنفسه، ثم التوجه على المُعاتَب، وهو المحور الأساس، وفيه ينتقل الشاعر إلى موقفه تجاه من يعاتبه، والحُجة التي الشاعر يلجأ إليها الشاعر، وتكون الحكمة في هذا المحور هي أحد الأساليب التي يلجأ إليها الشاعر مُتعظاً أو واعظاً نتيجة ما يُعانيه في عتابه.
وتحت عنوان “لمحات فنية في شعر العتاب” ختم محفوظ فرج إبراهيم مباحث كتابه، الذي يرى فيه أن صورة العتاب تركزت على المقابلة بين الماضي والحاضر فإنّ من أبرز الفنون البديعية التي احتفى بها شعر العتاب هو الطِبَاق لأنّه جمع بين الشيء وضده. فقد كان الرِضا وحل السخط، وكان الوِصَال والحاضر الهجر، وكان الصفاء والحاضر الكَدَر، فلا بُدّ أن يكون العتاب عارضاً للحال القديمة، وما حدث من تحول حاضر المودة فيصور ما كان عليه وما هو عليه، إذ تحسِّن صور الاحتجاج إذا كانت دلالتها الفكرية مبنية على تصور الشعر عن طريق التقابل الإيحائي بين حالة وحالة.
وقال في هذا المبحث: “الطِبَاق هو أحد الدلائل النفسية على المودة والتوتر الشديد، كما نجد ذلك في عتاب أشجع السلمي لعامر بن شقيق في تغيره عند ولاية ولِيَها، وهو يطابق بين “أعمى وبصير”، و”طولته وقصير”، فعاتبه السلمي قائلاً:
أنتَ في سَكرَة الولاية أعمى
فإذا ما انجَلَت فأنتَ بصيرُ
إنّ حبلَ الدُنا وإن طوّلته
لكَ واستحكمت قواه قصيرُ!