يسرد الروائي المغربي إبراهيم الحجري في روايته الصادرة حديثا تحت عنوان “صابون تازة” الممارسات الزائفة والنفاق الاجتماعيين، حيث يغلف الفساد كل القيم ليصبح المحظور مباحا والمباح محظورا في زمن يتهالك يوميا، ليكشف عن إنسان مشوه.
ويستعير الحجري عنوان روايته الصادرة عن دار رواية للنشر والتوزيع في القاهرة، من القول الشعبي المغربي المأثور الذي يرمز ويحيل على ما يعتمل في الواقع والمعيش اليومي من مسخ وتشوه غير قابل لمحو آثاره إلا بالصابون التازة الذي تشتهر به واحدة من أعرق المدن المغربية خلال فترة الاستعمار الفرنسي، حيث كان الناس يعملون كقطيع بهائم وبأجر زهيد لدى هذا المحتل. وقد عرف هذا الصابون بجودته، ليدل بشكل ساخر في زمننا هذا على الحاجة إليه بالرغم من كثرة أنواع الصابون، وامتلاء الأسواق بها، جيدها ورديئها، لكن صابون تازة يبقى الأليق بشكل مفارق من أجل غسل أدران ما علق بنفس الإنسان وليس جسده أو ثوبه.
في هذه الرواية يعود الكاتب إلى فترة الحماية الفرنسية وتغلغل المعمرين بالقرى المغربية لاستغلال خيراتها، لكنه سرعان ما ينطلق سريعا ليتعمق في التاريخ المحلي حاليا، حيث يكشف الواقع البدوي ويعري ما يروج فيه من قيم وممارسات التزييف والنفاق الاجتماعيين، حيث يغلف الفساد كل القيم ليصبح المحظور مباحا والمباح محظورا في زمن يتهالك يوميا، ليكشف عن إنسان مشوه مثل شخصية أخ الراوي “ربيعة” الذي حول ذاته إلى امرأة كي يتسلق سلم الرتب الاجتماعية، في حين أن الأستاذ الجامعي المزود بالعلوم والفلسفة والمناهج الحديثة والنظريات، لم تسمح له أفكاره بتغير واقعه أو تحسينه لينتهي به الواقع العفن في الأخير إلى حافة الجنون.
تلك الحافة التي ستكون منعطفا جديدا للحكي، حيث يورد الراوي يوميات الأستاذ الجامعي بطل الرواية، وهو يحكي يومياته بأضرحة يتوهم الناس أنها تفك الحماق وتشفي الممسوسين، وهي يوميات بقدر ما هي مؤلمة، لكنها تدعو إلى الضحك المعادل للبكاء، ذاك أن كل ما يحبل به الواقع من تناقضات يؤدي بالمرء في النهاية إلى هذا المصير الجهنمي الذي يحتقر الذات البشرية ويقزمها في أدوار حركية فلكلورية.
إن الكاتب بقدر ما يحن إلى البوادي عن طريق وساطة رواته، فهو يسخر من الواقع الذي يلف وضعها: الأمية، الجهل، الإيمان بالشعوذة والخرافة. يصف الناس ويشخص نقط ضعفهم، والخيوط الواهية التي يحتمون بها من لفح الواقع وناريته، ليس هناك من يرحمهم ممن يعتمدون عليه من أولياء صالحين وطالحين، ولا يخلصهم من هذه القيلولة إلا الموت. كيف يصبح الموت خلاصا؟
يعتمد الكاتب على ذكائه في الملاحظة والتقاط تفاصيل الأحداث والوقائع والمشاهد في وقت انزاح الروائيون عن أوضاعهم وواقعهم ليغرفوا من أساطير وتاريخ الأمم السالفة، في وقت تطفح بها أيامنا بوقائع أغرب حتى من كل الخيالات والجنون. كما اعتمد على وعيه بتشكل الصوغ الأدبي والفني، ومعرفته بأساليب السرد ونظرياته المتشعبة، وحرصه على الرؤية الأنثروبولوجية للمتخيل الأدبي، كل ذلك جعل هذا النص طريا، خاثرا بالمواد الدسمة، مشتغلا عليه برؤى نقدية تعرف خبايا النص وتدرك مغاليقه، لتشيده على مقاس الرمز والمغزى، وكأن ليس هناك شيئا في النص هامشي، بل كل يدل في إطار دينامية النص وتوالده ضمن دوائر تتسع شيئا فشيئا لتصبح نصوصا داخل نص واحد.
ومن أجواء الرواية نورد المقطع التالي:
كان أخي من فصيلة “بقر علال”، لا يستطيع أن يحرك الدجاجة عن بيضها، لا قدرة له على طرح السؤال، كان تفكيره يصيبني بالإسهال، وكانت عينا أمي هما المرآتين اللتين يلامس من خلالهما العالم الذي يعيش فيه، وكان يؤمن بفكرة أمي بكون أبي مجرد ممسوس، مخبول، يهرطق طيلة الوقت بسخافات سمجة، لذا فقد تولدت لديه منذ الصغر كراهة والدي وأفكاره، وتنامت لديه أنوثة مفرطة أذكتها وصاية أمي، فكان شبيها بالمرأة في كل شيء، كان شديد الإعجاب بنفسه، كثير العناية بمظاهره الخارجية”.