9 ديسمبر 2010 20:11
يشكل البدو الرُّحَّل في الجزائر ظاهرة ما زالت تحافظ على جاذبيتها وقدرتها على لفت انتباه السكان المقيمين وفضولهم. ولا يفهم «الحضر» إلى الآن الأسباب والبواعث التي تدفع هؤلاء إلى تفضيل حياة الترحال الدائم والاكتفاء بالضروريات، على الاستقرار والتمتع بمختلف مباهج الحياة العصرية، لاسيما وأن ثرواتهم الكبيرة تمكِّنهم من العيش الرغيد والحصول على أبسط الكماليات.
تعود أصول البدو الرحل في الجزائر، بحسب الدكتور عبد العزيز راسمال أستاذ علم الاجتماع والأنثربولوجيا بجامعة الجزائر، إلى عربية وأمازيغية؛ فقبل أن يحل بنو هلال بالمنطقة، عرفت الجزائر العديد من قبائل البدو الرحل الأمازيغية الأصل وأشهرها قبائل «الطوارق» بالجنوب الجزائري، والتي لاتزال إلى الآن تشتهر بتربية الإبل والماعز وتنتقل من منطقة جنوبية إلى أخرى بحثا عن الماء ثم الكلأ، وهناك أيضا قبيلة «الزناتة» الأمازيغية.
البحث عن الكلأ
يقول راسمال إن قبيلتين عربيتين حلتا بالمنطقة مع الفاتحين المسلمين الأوائل، وهما «بنو سليم» و»معقل»، إلا أن أفرادَها قليلين، ثم عرفت الجزائر أهمَّ قبائل الرحل وأكثفها عدداً وهي قبيلة بني هلال بعد أن أرسلت الخلافة المركزية نحو 200 ألف شخص منها إلى المنطقة مروراً بمصر، انتقاماً من الدولة الفاطمية.
ويتابع «ينقسم بنو هلال إلى قبائل عديدة تختلف تسمياتها من منطقة إلى أخرى وأشهرها وأكثرها غنى وعدداً «أولاد نايل» بولاية الجلفة، ثم قبيلة «سعيد عتبة» بولاية الأغواط وكذا «العمور» و»حميان» بمنطقة النعامة والعين الصفراء، وقبائل «أولاد جرير» و»ذويمنِيع» بولاية بشار. وهذه المناطق تقع كلها بوسط وجنوب الجزائر».
ومهما تكن المناطق التي يتواجد بها هؤلاء، فإنهم، وفق راسمال، لا يتخذون منها مواطنَ للاستقرار، بل ينطلقون منها دوماً في رحلات مستمرة تدوم طويلا في كل مرة، بحثا عن وفرة الكلأ ولا يعودون إليها إلا للاستراحة والتخطيط لرحلات جديدة تبدأ بالاستقصاء عن أماكن نزول الأمطار بغزارة للتوجه إليها بعد أيام وقد نبت العشبُ فيها فيقومون بـ»احتلالها» دون أن يكترثوا بمن يملكها، فلا يجد مالكو الأرض، في أغلب الأحيان، سوى القبول بالأمر الواقع، لاسيما وأنهم يحتلونها بأعداد كبيرة وكلهم «مدجَّجون» ببنادق الصيد كما أنهم يعرضون أسعاراً مغرية مقابل الكراء.
وفي بعض الأحيان يقوم المالكون بإخبار السلطات التي تجبر هؤلاء على الرحيل.
ومع ذلك، يؤكد الدكتور راسمال، أن العلاقة بين الحضر والرحل «ليست صدامية» بل غالبا ما تكون علاقة تبادلية تجارية؛ حيث يبيعون الأصواف والألبان للمقيمين مقابل التمور والفواكه والقمح وكذا العلف لمواشيهم أثناء فترات الجفاف»، أما الدكتور محمد حمداوي، مختص في الإنثربولوجيا، فيفسر هذه العادة بأنها، «شرعية» في نظر البدو، ويرونها «دفاعاً عن حقهم في البقاء».
ثروات هائلة
يقول حمداوي «حينما تلقي نظرة أولية بسيطة على الأماكن التي يحلُّ بها البدو الرحل ويتخذونها مضاربَ مؤقتة لهم، فلن تجد فيها أية مظاهر تدل على الثراء ورغد العيش؛ فالخيم رثة بسيطة، وملابسهم وهيئاتهم أيضا بسيطة بل تدعو للرثاء، بيد أن إلقاء نظرة أخرى على مراعيهم وقد غزتها الآلاف من مواشيهم يعطيك نظرة وافية على نقطة قوتهم وحجم ثرواتهم؛ إذ يندر أن لا تجد فيهم من يملك قطعاناً ضخمة من الغنم والإبل والجياد وجرارات وشاحنات».
ويصل العدد الإجمالي لرؤوس الأغنام التي يملكونها إلى 22.5 مليون رأس، بحسب بيان لوزارة الفلاحة الجزائرية أصدرته مؤخرا، كما أن لحوم أغنامهم، وبخاصة أغنام منطقة «أولاد جلال» ببسكرة تعدُّ من أجود اللحوم في العالم، ما جعلها محل طلب كبير في الخارج.
وتفيد تقارير بأن أكثر من نصف مليون رأس غنم يتعرض للتهريب كل سنة عبر الحدود التونسية، ما جعل البدو الرحل موضع اتهام باستنزاف الثروة الجزائرية من الأغنام، إلا أنهم ينفون هذه التهمة عنهم ويؤكدون أن الأمر يتعلق بـ»مهربين محترفين يأتون إليهم على هيئة تجار مواشي، وهم يعرفون جيدا مسالك التهريب الصعبة على الحدود».
ويدافع راشد سلمان عن نمط عيش البدو القائم على الترحال الدائم. ويقول إنه «يضمن لهم الصحة والعافية لتوفر الهواء النقي والأطعمة الطبيعية والعيش في الطبيعة بعيداً عن تلوث المدينة وضجيجها ومعلباتها الجالبة لأمراض العصر».
ويتميز البدو الرحل، وفقه، برواج عادتي الزواج المبكر والتعدد لإكثار النسل وإنجاب أكبر عدد من الأطفال لإسناد ظهر الأب حينما يكبرون، وتعدُّد الزوجات شائع عند الرحل حتى أنه من النادر أن لا تجد من لا يعدِّد.
علاقة سطحية
يعدُّ معلم القرآن، وفق راسمال، مرجَع البدو الرحل الوحيد في الإتعليم الصغار
فتاء، ويطبقون فتاواه حرفياً، كما يقدسون الأولياء الصالحين؛ فالبدو الرحل مشهورون بحبهم للأولياء ويتبركون بأضرحتهم ويعتقدون بنفعهم وضرِّهم.
ويفسر راسمال هذه الأنماط السلوكية بالتركيز على ظروف نشأة الأولياء الصالحين في بيئة بدوية صوفية زاهدة في ملذات الحياة ومباهجها حتى وإن قدروا عليها. وهذا ما يجد فيه الرحَّل حجة تُحسب لهم في اختيار هذا النمط القاسي والبسيط من الحياة برغم ثرواتهم، لذلك يجدون في تقديس الأولياء، ذاتهم الروحية وتعويضاً لهم عن نقص معارفهم الدينية.
وعلاقة البدو الرحل بالسلطات بالغة السطحية؛ فهم لا يتعاملون معها، وفق حمداوي، إلا في حالة الضرورة، كما لا يتعاملون مع البنوك ولا يودعون أموالهم فيها.
وإذا حدثت خلافاتٌ بينهم، فإنهم يفضلون حلها عند «الجماعة» وهي عبارة عن مجلس أعيان وحكماء القبيلة مهمته حل الخلافات ودياً ويقوم بدور القاضي والسياسي معاً، وتملك»الجماعة» سلطة الحل والعقد وقراراتها نافذة مُلزمة لا يستطيع أي كان التمردَ عليها وإلا تعرَّض لعقوبات قد تصل إلى حد الفصل من القبيلة والتبرؤ منه.
بيد أن هذا لا يعني أن البدو الرحل متمردون أو يدخلون في نزاعات مجانية مع السلطات، فهم يملكون وثائق الهوية ويؤدون واجبهم الانتخابي حينما تأتي إليهم السلطات في شتى المواعيد الانتخابية مرفقة بالصناديق الانتخابية المتنقلة التي يبلغ عددها 550 صندوقاً لجمع أكثر من 200 ألف صوت عبر مختلف أنحاء الوطن بحسب أرقام وزارة الداخلية الجزائرية. وبالاحتساب التقريبي لعدد أبنائهم الذين لم يبلغوا بعد السن القانونية للانتخاب، يمكن أن نستنتج أن العدد الإجمالي للبدو الرحل في الجزائر قد يفوق نصف مليون نسمة.
سياسة القرى الفلاحية
دفعت سياسة «القرى الفلاحية» التي انتهجها الرئيس الأسبق هواري بومدين في السبعينيات، إلى استقرار عدد من البدو الرحل فيها وتحوُّلهم إلى «بدو مقيمين».
كما أدى اشتداد موجتي الإرهاب والجفاف في التسعينيات إلى استقرار عدد آخر في المدن والتجمعات الحضرية ليمتهنوا تجارة الأغنام والبقول ومواد أخرى، بيد أن أغلبهم لايزالون مصرين على تحدي كل الظروف والوفاء لنمط معيشة الأجداد خصوصاً وأن الأوضاع الأمنية استقرت في الألفية الجديدة .كما انتهى الجفاف أيضا، وأصبح البدو الرحل يشعرون بالاطمئنان على أموالهم وأملاكهم.
في هذا الإطار، يقول الدكتور عبد العزيز راسمال أستاذ علم الاجتماع والأنثربولوجيا بجامعة الجزائر إن «أطفال البدو لا ينالون حظهم من التعليم والدراسة كأقرانهم فهم يتعلمون فقط قراءة القرآن لدى معلم يجلبه أولياؤهم ويتعاقدون معه على تعليم أبنائهم القراءةَ والكتابة وما تيسر لهم من السور، وطيلة عام يقيم عندهم مقابل منحه نسبة من الماشية وألبانها وأصوافها وكذا السمن والتمر.
وتكون المدة المحددة قابلة للتجديد، وهو حل يرضي الآباء الذين يرون أن التعليم النظامي للأطفال صعبٌ ومثير للمتاعب بسبب البُعد عن المدينة من جهة، ولكثرة الترحال من جهة أخرى فالتعليم يعني الاستقرار وهم غير مستقرين. ثم إنهم لا يعوِّلون على شهاداتهم ليحصلوا من خلالها على وظائف».
المصدر: ر