السبت 12 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 36 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ناجي العلي.. البهيّ الذي لم يمسسه سوء

ناجي العلي.. البهيّ الذي لم يمسسه سوء
30 أغسطس 2012
إلى زمن آخر تأخذني ريح الكتابة.. هذه الريح الملعونة التي تتلبس الحروف والكلمات. تتمدد بكامل ألقها وغوايتها على البياض الممانع. ثمة حزن خفي لا تحيط به الكلمات. ثمة أنين آت من أغواري السحيقة يخرج لسانه ساخراً مني. كيف تكتبين عن ناجي العلي؟ وها إني اعترف أن الكتابة عن هذا المبدع شائكة بحق. إنها تشبه اللعب بالنار أو السير بأقدام حافية على صفيح ساخن. هي أقرب إلى نبش أدغال الذاكرة التي ما تفتأ تنسى أكثر مما تذكر. وهي عودة إلى منابع الوعي المبكر وشقائه المختفي خلف رغبة المعرفة المضرجة بالسهو والكتمان. ها إنها ـ الكلمات ـ تأخذني إلى نكهة زمن مضى. الريح تعصف. الذكرى مبتلة بنثيث الشتاء العتيق. بهمهمات التشوف المعرفي الموغلة في مساحات تمتلئ بالعذوبة والعذاب... بالعتمة والمتعة كما لو أنها تترجم ـ على نحو تلقائي وعفوي ـ إيمان ناجي العلي بالثنائيات الوجودية.. بسيره الحياتي بين خطين لا ثالث لهما: أبيض أو أسود. لكن النكهة الآتية على صهوات الكلام ليست غريبة عليّ.. لقد خبرتها وعرفتها وربما شربنا القهوة معاً على طرف قرية فلسطينة لم تنس قبل أن تخلد إلى النوم أن تسأل الله السلامة من شر زوار الليل وطوارقه. أي ريح تغسل أصابعي من رتابتها؟ لعلها تلك الريح المقدسة التي تأتي من ذلك المكان الذي هو وراء الأشياء ووراءه الأزمنة. لا يمكن للكاتب أن يترجم لحظة الكتابة ولا حتى يتخيلها. أظن أن علينا أن نشن حملة منظمة على ذلك الغامض المستحيل الذي يقض مضاجع اللغة كما لو أنه جبل من اللامعنى. ربما نفهم قليلاً معنى أن يذهب مبدع جميل، غدراً، برصاصة خرساء، حاملاً أنينه المكتوم ووجه قاتله إلى المجهول الأبدي. لكن ما الذي فعله ناجي العلي لكي يغتال!! كل ما فعله ناجي أنه ارتكب جريمة حبها ولم يقبل فيها إلا قولاً واحداً. لقد أخذ فلسطين لتنام في فراشه.. وكل ما فعلته رسوماته الجارحة أنها طلبت من المساومة و التنبلة أن ترتدي ملابسها وتغادر.. كل ما فعله قلبه النقي الطاهر أنه أتقن مهنة الشغب. يقولون إن الحب غلطة تقترفها العيون، ما ذنب ناجي إذا كانت عيونه قد أحبت بكل هذا الاتساع الذي في البشري...؟! ترى ما الذي دار في خلد ناجي العلي لحظة أطبق الغدر على عنقه؟ ربما خطر له أن ظله سيطبق ذات يوم على قاتله... ومن يدري ربما أطبق بالفعل!. لقد كان لناجي العلي من اسمه نصيب كبير.. فقد نجا من كل فخاخ السقوط وظل بهياً لم يمسسه سوء.. ثم علا وارتقى وصعد إلى مكان عليّ، مقدس، لا يطؤه سوى الخالدون. إذن... ما الذي يمكن كتابته بعد ربع قرن من الغياب، هل بقي ثمة شيء لم يتم قوله؟ أجل.. أجل.. ما زالت في رسومات ناجي راهنية مدهشة، ومن يتفرس في المنتج الفني لهذا المبدع يستشعر كم كان رائياً وقادراً على التنبؤ بما سيأتي. دعك عن الانتفاضة التي بشر بها وجاءت مثل فلق الصبح. دعك من حنظلة الشاهد الذي لا يخطئ القلب صدق ظهره وما يقوله لنا في عزوفه عن النظر إلينا. خذ مثلاً جدلية الأبيض والأسود في أعماله، جمالياتها، دلالاتها التي تقول بالصمت ما تعجز عن قوله بلاغات الكلام الرنان. خذ الرجال المتكرشين الذين زادت كروشهم انتفاخاً وأسقطها ما شاء لك الإسقاط. خذ فاطمة التي تجد لها شبيهات لا تحصى في كل زقاق وحارة من حارات هذا الوطن العربي الكبير. خذ الحكمة الثاوية في كل رسوماته واطرح عليها أسئلة الواقع الحالي وستجد أنها تملك من الجِدَّة والمعاصرة أكثر مما تملكه رسومات أنجزت بالأمس فقط... خذ المعنى مقشراً وجاهزاً ليثبت لك بالدليل القاطع أن السلام على الطريقة الأوسلوية فاسد على المذاهب الأربعة. من أي جهة قرأت ناجي العلي ستلفي نفسك أمام فنان صميمي وجذري لشد ما نحتاجه في هذا الزمن ذي الولادات المتعسرة، والنظرة السياسية الحولاء، والمشية العرجاء. لكن ما السر في راهنية هذا المبدع وبقائه حياً فنياً وإنسانياً؟ ما الذي فعله ناجي العلي؟ لقد ضرب بكل يديه، بكل قلبه، بكل روحه، على اللامعنى.. ليوقظه؟ وربما ليرسم له بضع أشواك في رأسه ثم يطلقه في الرسومات ممتلئاً بالدلالات والمبادئ والنبالات التي يخشى عليها من جرَّة سلام. حتى بعد موته لم يتوقف ناجي العلي عن إشعال الحرائق حول قلوبنا وفيها. فالشهيد/ الحي أصر على أن ينضو عنه كفنه وينطلق في معارج الخلود الإبداعي والإنساني إلى ما شاء الله.. وكأن اليد التي قضت وهي تقبض على الوطن في هيئة رسم كاريكاتوري لا تزال تمتلك فصاحة خفية ترغب في ملامسة ما لا يمكن لمسه، والانسراب في كهرباء الوجود السرية. كأن الفنان ما زال غير قادر على الانفكاك من رغاء رغبته الهائلة في ترك توقيع إضافي على هامش الصورة. لعله توقيعه الناري الأخير مكتوباً بدم حقيقي لا يقل حرارة عن ماء النار أو حمض الكبريتيك التي قالت صحيفة “أساهي” اليابانية إن ناجي العلي يرسم به عندما اختارته كواحد من بين أشهر عشرة رسامين في العالم. كأنه يريد أن يفرك “حصوة ملح” في عيون الذين نفوه إلى آخر... الأمل. حياً يرزق في دمائنا دائماً يحلو لنا أن نتذكر ناجي العلي.. لكنه في هذه الأيام الحالكة والرديئة ـ فلسطينياً ـ يزداد حضوراً ويصبح ضرورياً أكثر من أي وقت آخر.. لماذا؟ ثمة أسباب كثيرة تجعلنا نحرص على استعادة هذا المبدع حتى من دون أن تحل ذكرى استشهاده، لعل أهمها الصلابة والثبات على الموقف، فناجي لم يكن من المثقفين اياهم، الراقصين في كل عرس والعازفين على كل وتر، كان مثقفاً ملتصقاً بالناس وهمومهم وأحزانهم ولم يساوم يوماً على جراحهم، عشقهم حتى صاروا دما يجري في شرايينه، لا يحيا إلا بهم ولا يكبر إلا من خلالهم.. وها هو، بعد ربع قرن على الغياب ما يزال حياً يرزق في ذاكرتنا ووعينا وأكثر حضوراً من كل الذين حاربوه وحاصروه. ناجي العلي، كان عالياً دائماً في ألقه وصفائه ومواقفه ومبادئه ولهذا لم تحتمله الحياة العربية ولفظته إلى حيث واجه مصيره وحده .. أما كيف تحقق له هذا، فالجواب ببساطة يكمن هناك: في فلسطين التي ظلّت في قلبه خريطة تهديه ولا تتحرك بوصلته إلا باتجاهها، فلسطين كانت زاده وزوادته وسراجه المنير حين تشتد الحلكة وتغيب الرؤية، ويصاب (الأكثر) بعمى الألوان أو يغم الأمر عليهم. كان فارساً في زمن لم تعد تجدي فيه الفروسية.. وكان نبيلاً في مرحلة لا تحتمل النبلاء.. وكان كبيراً في وقت مطلوب فيه من الجميع أن يكونوا صغاراً، وكان حقيقياً في لحظة كان فيها (رأس الحقيقة) مطلوباً بامتياز! نذكر ناجي العلي لنتعلم منه كيف تعشق الأوطان، فهو في حياته وفي موته على السواء كان يتنفس حبيبة اسمها فلسطين. يضعها نصب عينيه ويسير. كل اتجاه لا يوصله بها مرفوض، وكل طريق لا يقربه منها محرم عليه، وكل رسمة لا تفتح أفقاً من أجل الحرية لا تنبغي له. أغلب ظني أن ناجي العلي لم يكن يرسم بأصابعه،بل بقلبه وروحه كأنه كان يضع قطعة منه في كل رسم يرسمه، حتى كانت تلك القطعة الأخيرة/ الرسمة الأخيرة في لوحة العمر التي سفحت على رصيف لندني في ظهيرة خائنة ابتلعه بعدها ظلام لندن إلى الأبد، لكنه ولد في اللحظة التي استشهد فيها ولادة لا تقبل الموت هذه المرة. تماماً مثل أبطال الأساطير والخرافات مع فارق وحيد أن ناجي لم يكن “خرافة” بل رجلاً مناضلاً من لحم ودم تسامت روحه وتسامقت نفسه، ثورياً نقياً صافياً تماماً، حقيقياً بالكامل. نذكر ناجي العلي لنتمرّى في مرآته، كلما استشعرنا عقم المرحلة التي نحيا بها، وصافحنا وجهها العكر طالباً منا نزع جلودنا والتخلي عن جزء من لحمنا ووجودنا لغرباء لا ندري من أي “مصيبة” هبطوا علينا .. ولنوغل في ذواتنا أكثر ونحن نرى قراءته للقضية تتجسد أمامنا على الأرض في دعاوى رخوة عن نصف وطن أو ربع وطن .. عن أجزاء لا تلتم ومعازل لا توصل .. وكأنه - رحمه الله - كان يرى المستقبل ويقرأه في كفه. كان يرى دعاة المساومة يكشرون عن أنيابهم الصفراء. نفتقد ناجي العلي دائماً، وأبداً لن ننساه لأنه واحد من الذين لا يغيبون، واحد من الذين يصنعون حضورهم حتى في الموت .. واحد من قلائل نادرين وجميلين حلموا بالثورة وحملوها على ظهورهم.. وكانوا ساحرين في حياتهم وموتهم.. ذلك السحر الذي نسميه: سحر الكرامة. نذكر ناجي العلي لأنه اسم على مسمى .. فقد نجا وعلا، نجا بنفسه وبفنه وبكيانه من المستنقع الذي خاضه غيره عن سبق اصرار وتصميم... وعلا في مدارج الرقي الثوري إلى سدرة سامقة. نذكره... لنتعلم ذات مرة كتبت جريدة “نيويورك تايمز”: “إذا أردت أن تعرف رأي العرب بأميركا فانظر الى رسوم ناجي العلي”... ترى كيف يمكن الآن معرفة رأي العرب بأميركا بعد أن غاب من كان يدوزن المزاج الشعبي ويديره على إيقاع رسومه؟ يبدو لي أن قوة حضور ناجي العلي التي دفعت الصحيفة لقول هذا الكلام تتمثل في قدرته التأثيرية الهائلة على القراء العرب، ومكانته العالية في قلوبهم، بل إن مقعده في عالم الكاريكاتور ما يزال شاغراً. لقد حظي بأثر لم يمتلكه أحد غيره ـ حتى هذه اللحظة على الأقل ـ ومنذ غادر حلبة هذا الفن لم يأت من يملأ الفراغ الذي تركه. هذه واحدة من الحقائق التي لازمت سيرة ناجي العلي الذي شكل حالة إبداعية شديدة الخصوصية، لها سمت فريد ومتفرد رغم بساطتها الهائلة، وقد ساهمت في تشكيلها أسباب كثيرة، لعل أهمها على الإطلاق هو التوحد الكامل بين ناجي العلي الفنان وناجي العلي الإنسان.. بمعنى براءته من جرثومة الازدواجية او التناقض بين القول والفعل، بين النظرية والممارسة. كان ناجي العلي مثالاً للفنان الصادق حتى الموت في الالتزام بمواقفه التي يعبر عنها فنياً على صعيد حياته العملية. لم تكن الثورة بالنسبة إليه كلمة تقال أو شعار يرفع بل موقف.. وجاء استشهاده على هذا النحو ليضفي على سحر شخصيته وتجربته سحراً زائداً. ثوري بالولادة بماء النار.. بالحبر الكاوي يغمس ناجي العلي “العظم البشري المبري” حسب ما قال أحد رسامي مجلة التايم الأميركية ليهدينا تلك الرسوم الجارحة، القادرة على كشف الزيف وتعرية الخطأ اياً كان صاحبه. وما كان ليفعل غير ذلك وما ينبغي له، وفي تاريخه الشخصي والإبداعي والثوري بل في المفارقات القدرية التي زامنت ولادته ما يؤكد أن هذا الرجل ما كان له أن يسلك طريقاً غير التي سلكها. ولم يكن من قبيل الصدف أن يرى هذا الثائر الاستثنائي النور في العام 1936، هذا العام الذي يحظى باحترام كبير وقدسية غير قليلة في الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، فهو العام الذي شهد واحدة من كبريات الانتفاضات الشعبية الفلسطينية التي عرفت تاريخياً باسم “إضراب الـ 36” واستمر لستة شهور متواصلة. ولد ناجي العلي إذن، في عام الثورة والكفاح، ولقد كان له من بركته نصيب. أما مكان الولادة فلا يقل أهمية عن زمانها، فقرية الشجرة مسقط رأس وقلب وروح ناجي العلي هي القرية التي شهدت “معركة الشجرة” التي تمثل أيضاً قيمة رمزية عليا لدى الفلسطينيين. وفيها استشهد الشاعر الشهير عبد الرحيم محمود صاحب القصيدة الأكثر انتشاراً وشعبية أو قل النشيد الوطني لكل فعل نضالي: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى فاما حياة تسرّ الصديق وإما ممات يغيظ العدا وليس صدفة أن يتشابه مصير الاثنين: ناجي العلي وعبد الرحيم محمود، وأن يستشهد كلاهما بسبب موقفه الإبداعي الملتزم وترجمة القول إلى فعل ثوري على الأرض. وإذا كان عبد الرحيم محمود قد حمل روحه فعلا وليس قولا- كما يفعل الشعراء العرب هذه الايام- وألقى بها بسخاء مذهل بين أحضان الموت لكي يقدم حصته في صنع “حياة كريمة تغيظ العدا”، فإن ناجي العلي لم يكن أقل منه سخاء، بل بذل روحه وفكره وفنه من أجل هدف واحد هو: أن تكون فلسطين حرة، جميلة، كما رآها في احلامه وصورها في أعماله. ولأنها على هذا القدر من الجمال دافع عنها بكل ما في روحه من قوة ووقف في وجه كل من يحاول مصادرة هذا الحلم أو تشويهه أو العبث به. لهذا سن ريشته، وشحذ جرأته ولم يترك صغيرة ولا كبيرة لم يجسدها في رسوماته التي طالما أضحكت وأبكت، لكنها في النهاية “كلفته رأسه”، هذا الرأس “اليابس” الذي واجه كل شيء بصلابة نادرة. قطفوا رأسه بليل لكنهم لم يسكتوا صوته، ولا تمكنوا من تغييبه عن خارطة الإبداع ولا من قلوب محبي فنه، بل على العكس تماماً زادوه بهاء على بهاء وجمالا على جمال، وصنعوا منه رمزاً باقياً خالداً سيستمر الى الأبد، وهذا سبباً آخر يجعلنا نذكره بكل هذا الحنين والحب. مثل اي طفل من أطفال فلسطين كان يمكن لناجي العلي أن يكون، فقد ولد في معمعان الموت المفتوح على أخره. لكن ولادته أحضرت معها مفارقاتها الجميلة، او طوالع سعدها، فكان من الطبيعي أن يختلف الطفل المشاكس، الذي لا يعرف له الهدوء سبيلاً، عن غيره، ومن الطبيعي أن لا يتدحرج على حصى الطرقات مثل غيره من الفتيان. كرم المخيَّم لما بدأت “تغريبة بني فلسطين” في عام 1948، كان لناجي العلي نصيبه منها، واضطر الطفل ابن العشر سنوات إلى الرحيل عن بيته، ورغم أنه كان صغيرا على العذاب والمرارة إلا أنه تجرع سمها وقسوتها في مخيم عين الحلوة في صيدا. هناك في المخيم ما لا يمكن وصفه، وما تعجز العبارة عن سرده من المعاناة التي انحفرت عميقا في ذاكرة الطفل وظلت ملازمة له في سنوات حياته كلها. من تلك الخيمة في عين الحلوة، بدأت رحلة الكفاح الطويل للتعلم والإبداع، وهي رحلة باتت معروفة بكل دقائقها وتفاصيلها للقاصي والداني وليس من جدوى في استعادتها هنا وهي تملأ مواقع الشبكة العنكبوتية.. لكن ثمة جدوى كبرى في استعادة رمزية المخيم في إبداعه. فالمخيم لم يكن مكاناً للجوع والبرد والألم والذل والعذاب فقط، وإنما مكاناً للصمود والنبل الوطني والأخلاقي ومحضَناً للثورة والأمل ووعود النصر. أما على المستوى الشخصي فمارس مع ناجي العلي كرماً خاصاً بحيث منحه أجمل ما لديه، وقدم له على طبق من ألم تلك المنحة/ المحنة التي تسمى الفن. كان المخيم ملهمه الأول، ولما بدأت روحه في العمل رسم لوحة تمثل خيمة وفي قمة الخيمة بركان ترتفع منه يد مصممة على التحرير. وسوف تكون هذه الرسمة سبباً في أن يتعرف إلى الشهيد غسان كنفاني، توأمه الروحي والنضالي، وشبيهه في السيرة والمسير، الذي أدخله إلى عالم الصحافة والإبداع والرسم الكاريكاتوري... وسيكون المخيم نبعه الذي يمتح منه كل أعماله. والجدار الذي يستند إليه عندما يترنح المتهافتون والمساومون.. والملاذ الذي إليه يؤوب عندما تفتح المنافي أشداقها لتبتلعه. وهو الوفي الذي بقي مخلصاً للمخيم ولم يتنكر له أو لرمزيته السياسية كما فعل الكثيرون أمام إغراءات المال والجاه والسلطة. لم يمنحه المخيم سوى “خيمة” ثم بعد زمن طويل وهبته الخيمة “حنظلة”!. هذا الحنظلة الذي يحمل نفس العمر الذي كان ناجي يحمله حين غادر فلسطين، سيصبح هو أيضاً حارس الروح وحاميها من التبدلات، وسيَّد رسوماته والرمز الأكثر حضوراً بين شخصياته، وسرعان ما نضجت الموهبة التي وجدت يداً ترعاها، وشقت الارض، ونمت، وترعرعت، وآتت أكلها على أجمل نحو ممكن. بينما ظلت الخيمة مقيمة في الروح، وظل المخيم حاضراً في الوعي حتى في لحظة الموت، صار مدار الوصية. المثوى الأخير الذي سيحتضن الرأس المتعب والجسد المرهق بخيانات الأصدقاء وطعنات الغادرين.. لكن الوصية ظلت حبراً على ورق.. وكان العالم بخيلاً حتى في أن يمنح الفنان مكاناً ترتاح فيه عظامه. الموت رسماً كان الكاريكاتير سلاح ناجي في معركته ضد الظلم، لم يملك سوى ان يغمس ريشته في دمه لكي يصور فلسطين كما يليق بها ان تكون. انحاز لوعيه النضالي وحمل هم الوحدة والثورة والحرية وفلسطين. لم يكف يوما عن ايمانه بالديموقراطية ومطالبته بالوعي والمسؤولية لهذا لجأ الى النقد حين رأى المسيرة مهددة وبحاجة الى تصحيح، لم يجفل ولم يتملق ولم يكن من المائلين مع الريح حيث تميل. فنياً، لم يكن ناجي يشعر أبداً بالرضا عن عمله، وهذا شعور كل فنان حقيقي. كان في عراك دائم مع هذه اللغة التعبيرية التي يشعر بالعجز عن توظيفها “في نقل همي لأن همي كبير”. وبسبب هذا الإحساس مقروناً مع الرغبة في الوصول إلى الناس بكل الطرق خاض ناجي العلي في التجريب،جرّب وبدّل وغيّر في طرق الرسم لكي يصل إلى الحالة التعبيرية المشتهاة. واستعان بالموروث الشعبي لا سيما الأمثال الشعبية ومفردات اللباس التي تحمل عنوان الهوية الفلسطينية والعلم والكوفية والبندقية وغيرها مما يجعله مفهوماً، واضحاً، لأن الوضوح كان غايته الأساسية حتى لو تغاضى أحياناً عن فنية الصورة. وتجاوبت رسوماته مع حالات الوطن والناس وما يجري على الأرض، فرسم أحياناً بدون تعليق مكتفياً بما تحمله الخطوط والكتل والشخصيات من دلالات، واستخدم التعليق والكلام في أحيان أخرى. واستطاع في المحصلة أن يضع بصمته التي لا تنسى في فن الكاريكاتير العربي بل والعالمي. وها هي رسومه تؤشر عليه رغم أنها لا تحمل توقيعه. يكفيه اختراع حنظلة الذي بات ماركة مسجلة اسمها ناجي العلي. ولم يكن ناجي العلي صاحب فن ترفيهي ولا تسلوي، وكان آخر ما يفكر فيه إضحاك الناس أو إلهاءهم بل سعى إليهم في أماكنهم. خاطبهم باللغة التي يفهمونها ولم (يتمرجل) عليهم كما يقول هو نفسه. وفي الوقت الذي كان الكثيرون يتصورون أن فن الكاريكاتور فنا للنخبة أنزله ناجي من برج النخبة العاجي وأطلقه حافياً في الحارات والشوارع ليعيش بين الناس العاديين بكل مستوياتهم، وليصبح رفيقهم الصباحي الذي لا يحلو فنجان القهوة الا به. لقد أدرك ناجي العلي أن قيمة الكاريكاتور السياسي تعود في نهاية المطاف إلى التأثير والصدى العميق الذي يتركه في نفس المشاهد بوصفه كائناً اجتماعياً سياسياً، لا سيما في فلسطين حيث يحتل الهم السياسي المرتبة الأولى لدى الفلسطيني ويشكل شغله الشاغل ويستحوذ على شغاف روحه وقلبه، ولعل أحد أسباب هذا التعلق بفن الكاريكاتور أنه ينفس عن الفقر والألم الذي يعتصره ويفرج عن الخيبة التي تصهل في داخله، ويتيح له أن يسخر ممن يظن أنهم السبب في همه ومأساته تماماً كما هي النكتة بالنسبة للشعب المصري، وما أكثر الرسومات التي تحولت على لسان الفلسطينيين إلى نكات سياسية جارحة “تفش الخلق” حسب التعبير الدارج، أما السبب الثاني فلعله يتمثل في الصدق الفني والمضموني والبعد عن التعقيد والفذلكات والاقتراب من واقع الناس ومستوياتهم المختلفة كل هذا جعل من فن الكاريكاتور واحداً من الطرق التي تجد صدى واسعاً لدى الفنانين والجمهور على السواء. وفي حالة ناجي العلي تضافرت عوامل أخرى بالإضافة الى العوامل السابقة لتصنع له هذه المكانة الخاصة عند القراء. لقد كان فنه حقيقياً، صادقاً، تحريضياً، كاسحاً في صراحته، لا يجامل ولا يعرف النفاق. كما كان محمولاً على الأمل، مبشراً بالنصر، بولادة إنسان عربي جديد كان الفنان يؤمن أنه آت لا محالة. كان ناجي يؤمن أن مهمة الكاريكاتور “تعرية الحياة بكل ما تعني الكلمة... الكاريكاتور ينشر الحياة دائماً على الحبال وفي الهواء الطلق، وفي الشوارع العامة... إنه يقبض على الحياة أينما وجدها لينقلها إلى أسطح الدنيا حيث لا مجال لترميم فجواتها ولا مجال لتستير عورتها. الصورة عندي هي عناصر الكادحين والمقهورين والمطحونين، لأنهم الذين يدفعون كل شيء ثمناً لحياتهم، غلاء الأسعار، الذود عن الوطن، تحمل أخطاء ذوي السلطة، كل شيء لديهم صعب الحصول عليه، كل شيء قاس يحاصرهم ويقهرهم، لكنهم يناضلون من أجل حياتهم ويموتون في ريعان الشباب، بلا قبور بلا أكفان، هم دائماً في موقع دفاع مستمر لكي تستمر بهم الحياة، أنا في الخندق معهم أراقبهم وأحس نبضهم ودماءهم في عروقهم، ليس لي سلطة لأوقف نزفهم، أو أحمل عنهم ثقل همومهم لكن سلاحي هو التعبير عنهم بالكاريكاتور، وتلك أنبل مهمة للكاريكاتور الملتزم”. لقد اكتشف ناجي العلي أن له خيالاً فاتكاً في شدة تأثيره، فامتطاه إلى أقصاه ووزعه على الفقراء والمضطهدين والمقهورين بالتساوي.. وزعه كله، بلا حساب. ليس لأنه لم يكن ماهراً في الحساب بل لأنه أتقن الحسبة الوحيدة الصحيحة التي أخذته الى الوضوح الجميل فيما غرق غيره في ضباب رؤاهم ورؤياهم – إن كانت لهم رؤيا - وجلسوا يحصون الربح والخسارة، ويجردون حسابات الحقل والبيدر. إلا ناجي العلي.. لم يكن ممكناً ولا منطقياً أن يكون غير ما كان عليه. هكذا خلق، وهكذا قرأ كتاب الأرض التي امتلأت روحه بنسغها وشكلت كريات دمه. لا معنى للفن عند ناجي العلي إن لم يكن صناعة الأرواح الجميلة، والجمال عنده ليس الجمال الذي تحدده مقاييس ومعايير الجمال الشكلاني بل النقطة المحورية فيه هي إنسانية الإنسان. وثمة معيار آخر خاص مفاده: بقدر ما تكون قريباً منها، عاشقاً لها، متماهياً فيها، ممهوراً بوشمها ومائها، تكون جميلاً. أما الهاء فعائدة بالتأكيد على فلسطين... فلسطين التي ظلت بالنسبة إلى ناجي العلي وطناً كاملاً لا يجر وممنوع من الصرف. ناجي العلي في حياته وفي موته على السواء كان يتنفس حبيبة اسمها فلسطين. يضعها نصب عينيه ويسير. كل اتجاه لا يوصله بها مرفوض، وكل طريق لا يقربه منها محرم عليه، وكل رسمة لا تفتح أفقاً من أجل الحرية لا تنبغي له. ولقد تمادى كثيراً في الإخلاص للوطن والقضية إلى أن قتله إخلاصه. وعندما غرق الضبابيون في عماءهم وكانت عيونهم في غطاء عن ذكرها لم ير هو سواها. فلسطين جنته الحقيقية وناره الروحية ونبراسه وفردوسه وبوصلته الأبدية. كان فارساً في زمن لا يقبل الفروسية .. وهب الثورة أجمل ما فيه .. فوهبته أسوأ ما فيها. عاش في النور فسهل اصطياده على من يعيشون في الظلمة.. لكن عزاءنا أنه ترك لنا شيئاً منه: الفكرة التي يمثلها. بيد أن المرء يتساءل: من أين جاءت هذه الصلابة؟ من هناك، من الروح التي خضعت لتدريب صارم منذ سني الطفولة الأولى على الحب.. من المخيم الذي انحفر في قلبه وعقله وشكل العنوان الأول في وعيه الثوري والسياسي والاجتماعي. لقد شرب ناجي العلي روح الأرض حتى الثمالة.. ارتشفها بالكامل وأخفاها في دمه، تماماً كما يخفي العاشقون أسماء عشيقاتهم تحت ألسنتهم أو كما تذوب في حبة التين الحلاوة. فيما كان آخرين يفهمون الوطن كما تفهم عنزة قصيدة!، كما لو أنهم يتلقون تدريباً يومياً على أن يكونوا لاعبين سيئين أو بيادق في رقعة شطرنج. كانت صورته وكلماته أقوى من الرصاص ربما لهذا السبب لم يستطع أعداؤه التخلص منه إلا... بالرصاص.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض