10 سبتمبر 2011 00:50
بين آخر ما صدر للشاعر والروائي الأردني إبراهيم نصر الله من نتاج غزير ومميز مجموعة “عودة الياسمين إلى أهله سالماً” وهي مختارات من قصائد الشاعر مأخوذة من أربع مجموعات شعرية صدرت بين عام 1989 وعام 2007. وجاء الكتاب الصادر عن “الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، في 191 صفحة القطع المتوسط.
وحمل الغلاف تفصيل من لوحة للفنان فلاح السعيدي وتصميم الغلاف واللوحات الداخلية للفنان محمد نصر الله.
ونصر الله المولود لأبوين فلسطينيين هجرا من أرضهما شاعر وروائي ذو نكهة فكرية وفنية مميزة ومسيرة دائمة من التزام القضايا الإنسانية حتى -بل خاصة- من خلال القضايا القومية التي تعالج عنده بعمق إنساني وهو بعد لو جردت منه أي أعمال قومية ووطنية لتحولت إلى مجرد خطب ومواعظ و”كليشيهات” لا قيمة لها بل إنها في أفضل حال لا تكون أكثر من قيمة وقتية تزول بزوال مرحلة ما وجل ما يمكن أن تقدمه لا يعدو كونه قيمة تاريخية.
أما الناحية التاريخية خاصة في روايات ابراهيم نصر الله فهي غالبا ما تكون مركبا للوصول الى الإنساني. وفي شعره تترسخ الناحية الإنسانية في شكل فني موح. وحتى حيث يكتب الفكرة أو حيث ترد عنده حكمة أو ما يماثلها فهي لا تأتي بقالب فني فحسب بل بروح فنية إنسانية. ومن أوضح الأمثلة على ذلك مجموعة أعمال روائية له شكلت سجلاً تاريخياً وإنسانياً فنياً لآلام الفلسطينيين.
القصائد تراوح بين قصيدة نثر وبين قصيدة بتعدد أوزان وقواف. شعره عامة يجمع بين الإيقاع الموسيقي غير الصاخب حتى في النثري منه وبين الصورة الموحية والعاطفة التي تسيل بسهولة فيه حتى حيث في الأحيان التي تبدو فيها لنا خفية إلى حد ما. والقصر يطغى على القصائد إلى حد انه يمكن وصف غالبها بأنه قصائد قصيرة. نقرأ القصيدة التي حملتها دفة الكتاب حيث يقول إبراهيم نصر الله: “في البدء لم يكن هذا الخريف..
كانت عاشقة!
قد أمسكت بزهرة ورددت في سرها: يحبني.. لا لا يحبني.. يحبني.. لا لا يحبني
وحين انتهت أوراقها ولم يجب أحد
مضت إلى الحقول واحدا فواحدا لتسأل الزهور والأبد
جورية.. زنبقة.. نوارة: يحبني.. لا لا يحبني.. يحبني.. لا لا يحبني
ولم يجب أحد
مضت إلى الأشجار تخصف الورق: يحبني.. لا لا يحبني.. يحبني.. لا لا يحبني
ولم يجب أحد
واصفرت البلد.
وفي القصيدة الأولى وعنوانها “حيرة” يأتينا فيها الشاعر بما يحول الفكرة إلى صورة وحالة نفسية وبما يذكر بقول السيد المسيح عن ان لطيور الأرض وحيواناتها أمكنة تأوي إليها فإلى اين يذهب ابن الإنسان. يقول “في البداية” قالت الخيل: أريد سهولا
قالت النسور: أريد القمم
قالت الأفاعي: أريد جحورا
وظل الإنسان حائرا !!”.
وفي القصائد على رغم الفارق الزمني بين بعضها والبعض الآخر تلك الخصائص التي تدل على “شخصية “ محددة وعلى صدورها عن شاعر نجد وحدة بين ما قاله قبل سنوات وما قاله أمس. في قصيدة “اتحاد” يتحدث عن الخوف من الموت ثم عن تجاوز هذا الخوف مع ان الموت لا يزال محتما.
يقول الشاعر: في البداية كنت أركض كالمجنون
وأنا أغلق المنافذ
في وجه كل شيء يحمل الموت
كنت خائفا
إلى أن خرجت إلى الشوارع”. هنا نجد كأن في الأمر طفلا خائفا لكن خوفه يتوزع بين الجماعة ويتشتت مع ان الناس كلهم سيدركهم الموت. كم تروضنا الحياة. في قصيدة “غرائب” نصل إلى فكرة فنقرأ كيف يتحول التقريري إلى كلام مموسق بهدوء: لا شيء يستطيع ان يعلو
مثل إنسان
ولا شيء يستطيع
أن ينحدر
أيضا”.
في قصيدة “لمسة” دفء وإيحاء وطمأنينة تتجسد بهدوء. يقول: “بلمسة من يدك الدافئة
هكذا دائما
تعيدين الغريب إلى نفسه”. وفي “أحلام” اختصار موح لكلام كثير عن الظلم والاستبداد والقمع. يقول “أيها النائم
ما دام الشرطي ساهرا تحت شباكك
فان كل ما تدخره من أحلام
سيمضي معك إلى مكان واحد
هو القبر!”.
ونقرأ في “نداء” هذه الأسطر التي تنضح بحزن نبيل. يقول “لا تضع أيها الصديق” مثل غيمة فقدت الأمل” في ان تكون مطرا”. وفي “صدق” يقول في طرافة مؤثرة “ذلك الرسام/ بكى كثيرا/ عندما لم يستطع/ رسم الدمعة”. ويتحدث عن مألوف الكلام كأن يقال إن شخصا ما بقيت طفولته ترافقه ولم يتخل عنها في كبره لكنه يأتينا بصورة تختلف عن التصور العادي. ففي قصيدة “حيطة” يقول “لم أترك طفولتي يوماً تبتعد كثيرا” ان الوحوش تتجول في الجوار” ولذا لم أجد بدا من الاحتفاظ بها” حتى اليوم.” قصيدة “مخاوف” تختصر كثيرا من سمات شعر ابراهيم نصر الله. وفيها نقرأ: “أخاف مرور اسمك الآن عبر الممرات..” في لحظات السكون” وفي خطوات الهواء” أخاف مرور اسمك الآن كالريح” بين الندى وحواف البكاء” أخاف مرور اسمك الان في النور” أو في العماء” أخاف مرور اسمك الآن في الماء” على عتباتي أغفى الخريف” وبين ضلوعي ألف شتاء”.
المصدر: بيروت