كانت الصين تعيش عقوداً من الفقر قبل أن يطير نائب رئيس مجلس الدولة دينغ شياو بينغ إلى اليابان في عام 1978 لإبرام معاهدة سلام تاريخية بين البلدين. يبدو أن رحلته لم تكن تستهدف السياسة فقط، فقد زار أيضاً مصنع نيبون ستيل الشهير الذي كان يعد في ذلك الوقت نموذجاً لمصنع الصلب الحديث القادر على قيادة العالم في هذه الصناعة.
فقد كان مصنع الصلب الياباني هو بالفعل النموذج الذي تبنته الصين لبناء مصنع عملاق للصلب في شانغهاي، ويدعى باوستيل. وكان هذا المصنع هو محور تحويل الاقتصاد الزراعي الصيني إلى قوة صناعية.
وكانت قيمة باوستيل الأولية باهظة الثمن، حيث بلغت 6 مليارات دولار، أي ما يعادل 36 ضعف احتياطي الصين من النقد الأجنبي في ذلك الوقت. ويذكر العالم تعليق السيد دنغ على هذه التكلفة العالية حيث قال: «إذا أردنا القيام بذلك، فيجب أن نضمن أن يكون ذلك كبيراً».
دينغ شياو بينغ، الذي توفي في عام 1997، لم يكن ليعرف كم هو كبير. في وقت زيارته لليابان، كانت حصة الصين في حجم الإنتاج العالمي من الصلب 4%. هذا العام، الصين في طريقها لإنتاج أكثر من نصف ما يحتاجه العالم، وهو رقم قياسي يبلغ 923 مليون طن متري، وفقاً للتقديرات الرسمية. وبقياس حجم إنتاج الصين عبر السنوات الماضية نجد أنها قد تفوقت على الولايات المتحدة في إنتاج الصلب في عام 1993، وسرعان ما تجاوز اليابان في عام 1996، وفي العام الماضي أنتجت ثلاثة أضعاف ما أنتجته الولايات المتحدة وروسيا واليابان مجتمعة. وبهذا تصبح الصين المصدر الرئيسي للصلب المستخدم في صناعات بناء السفن والسيارات والصناعات الثقيلة الكبرى الأخرى في العالم.
في الولايات المتحدة، يُستخدم الفولاذ الصيني في كل شيء، بدءاً من بناء الجسور وأنابيب النفط، إلى الأجهزة المنزلية وأدوات المائدة.
أربعة عقود
وساعد ظهور الصين كمركز للصلب على مدى أربعة عقود بشكل مستمر، مدفوعاً بالطلب العالمي وبدعم من الإعانات الحكومية، والقروض الرخيصة، والإعفاءات الضريبية، وساعدت تلك الصناعة الصين على أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد أن كانت من أحد أفقر البلدان. بل إن التفوق الصيني الحالي في صناعة الصلب يعد أحد المحركات الرئيسية للتوترات التجارية في العالم.
واستدعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مارس الماضي ما أسماه دواعي الأمن القومي، وذلك عندما فرض رسوماً جمركية بنسبة 25% على جميع واردات الصلب. جاء ذلك استناداً إلى تقرير لوزارة التجارة الأميركية قالت فيه إن واردات الصلب، التي تصل من الصين، أسفرت عن إغلاق نصف أفران صناعة الصلب في الولايات المتحدة منذ عام 2001 وخفضت العمالة في صناعة الصلب بنسبة 35%.
وقالت الوزارة: «تتأثر الأسواق الحرة عالمياً تأثراً سلبياً بإنتاج فائض عالمي ضخم مزمن من الصلب تقوده الصين. الصين هي في قلب الأزمة».
وبالنسبة لأي شخص يريد أن يفهم كيف أصبحت الصين مهيمنة على صناعة الصلب، والانعكاسات العالمية لهذا التحول، فإن قصة باوستيل توفر إجابات كافية. وقد أعيدت تسمية باوستيل رسمياً ليصبح مجموعة تشاينا باوستيل. وهي ثاني أكبر مصنع لإنتاج للصلب في العالم، ويقع المجمع الشاسع للشركة عند مصب نهر اليانغتسي، وتحيط به الطرق السريعة غير الممهدة وجدران بارتفاع 10 أقدام. فهذا المصنع في اعتقاد المسؤولين في الصين، أصبح هدفاً للمنافسين الأجانب من أوروبا والولايات المتحدة.
في غضون أشهر من زيارة اليابان، أصبح السيد دينغ رئيس الوزراء والزعيم الأول للصين، وواصل باوستيل ازدهاره في ظل قيادة السيد دينغ للبلاد، حيث افتتح في ذلك الوقت مقر المصنع في منطقة باوشان والتي تعني «جبل الكنز» وذلك على مساحة شاسعة تبلغ سبعة أضعاف مساحة مانهاتن. وأظهرت صور وسائل الإعلام الرسمية أعداداً لا نهائية من العمال وهم يتدفقون داخل المصنع العملاق.
يذكر أن تقريراً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية صدر في عام 1979، ورفعت عنه السرية مؤخراً، قال: «يجب أن تكون الصين قادرة في نهاية المطاف على تطوير صناعة الصلب التي يمكن مقارنتها بحجم صناعات الصلب في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي واليابان». والآن تبين أن تقدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لحجم الصين كان أقل من الواقع.
سوق الفولاذ
في البداية، حددت الصين صادراتها من الصلب بنسبة 10% من إنتاج باوستيل، سعياً منها إلى ضمان تلبية الطلبات المحلية أولاً. وقال تشاي جين لي، وهو مؤرخ كتب عن السنوات الأولى من باوستيل: «لم تخطط الصين في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي للمنافسة في سوق الفولاذ الدولي في أي وقت قريب».
ثم اكتشفت الصين كيف ساعدت الصادرات على حصول البلاد على العملة الصعبة، لذا تم رفع سقف التصدير في أواخر التسعينيات. وساعد انتشار المصانع المملوكة للدولة المنتشرة جميع مقاطعات الصين البالغ عددها 23 مقاطعة على رفع حجم صادرات الصلب بسرعة مذهلة.
وبحلول عام 2016، بلغ حجم العمالة في مجال صناعة الصلب في الصين نحو خمسة ملايين عامل. وقد استوعبت هذه الصناعة الأعداد المتزايدة من العمال الصينيين الباحثين عن عمل، حيث غالباً ما توفر هذه المصانع المساكن والمستشفيات والمدارس المجانية أو المدعومة.
وأدى الارتفاع الكبير في إنتاج الصلب في الصين إلى انخفاض الأسعار العالمية بنسبة 57% من عام 2011 إلى عام 2015، مما أدى إلى عشرات الآلاف من عمليات التسريح في جميع أنحاء العالم. وقد حاصر عمال الصلب في عام 2016 مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، مطالبين باتخاذ إجراءات للحد من الإغراق الصيني.
الدعم الحكومي
ووافقت الصين عندما انضمت إلى منظمة التجارة العالمية للإفصاح الكامل عن الدعم الحكومي المقدم لمصانع إنتاج الصلب في البلاد. ولكن مرت خمس سنوات قبل أن تقدم الصين تقريرها الأول في هذا الشأن، والذي يتضمن فقط إعانات الحكومة المركزية ولا يتضمن المجالس الحكومية للمقاطعات.
وقالت الصين في تقرير لمنظمة التجارة العالمية هذا العام، إنها بذلت أفضل جهد لتوفير الوضوح بشأن الإعانات المقدمة لمصانع إنتاج الصلب، مشيرة إلى أن المنظمة لم توضح في طلبها للسلطات الصينية تحديد الإعانات الحكومية المحلية.
واضطرت بكين مؤخراً، والتي تواجه أسعاراً عالمية متدهورة في أسواق الصلب، إلى إغلاق مصانع أقل إنتاجاً للصلب. كما ساعدت الحكومة باوستيل من خلال دفع عملية دمج مع أكبر منافس لها، وهي شركة ووهان للحديد والصلب، في عام 2016.
وتقدم مصانع باوستيل، التي تصدر إنتاجها إلى 40 دولة، الصلب للعديد من الشركات الصينية التي تهيمن على البنية التحتية للتجارة العالمية. وتعد هذه الشركة أكبر مورد لشركة مجموعة الصين الدولية للحاويات البحرية، وهي شركة مملوكة للدولة تقوم بتصنيع نصف حاويات الشحن في العالم.
وتبحث شركات صناعة الصلب الصينية عن الهيمنة على صناعة هيكل الحاوية التي تجرها الشاحنات على الطرق السريعة عبر الولايات المتحدة.
وقال فرانك كاتز، رئيس مجلس إدارة شركة شيتا شاسيه الأميركية التي تتخذ من بنسلفانيا مقراً لها: «لقد شاركت شركتنا بالفعل في الريادة في كل من حاويات وشاسيهات الحاويات في السبعينيات من القرن الماضي. واليوم، لا أحد يبني حاويات في الولايات المتحدة. لقد تم بناؤها جميعاً في الصين».
يذكر أن مصانع باوستيل تزود شركة شنغهاي شينخوا للصناعات الثقيلة، بالصلب وهي مؤسسة حكومية أخرى، تنتج 70 % من الرافعات للموانئ في العالم.
وقال جون وولف، الرئيس التنفيذي لـ «اتحاد الموانئ البحرية الشمالية الغربية» في الولايات المتحدة، الذي يدير عمليات الشحن في ميناءي سياتل وتاكوما في واشنطن: «لا يوجد أي مصنع أميركي مكافئ لرافعات السفن إلى الشاطئ، وهناك القليل من البدائل للرافعات الواردة من الصين على الصعيد العالمي».
بقلم: شوين وي ياب