7 سبتمبر 2011 23:57
راهبة قرأت مستقبله الجامح في السينما
لا يمكن لأي شخص مهتم بمسيرة الممثل الأميركي دينزل واشنطن السينمائية أن يصفه بالممثل البارع، وفقط.. فهي صفة شائعة للعديد من الممثلين حول العالم، ولكن بالنسبة لواشنطن الذي يجد نفسه موجها وبشكل قدري نحو التعبير المفعم بالجاذبية القصوى، فإن التمثيل بالنسبة له بات يشكل نضالا داخليا وميثاقا أو رباطا روحيا لا ينفصل عن فلسفة تعامله مع الحياة والفن معا.
فعندما كان دينزل في فترة مراهقته تائها ومشتتا ومدمنا على الهيروين بعد طلاق والديه، شاهدته إحدى الراهبات بصحبة والدته فقالت لها: “إن ابنك سوف يخاطب الملايين من البشر في المستقبل”!
ولم يكن أحد من عائلته يتوقع أن هذا الفتى الطائش ـ من مواليد العام 1954 في مدينة نيويورك ـ سوف يكون في يوم ما ذا شأن مع كل تلك الظروف المربكة والمحبطة التي خبرها في حياته مبكرا.
ولكن الكلمات الغامضة والمحيرة التي أطلقتها الراهبة في ذلك الزمن البعيد أصبح مكشوفا ومجسدا بقوة بعد حصول الفتى الضائع والمدمن على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل في دورة العام 2001 قياسا لما قدمه من أداء متوهج واستثنائي في فيلم “يوم التدريب”، ولم ينس دينزل في هذه المناسبة المدوية أن يهدي تمثال الأوسكار للممثل العبقري سيدني بواتيه، الذي يعتبر أول ممثل أفرو ـ أمريكي ينال هذه الجائزة، وكان واشنطن هو الشخص الثاني الذي ينال نفس الجائزة بعد 36 عاما من الانتظار والصراع المحتدم الذي لم يخل بدوره من سقطات وميول عنصرية جعلت الممثلين السود ولزمن طويل بعيدين عن حيازة صيت مضاعف وشهرة مدوية في المناخ الإقصائي والشرس لهوليوود.
محاكمة العنصرية
كثيرة هي الأعمال التي تصدى لها واشنطن وكانت تنتقد وتحاكم وتبحث في جذور هذه العنصرية وفي منابع الاضطهاد العرقي الذي تعرض له السود في أميركا في أزمنة وظروف مشينة ومطبوعة كوصمة عار في التاريخ الأمريكي.
ففي فيلم “مجد” Glory الذي أداره المخرج إدوارد زويك في العام 1989 وحصد من خلاله دينزل واشنطن جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد، تناولت قصة الفيلم المأخوذة من أحداث حقيقية تلك الحرب الدموية المنهكة التي نشبت بين الجنوب والشمال في اميركا العام 1863، وتطوع فيها السود بحثا عن المجد والشرف والحرية، ولكنهم في المقابل عانوا من ظلم وتعسف قادتهم البيض، مما أجبرهم في النهاية على القيام بثورة مضادة تعيد لهم كرامتهم وتكافئ تضحياتهم الشخصية في تلك الحرب الأهلية المريرة.
ومع مخرجه المفضل (سبايك لي) قدم دينزل واشنطن واحدة من أهم أدواره على الإطلاق عندما تصدى في العام 1992 لتجسيد شخصية المناضل الأسود مالكوم إكس، وكان دوره مبهرا ومؤثرا ليترشح من خلاله لجائزة أفضل ممثل في حفل الأوسكار في ذلك العام، والتي لم تذهب إليه في النهاية رغم كل الآراء النقدية المسبقة التي أجمعت على استحقاقه لها، خصوصا أن شخصية بقيمة وقامة الداعية المسلم مالكوم اكس كانت بحاجة للتماهي المطلق مع التبدلات النفسية والتمزقات الروحية التي خبرها مالكوم سواء في مرحلة الطفولة أو في مرحلة النضال الحقيقي من أجل تحقيق حرية السود في أميركا، وفي زمن مقلق وحرج في تاريخ أميركا الحديث، ولكن هذا الأداء الخارق لواشنطن لم تغفله عين المحكمين في مهرجان برلين السينمائي ذلك العام حيث نال من خلاله جائزة الدب الفضي عن فئة التمثيل الرجالي.
في فيلم آخر بعنوان “جون كيو” جسد واشنطن دور الأب الذي يكافح من أجل إنقاذ حياة طفله، ولكن الإجراءات الطبية والإدارية المعقدة حولته من شخص مسالم وفي لحظة انفعالية وغاضبة إلى شخص آخر يضطر لحجز الرهائن في المستشفى والدخول في مفاوضات يائسة مع الشرطة من أجل علاج سريع لابنه المشرف على الموت. الفيلم بدوره فتح ملفات مغلقة حول قانون الضمان الصحي، وحول التعامل اللاإنساني عندما يكون المريض من الملونين والسود.
شارك واشنطن في أربعين فيلما حتى الآن، وتصدى لعملية الإخراج في فيلم بعنوان “أنطون فيشر” عالج فيه القصة الحقيقية لبحار أسود أراد اقتحام عالم هوليوود كي يصبح كاتبا للسيناريو، ولكنه اصطدم بالكثير من العراقيل الخفية والملموسة والتي لم تستطع في النهاية أن تمنعه من تحقيق حلمه الشخصي وتحدي كل الظروف المعاكسة.
المناضل الاجتماعي
ورغم اشتراكه في عدة أفلام تتخذ من الإثارة الخالصة مطية لتحقيق أرباح تجارية مقنعة، خصوصا مع الأخوين ريدلي وتوني سكوت، اللذين لا تخلو أعمالهما أيضا من بعض المعالجات الفنية المتفردة، إلا أن ولع واشنطن بالتمثيل في أفلام تميل لعالم الماورائيات والألغاز غير المفسرة كان هو المحرك أو الدافع لإشباع فضوله الشخصي لمجابهة الأسئلة الوجودية والدينية الغامضة، ففي فيلم “سقوط” يجسد دور التحري الذي يقع ضحية لقوى شيطانية تحول حياته العائلية إلى جحيم، ورغم أجوائه المخيفة نوعا ما، فإن الفيلم لا يمكن تصنيفه ضمن أفلام الرعب المجانية والرخيصة، لأنه استند على معلومات تاريخية ودينية موثقة حول الكائن الشيطاني الماكر الذي يدعى (عزازيل) والذي يتلبس أجساد ضحاياه واحدا بعد الآخر حتى يتحقق خلوده الدنيوي، وحتى ينجح في تعميم الفساد والشرور على الأرض.
أما آخر أفلامه التي شاهدناها مؤخرا في صالات السينما وهو فيلم “كتاب إيلاي” فقد اختار واشنطن أن يتصدى فيه لدور المحارب الضرير في مناخ كارثي وموصول بفكرة نهاية العالم، حيث يسعى هذا المحارب وبحس رهباني وديني إلى إيصال كتاب يتضمن تعاليم سرية يمكن لها أن تعيد ترميم هذا العالم المحطم والموشك على الانقراض بعد اقتراب الشمس من كوكب الأرض، واختلال التوازن والبيئي الإيكولوجي، ورفض واشنطن في الفيلم الاستعانة بممثلين بدلاء يتولون القيام بمشاهد القتال الخطرة، وهو تصرف يدلل ومن دون شك على مدى افتتان هذا الممثل بعمله المهني، والذي لا يرى أن ثمة حواجز تمنعه من الوصول إلى أقصى طاقاته الأدائية والجسدية كي يؤمن لفيلمه قدرا كبيرا من الأمانة والمصداقية.
ومن أفلامه العديدة التي يمكن استرجاعها هنا كنماذج لامعة لما قدمه من أداء جامح وفاتن نذكر فيلم “الإعصار” الذي جسد فيه قصة نهوض وسقوط الملاكم الشهير روبن كارتر الملقب بالإعصار، وهناك أيضا فيلم “رجل على خط النار” الذي قدم من خلاله دور الحارس الشخصي الذي يقع ضحية لنبله وشجاعته أثناء تصديه لعصابة شرسة في أدغال أميركا الوسطى، ونذكر أيضا أداءه الملفت في فيلم “تذكّر الجبابرة”، ولا يمكن إغفال أفلام أخرى هنا مثل “الشيطان في رداء أزرق” و”المرشح المنشوري” و”تحت الحصار” و”لا يمكن إيقافه” وغيرها من الأعمال الماثلة في ذاكرة السينما المعاصرة التي لا تستعيد سوى الأشخاص الرائعين الذين عززوا تأثيرها السحري على المشاهدين في كل مكان.
إنه الممثل الذي يمتلك ذخيرة أدائية وافرة بعد أن أسس نفسه جيدا على خشبة المسرح، والذي قال عنه الرائع (توم هانكس) أثناء عملهما معا في فيلم “فيلاديلفيا”: “إن الاشتغال مع دينزل واشنطن أشبه بدخول مدرسة متفردة ونادرة في فن التمثيل”، فالمتابع لأعمال واشنطن يعثر على كم هائل من التنويعات الأدائية وتجسيد القصص الواقعية والافتراضية الموزعة على التراجيديا والكوميديا والقصص التاريخية وتناول سيرة المشاهير في عالم الجريمة والرياضة والفن والصحافة والمحاماة، وحتى في عالم النضال الاجتماعي والذي يبدو أن دينزل واشنطن سيظل واحد من أهم النشطاء السينمائيين الذين يعملون من خلال الفن والموهبة الشخصية على تأكيد ونشر مقولات هذا النضال والمتمثلة في العدل والمساواة والتخفيف من آلام البشر في كل بقعة من هذا الكوكب الأرضي المبتلى بالمجاعات والقلاقل والحروب التي باتت تتناسل مثل نبت وحشي لا يعرف الذبول أو التوقف.