السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حيلة «عزازيل»: يوسف زيدان تخفى وراء قناع المترجم لنبش التاريخ و «رقوقه»

حيلة «عزازيل»: يوسف زيدان تخفى وراء قناع المترجم لنبش التاريخ و «رقوقه»
7 سبتمبر 2011 23:54
وأحدث مثال لدينا على هذا السلوك الإبداعي الموارب المتمترس خلف قناع الترجمة هو رواية “عزازيل” ليوسف زيدان التي صدرت سنة 2008 فأثارت لغطاً لم ينته بعد، ولا سيما في الأوساط القبطية في مصر وخارجها. أول ما نطالعه في الرواية هو “مقدمة المترجم” المؤرخة بتاريخ 4 أبريل 2004 التي يقول في فقرتها الافتتاحية: “يضم هذا الكتاب الذي أوصيت أن ينشر بعد وفاتي، ترجمة أمينة قدر المستطاع لمجموعة اللفائف (الرقوق) التي اكتشفت قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية الحافلة، الواقعة إلى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية.....” ثم يختتم تلك الفقرة بقوله: “وقد وصلتنا هذه الرقوق بما عليها من كتابات سريانية قديمة (آرامية) في حالة جيدة، نادراً ما نجد مثيلاً لها، مع أنها كتبت في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، وتحديداً: قبل خمس وخمسين وخمسمائة وألف، من سنين هذا الزمان”. ثم يشرع “المترجم بإعطاء وصف مفصل نوعاً ما للظروف التي قادت إلى اكتشاف هذه الرقوق التي كتبها راهب مصري يدعى هيبا، كما يتحدث عن جودة هذه الرقوق (ما أسهم سلامتها كل هذه القرون)، والحبر الذي كتبت فيه، ونوع الخط (الأسطر نجيلي) المستخدم في الكتابة، والصندوق الخشبي المحكم الإغلاق والمحلى بالزخارف النحاسية الدقيقة الذي أودع فيه هيبا “ما دونه من سيرة عجيبة وتاريخ غير مقصود لوقائع حياته القلة، وتقلبات زمانه المضطرب”. ثم يتحدث عن وجود بعض الحواشي والتعليقات المكتوبة على أطراف الرقوق باللغة العربية بقلم نسخي دقيق في حدود القرن الخامس الهجري على وجه التقدير. وهذه الحواشي والتعليقات كتبها، فيما يظن “المترجم” راهب عربي من أتباع كنيسة الرها التي تتبع المذهب النسطوري، علماً أنه “لم يشأ هذا الراهب المجهول أن يصرح باسمه”. ثم يروي لنا “المترجم”: “وقد أوردت في هوامش ترجمتي، بعضاً من حواشيه وتعليقاته الخطيرة، ولم أورد بعضها الآخر لخطورته البالغة.. وكان آخر ما كتبته هذا الراهب المجهول، على ظهر الرق الأخير: سوف أعيد دفن هذا الكنز، فإن أوان ظهوره لم يأت بعد!”. يقول “المترجم” إنه أمضى سبع سنوات في نقل نصوص كنزه هذا من السريانية إلى العربية. لكنه، وبعد فوات الأوان، يقول: “غير أني ندمت على قيامي بترجمة رواية الراهب هيبا هذه، وأشفقت من نشرها في حياتي”. لكن ندمه راجع إلى أسباب شخصية، وإن كانت غير مقنعة، “خاصة وقد حط بي عمري في أرض الوهن، وآل زماني إلى خط الزوال”. كذلك يتحدث “المترجم” عن منهجه في الترجمة، وتقسيمه للعمل إلى فصول متفاوتة الطول تبعاً للرقوق، كما يشكر “العلامة الجليل، كبير الرهبان بدير السريان بقبرص”، (هكذا من دون تسميته بالاسم رغم أنه الوحيد الذي يشكره في هذه المقدمة!) “لما أبداه من ملاحظات مهمة على ترجمتي، وتصويبات لبعض التعبيرات الكنسية القديمة التي لم تكن لي ألفة بها”. أما عن هيبا نفسه، فيقول: “وقد اجتهدت في التعرف إلى أية معلومات عن المؤلف الأصلي، الراهب هيبا المصري، إضافة لما رواه هو عن نفسه في روايته، فلم أجد له أي خبر في المصادر التاريخية القديمة. ومن ثم فقد خلت المراجع الحديثة من أي ذكر له. فكأنه لم يوجد أصلاً، أو هو موجود فقط في هذه (السيرة) التي بين أيدينا. مع أنني تأكدت بعد بحوث مطولة من صحة كل الشخصيات الكنسية، ودقة كل الوقائع التاريخية التي أوردها في مخطوطته البديعة هذه...”. هنا يبدو زيدان وكأنه يدعونا لنزع آخر قناع عن وجه “مترجمته” ويقدمه لنا على أنه شخصية من نسج الخيال. فهو وهيبا من هذه الناحية صنوان، إذ لا وجود لأي منهما إلا في “عزازيل”. ورغم كل التفصيلات شبه الواقعية التي يوردها “المترجم” عن “منهجه”، إلا أن مترجم مدونات هيبا كان يترك لنا بعض الثغرات المتعمدة والإشارات التي تدل على أن كل ما قاله في “مقدمة المترجم” ليست إلا حيلة روائية لا تنطلي إلا على القراء السذج. لذلك علينا أن نعيد النظر في هذه الثغرات والإشارات لنستقرئ من خلالها وجهة النص ومرامي كاتبها، وبالتالي تصبح “مقدمة المترجم” جزءاً لا يتجزأ من الرواية الكلي. بمعنى آخر يصبح المترجم في ضوء هذه القراءة راوياً، ومقدمته بمثابة الإطار السردي الذي ينفذ من خلاله القارئ إلى الرواية الداخلية التي يرويها بطلبها هيبا، مع تعليقات راهب عربي نصراني مجهول. من هذه الثغرات المتعمدة ذكر الراهب العربي الذي، حسبما يزعم “المترجم”، لم يشأ أن يصرح باسمه، أما الإشارة الأولى الدالة ذات الصلة بهذا الراهب فهو أنه ينتمي إلى القرن الخامس الهجري، وليس للقرن الحادي عشر الميلادي، رغم أنه نصراني، وكأن مرجعية هذا الراهب هي التاريخ الإسلامي وليس التاريخ المسيحي. كما أن المترجم ينسب هذا الراهب للمذهب النسطوري، وهو أقرب المذاهب المسيحية للإسلام في تصوره لطبيعة المسيح عليه السلام. أما الإشارة الثانية فتمكن في اقتباس آخر ما ينسب لهذا الراهب العربي ذي المرجعية الإسلامية: “سوف أعيد دفن هذا الكنز، فإن أوان ظهوره لم يأت بعدُ!” أما “المترجم” (العربي المسلم فيما يبدو) فيرى أن هذا الأوان قد حان الآن، وإن كان قد أوصى بأن تنشر “ترجمته” بعد مماته. وبما أن الرواية قد نشرت عام 2008، فعلينا أن نفترض أن مترجمها قد مات فعلاً، حيث قال عن نفسه في مقدمته المؤرخة بتاريخ 4 أبريل 2004 إن زمانه قد آل إلى خط الزوال. أما الرمز الأكبر في “مقدمة المترجم” فهو الصندوق الخشبي الذي وجدت فيه الرقوق. فأول صفة نجدها لهذا الصندوق هو أنه “محكم الإغلاق”، أما عن قيمته الوظيفية في الرواية فتكمن في كونه مستودعاً لما دونه هيبا “من سيرة عجيبة وتاريخ غير مقصود لوقائع حياته القلقة، وتقلبات زمانه المضطرب”. ثم بعد ذلك بقليل نعلم أن هذا الصندوق محلى بالزخارف النحاسية الدقيقة، والأهم من ذلك كله أنه لم يفتح إلا من قبل راهب عربي في القرن الخامس الهجري. إذن، فالصندوق هو أرشيف يؤرخ لفترة مضطربة يُغَضُّ الطرف عنها الآن من قبل الكنيسة لقبطية التي تود أن تظل محتويات هذا الصندوق طي النسيان، وتتمنى أن يظل هذا الأرشيف، بما يحتويه من حقائق بشعة، محكم الإغلاق، بل تسعى الكنيسة إلى تزييف التاريخ الممثل بالصندوق وتجميل ما يحتويه من حقائق بشعة عبر تغليفها بتلك الزخارف النحاسية الدقيقة. لكن لو قُيِّضَ لأحد أن يطلع على محتويات هذا الصندوق لوجد الحقائق جلية لا غبار عليها: فالرقوق التي كتبت عليها مدونات هيبا من أجود أنواع الجلود. وكلماته كتبت “بحبر فاحم من أجود الأحبار التي استعملت في ذاك الزمان”، وقد كتبت هذه المدونات “بقلم سرياني سميك يعرف بالخط الأسطرنجيلي الذي كانت تكتب به الأناجيل القديمة. كل هذه المقومات تجعل “المترجم” يقول: “وقد مكنني وضوح الخط في معظم المواضع من قراءة النص بيسر، وبالتالي ترجمته إلى العربية دون قلق من قلق الأصل واضطرابه، مثلما هو الحال في معظم الكتابات التي وصلتنا من هذه الفترة المبكرة”. إذن، نحن أمام نص فريد بكل المقاييس. خلاصة القول إن عملية الوصول إلى الحقائق المطموسة لا تتطلب سوى فتح هذا الصندوق، دون الالتفات إلى زخرفه الخارجي، واستخراج ما فيه من حقائق تاريخية جلية يود الكثير من أتباع الكنيسة القبطية أن تظل طي الكتمان. ربما لهذا أراد يوسف زيدان أن يوهم قارئه بأن دوره المتواضع في هذه الرواية لا يعدو عن كونه مترجماً ينقل ما عثر عليه في أرشيف الكنيسة القبطي. وإذا كانت هناك من إضافات من قبله فهي تعليقات هامشية لا تتجاوز أهميتها أهمية تلك الحواشي والتعليقات التي خطها ذلك الراهب العربي المجهول بخط نسخي عربي دقيق. أما متن تلك الفترة التاريخية فيكتبه واحدٌ من أهلها الذين عايشوها واكتووا بنارها. لكن تَمَتْرُسُ زيدان وراء قناع الترجمة عائدٌ أيضاً لرغبته في نبشٍ (غير مرغوب فيه) في تاريخ الكنيسة القبطية خاصة والكنيسة المسيحية في القرن الخامس الميلادي عامة وما شهده هذا القرن من انشقاقات عظيمة. كما ينم هذا التَمَتْرُسُ على رغبة عميقة لتوجيه النقد اللاذع للكنيسة القبطية وللديانة المسيحية وذلك من خلال إنطاق راهب قبطي برغبات المؤلف الذي يدعي “الحياد” بادعاء الطابع الترجمي لعمله، وبالمقابل بنفي التأليف عن نفسه. * ورقة قدمت في ندوة أقامها المركز الثقافي الإعلامي لسمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©