إميل أمين
مرة جديدة يثير المفكر الياباني الأصل، الأميركي الجنسية فرانسيس فوكوياما الجدل من حول رؤاه الفكرية، وهو الذي ملأت سمعته الأرجاء من قبل حين كتب عن رؤيته عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير، تلك الرؤية الشمولية التي لا تختلف كثيراً عن القول بالرايخ الالماني الذي يحكم ألف عام، وكلاهما ضد حركة الطبيعة ومسار التاريخ.
الإثارة الجديدة التي نتحدث عنها مرجعها كتابه الأخير والذي جاء تحت عنوان «الهوية: مطلب الكرامة وسياسة الاستياء»، وقد حمل مضامين مثيرة للتفكر والتدبر حول الأسباب الحقيقية التي تدفع إلى صعود اليمين المتطرف في الغرب عامة وفي الولايات المتحدة الأميركية خاصة، وهل كان اليسار سبب ظهور هذا اليمين، أم أن الافتقار لهوية تكاملية لم يغذ العنف فحسب، بل أدى كذلك إلى تفشي الفساد حول العالم.
ما الذي يتحدث عنه فوكوياما في كتابه الجديد كخطوط عريضة بداية؟ يمكن القول إن الرجل – المفكر هالَهُ وأزعجه إلى حد كبير تصاعد القوميات الغربية بما يتضمنه ذلك من نشوء وارتقاء حركات عنصرية يمينية عديدة، من بينها وفي مقدمها النازيون الجدد في أوروبا، ومن لف لفهم في الداخل الأميركي.
يحاول فوكوياما في عمله هذا، وهو أكثر عقلانية عن موقفه تجاه حركة التاريخ في عمله الشهير السابق، تقصي أسباب توجه مزيد من الناخبين الأميركيين والأوروبيين، على حد سواء لجهة الأحزاب اليمينية، وفي صورة أكثر سخطاً لدعم حركات اليمين البديل.
عن فشل اليسار وصعود اليمين
يحاجج فوكوياما بأن هناك جذوراً مؤكدة لتغير أشكال الهوية غربياً، ويؤكد على أن الأمر لا يخص أوروباذات الطابع العلماني المتجرد عن أي نوازع دينية، بل ينسحب كذلك على الولايات المتحدة الأميركية المعلنة دولة ذات هوية علمانية رسمياً، لكن الواقع يخبرنا بأنها مغرقة في الهوى الديني.
يرى فوكوياما أن اليسار كان السبب، فقد تخلى عن الشرائح التي دافع عنها طويلاً، ولم يعد معنياً بحقوق العمال أو العدالة الاقتصادية واختار بديلاً عنها حقوق الفئات المهمشة من المثليين والأفارقة وغيرهم.. هل تسبب ذلك بالفعل في تغير في توجهات الهوية؟
يبدو أن الأمر كذلك بالفعل، فقد تحولت شرائح اجتماعية بأكملها، لتمنح صوتها للأحزاب اليمينية في أوروبا الغربية، بالإضافة لاستشراء حركات وتيارات اليمين المتطرف في الجمهوريات الأوروبية التي انضمت إلى مظلة الغرب في التسعينيات والارتداد عن الديمقراطية الليبرالية.
الكارثة التي يوصّفها فوكوياما تتصل بهوية تلك التحولات في الهوية الغربية، وكيف أنها لم تعد تغيرات على السطح أو الهامش، بل تجاوزتها إلى عمق الديمقراطية الليبرالية نفسها، لتنهشها من الداخل، الأمر الذى يثير مخاوف جذرية من مستقبل مظلم، وعبر صفحات كتابه يحفر فوكوياما عميقاً مستقصياً جذور الأزمة، وآثارها الحالية والمستقبلية على الغرب والعالم.
هل الاقتصاد هو السبب؟
أكثر ما يدهش فوكوياما، وبعيداً عن تراجع الديمقراطيات في الشرق الأوسط أو روسيا والصين، هو نجاح التيارات القومية الشعبوية في الانتخابات التي جرت عام 2016، في اثنتين من أقوى الديمقراطيات الليبرالية في العالم: المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الاميركية، فقد رأينا جميعاً بالفعل كيف مال البريطانيون إلى التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ذلك الحلم الذي سعى الأوروبيون بمن فيهم البريطانيين طويلاً وكثيراً جداً، وعلى الجانب الآخر من الأطلسي أي في الولايات المتحدة الأميركية، سجل دونالد ترامب مفاجأة انتخابية لم يكن أحد يتوقعها بفوزه على هيلاري كلينتون المخضرمة!
يكشف لنا فوكوياما بعضَ أجزاء الصورة، وعنده أنه بطريقة ما ترتبط هذه التطورات بالتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية التي جلبتها العولمة، لكن جذورها تمتد أيضاً إلى ظاهرة مختلفة، وهي صعود سياسات الهوية.. كيف ذلك، وهل تذكرنا سطور فوكوياما بما أشار إليه من قبل بضعة أعوام الكاتب أمين معلوف عبر كتابه الهويات القاتلة؟
يؤكد فوكوياما أنه تاريخياً كانت السياسة طوال القرن العشرين تهيمن عليها أساساً القضايا الاقتصادية. على اليسار تركزت محاور السياسة على أوضاع العمال، والنقابات، وبرامج الرعاية الاجتماعية، وسياسات إعادة توزيع الثورة. وعلى اليمين، كان التركيز في المقام الأول على تقليص دور الحكومة لتعزيز القطاع الخاص.
لكن الوضع التقليدي الذي يخبرنا عنه فوكوياما تغير، وتبدل، فالسياسة اليوم باتت أقل اهتماماً بالقضايا الاقتصادية أو حتى الإيديولوجية مقارنة بمسائل الهوية. فاليوم، في العديد من الديمقراطيات، يركز اليسار بشكل أقل على خلق مساواة اقتصادية واسعة وبشكل أكبر على تعزيز مصالح مجموعة من الجماعات المهتمة، مثل الأقليات العرقية والمهاجرين واللاجئين والنساء والمثليين.
أما على جانب اليمين، فهناك اهتمام بإعادة تعريف مهمته الأساسية للتركيز على حماية الهوية الوطنية التقليدية، التي ترتبط في كثير من الأحيان صراحة بالعرق والدين.. ما الذي جرى؟
انتقام التاريخ أم ثأر الإذلال؟
صفحات كتاب فوكوياما تضعنا في تقاطع يصل إلى حد التقويض مع ما نادى به كارل ماركس طويلاً جداً من أن الصراعات السياسية ما هي إلا انعاكاسات لأوضاع اقتصادية، ويفتح المفكر الياباني الأصل الأعين والعقول على وجود متغيرات أخرى تدفع البشر لتفسير ما يجري اليوم بطريقة أفضل.
كاد الرجل يتحدث علانية عن انتقام التاريخ، ولاسيما أن الذاكرة الجمعية للأمم والشعوب لا تنسى الأحداث الجسام التي جرت بها المقادير، خاصة إذا كانت قد تركت آثاراً سلبية على البشر والحجر معاً.
من هنا يمكننا أن نفهم ارتباط صعود الهويات بتلاعب بعض القادة السياسيين حول العالم على أوتار الذكريات المؤلمة التي تعرضوا لها، انطلاقاً من مبدأ أن كرامتهم قد تعرضت للإدانة وأنه يجب عليهم استعادتها.
ربما لم يجد فوكوياما مثلاً أوضح من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لا ينفك يتحدث عن المأساة الأكبر في التاريخ الحديث في تقديره، أي تفكيك الاتحاد السوفييتي، وعليه فقد هاجم بوتين طويلاً الولايات المتحدة وأوروبا اللتين تسبب استغلالهما للأوضاع الاجتماعية المنهارة في الداخل الروسي في إعادة إحياء الكرامة الوطنية الروسية.
الأمر ذاته ينسحب على الصين، والذين يتابعون الرئيس الصيني «شي جين بينغ» يلحظون أنه يتناول كثيراً في أحاديثه فكرة «قرن الإذلال»، أي الفترة التي تعود إلى عام 1839، أي فترة الهيمنة الأجنبية على الصين.. فهل ما نراه من صعود القومية الروسية والقومية الصينية هو ضرب من ضروب الانتقام التاريخي الذي يحيي الهويات القديمة؟
الاستياء قوة محركة أممية
يقدم لنا فوكوياما رؤية مضافة في هذا السياق، رؤية تتصل بمفهوم «الاستياء»، ذلك المعنى والمبنى الذي بات على حد وصفه قوة محركة قوية في الدول الديمقراطية، ما يعني أننا أمام ثورة هويات مزدوجة تجمع بين الشرق والغرب معاً.
يعطينا فوكوياما أمثلة جذرية عن الحركات التي تولدت عن الاستياء، فعلى سبيل المثال، نشأت في الولايات المتحدة الأميركية حركة تسمى «حياة السود مهمة»، بعد سلسلة من مصرع العديد من الأميركيين السود على أيدي أفراد الشرطة في حوادث حظيت بتغطية إعلامية واسعة، فأجبرت بقية العالم على الاهتمام بقضية قسوة الشرطة خاصة ضد الأميركيين من أصل أفريقي.
مثال آخر تدور أحداثه في حرم الجامعات وفي أمكنة العمل في طول الولايات المتحدة وعرضها، ووصل غضب النساء إلى ذروته ضد ما يبدو أنه وباء من التحرش والاعتداء الجنسي ضدهن، خلصن بعدها إلى أن الذكور لا يرونهن على قدم المساواة معهم، كما أصبحت حقوق الأشخاص المتحولين جنسياً الذين لم يكونوا يعتبرون من قبل أهدافاً للتمييز، من القضايا البارزة في المشهد العام. أضف إلى ذلك شعور الكثيرين من أولئك الذين صوتوا لصالح ترامب بالحنين إلى وقت كانت فيه مكانتهم ضمن مجتمعهم مصونة أكثر، كما يعتقدون.
الهوية الرئيسة والحروب الثقافية
يلفت فوكوياما ولو من طرف خفي، وبغير استخدام كلمات مباشرة لاطروحة صراع الحضارات أو الثقافات، تلك التي جاد بها عالم الاجتماع السياسي «صموئيل هنتنجتون» في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، ذلك أنه يبين لنا أن الجماعات البشرية في حاضرات أيامنا، باتت تعتقد بأن هوياتها على اختلاف أشكالها وأنواعها، سواء كانت قومية أو دينية أو عرقية أو جنسية أو جذرية، أو غير ذلك من التصنيفات الجديدة التي تظهر يوماً تلو الآخر في زمن ما بعد العولمة، لم تعد تحظى بالاعتراف الكافي.
من هنا لم تعد سياسات الهوية ظاهرة ثانوية تظهر فقط في حرم الجامعات أو توفر خلفية للمناوشات الهامشية في إطار «الحروب الثقافية» التي تروج لها وسائل الإعلام، بل أصبحت سياسات الهوية مفهوماً رئيسياً يشرح الكثير مما يجري في الشؤون العامة حول الكرة الأرضية.
النتيجة الكارثية لصراعات الهوية وكما يخبرنا فوكوياما تتمثل في أن الديمقراطيات الليبرالية الحديثة تعيش تحدياً وجودياً، ذلك أن العولمة التي يسرت من جانب حركة البشر والبضائع، ومن دون شك الأفكار والقيم والتقاليد، في تغير اقتصادي واجتماعي سريع للغاية، خلقت على جانب آخر مجتمعات أكثر تنوعاً بكثير، مما حث الجماعات التي كانت فيما مضى غير مرئية لعموم المجتمع على البدء بالمطالية بالاعتراف.
خير مثال على ما يقول به «فوكوياما» ما يحدث في المجتمع الأميركي اليوم، فالرجل الأبيض «الواسب»، ذلك الذي اعتبر نفسه السيادة والريادة في الأراضي الأميركية طويلاً جداً، قد بدأ يشهر بمخاوف من أن يضحي يوماً ما قريباً أو في المدى الزمني المتوسط (ثلاثة عقود) أقلية إن استمرت الهجرة على هذا النحو، وفي ازدياد مخيف سيما من أميركا اللاتينية، أو دول شرق آسيا، ناهيكم عن الشرق الأوسط، والعالم الإسلامي، الأمر الذي يفسر توجهات دونالد ترامب في رئاسته الأولى هذه.
من هنا أدت مطالب الجماعات الجديدة واحتياجاتها إلى إثبات هويتها المتصلة تحديداً بإرثها الثقافي وبلاشك العقائدي، إلى ردات فعل عنيفة من المجموعات الأخرى سيما تلك التي تنظر إلى نفسها بوصفها الوصي الأصلي والحارس القيم على مقاليد الدولة جغرافياً وديمو غرافياً، تلك التي تشعر اليوم بأنها تفقد مكانتها وامتيازاتها من جراء المجموعات السابقة.
هل من خلاصة لرؤية فوكوياما؟
يضيق المقام عن تحليل وتفكيك رؤية فوكوياما هذه المرة، والتي لن تحدث انقساماً فكرياً، كما حاله في نهاية التاريخ، ذلك أن المجتمعات الإنسانية لا تستطيع الابتعاد عن الهوية أو سياسات الهوية، فالهوية هي «فكرة أخلاقية قومية»، لكن لابد من رؤية توافقية إنسانية بين الجميع، وإلا فإن صراعات الهوية ستقودنا بالضرورة إلى ما هو أسوأ مما تحدث عنه هنتجتون، ذلك أن المجتمعات الديمقراطية تتشرذم اليوم إلى شرائح تتمحور حول هويات أضيق، مما يقوض من أفق التعاون، والعمل الجماعي من قبل المجتمع ككل. هذا الطريق سوف يؤدي فقط إلى انهيار الدولة، وفي النهاية الفشل، ما لم تتمكن هذه الديمقراطيات الليبرالية من العودة إلى مفهوم كوني للكرامة الإنسانية، فإنها ستحكم على نفسها وعلى العالم بالعيش في صراع مستمر.
بطل الإثارة الفكرية الأميركية
ولد يوشيهيرو فرانسيس فوكاياما في شيكاغو عام 1952، لأب ياباني- أميركي يعمل قساً في الكنيسة الإنجيلية، وكان جده قد هاجر إلى أميركا عام 1905 خلال الحرب الروسية- اليابانية، وأمه يابانية، ولم يقدر له أن يتعلم اللغة اليابانية لغة أجداده، ولهذا السبب ربما يجد فوكوياما أن ليس لديه إشكالية ما شخصية مع الهوية، فهو في نظر نفسه أميركي خالص لا تتنارعه شوائب أخرى.
اعتبر فوكوياما في فترة من عمره أنه يشارك المحافظين الجدد رؤيتهم للعالم، تلك الرؤية التي تجلت في الوثيقة الشهيرة التي تعرف بوثيقة القرن الأميركي، أي أن يبقى القرن الحادي والعشرين أميركياً بامتياز. يعتبر فوكوياما نفسه تلميذاً من تلاميذ «آلن ديفيد بلوم»، عالم السياسة والفليسوف الأكاديمي الأميركي وصاحب الكتاب الشهير «إغلاق العقل الأميركي» الذي انتقد فيه ما اعتبره جوانب سلبية في التعليم العالي الأميركي. كما يعتبر نفسه تلميذاً للفيلسوف «ليوشتراوس (1899- 1973)»، الملهم لايديولوجياً المحافظين الجدد التي تجسدت أميركياً في إدارتي بوش الابن.
شغل فوكوياما منصب أستاذ كرسي «برنارد ال. شوارتز» للاقتصاد في جامعة هوبكنز، واليوم يحتل مقعد أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد، ويكاد يكون من المنظرين الأميركيين القلائل للمشهد الأميركي الاجتماعي والسياسي معاً.