عرض: رسول محمد رسول:
بالرغم من أن كثيرا من الدراسات التي تحدثت عن المرحلة الملكية (1921 ـ 1958) التي مرَّ بها عراق القرن العشرين قد عكست وجهات نظر تاريخية ومجتمعية،إلا أن تلك المرحلة ما زالت تعاني غموض الكثير من حراكها وأسرارها،ولعل ما يكتبه العراقيون الذين رافقوا رموزا سياسية عراقية وعربية رفيعة المستوى شاركت الحكم يومياته، هو الأكثر اقتراباً من أحداث ساخنة جرت في تلك المرحلة وما بعدها من سنوات،وتجيء مذكرات الطبيب صالح البصّام الذي ولد في بغداد عام 1911 ورافق أحداثا مهمة فضلا عن شخصيات تلك المرحلة لتلقي الضوء على جوانب تاريخية مهمة كونه كان على قرب مما جرى للعائلة المالكة في العراق ولما جرى لبعض الرموز السياسية التي كانت تعمل معها في العراق، وذلك في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان (مذكرات: أسرار هروب نوري السعيد)، دار الانتشار العربي، بيروت ·2006 خصَّص المؤلف الفصل الأول من كتابه للحديث عن حياته، فالبصّام ولد في مدينة الكاظمية ببغداد عام ،1911 وعاش فيها ردحاً من حياته، ولذلك قدَّم لنا وصفاً لتلك المدينة التاريخية التي عاش بين أزقتها وشوارعها وأحيائها البسيطة، وكشف عن أنماط الحياة التي كان عليها الناس فيها، خصوصاً الحياة الثقافية، وهي الحياة التي تأثر بها البصّام حيث المكتبات والجلسات الثقافية والدينية، فضلاً عن الشخصيات المثقفة التي كانت تعيش فيها· كما انه تطرق إلى دراسته في الابتدائية وفي الثانوية، وانتسابه إلى المدرسة الثانوية المركزية عام 1926 حتى عام ،1931 ومن ثم دراسته في (كلية صفد) في فلسطين ضمن بعثة دراسية عراقية، وبالتالي عودته إلى الدراسة في الكلية الطبية الملكية عام ،1933 وصولاً إلى تخرُّجه منها وتعيينه طبيباً في مستشفى الأطفال في بغداد عام ·1938
وفاة الملك غازي
تحت عنوان (حادثتان مروعتان)، وهو عنوان الفصل الثاني من الكتاب، روى المؤلف حادث مقتل الملك غازي ووزيره السوري رُستُم حيدر،قال البصّام عن الحادث الأول إنه كان طبيباً خافراً في المستشفى مساء يوم 3 نيسان / أبريل 1939 وتلقى اتصالاً بأن الملك غازي قد تعرَّضت سيارته إلى حادث اصطدام بأحد أعمدة الكهرباء بالقرب من قصر الزهور في بغداد أودت بحياته،وكان القصر الملكي قد طلب طبيباً ليوقع على شهادة الوفاة مع طبيب الملك الدكتور سندرسن،إلا أن البصّام لم يذهب وفضَّل أن يذهب زميله الدكتور جلال حمدي·
أما الحادث الثاني فهو إصابة ومقتل رستم حيدر، وزير المالية الذي رافق الملك فيصل الأول من سورية وكان سكرتيره الخاص، وكان آخر منصب له هو وزير المالية عام ،1940 ففي الثامن عشر من شهر كانون الثاني منه، أقدم مفوض في الشرطة العراقية واسمه حسين فوزي على اغتيال رُستُم حيدر بمسدس استقربت عياراته في بطن حيدر، فجيء بالمجني عليه إلى المستشفى وكان البصّام طبيبا معالجا إلى جانب الدكتور إيراهام الذي أجرى عملية جراحية له إلا أن رُستُم حيدر سرعان ما فارق الحياة فأُقيم له تشيع ملكي مهيب·
تطرَّق المؤلف في الفصل الثالث إلى أيام نهاية العهد الملكي في العراق، وتحديدا في تموز عام 1958 حيث انهار النظام الملكي في بغداد وانفراط عقده· والمهم فيما قاله البصّام إنه روى ما شاهدهُ في صبيحة 14 تموز ،1958 وكيف أنه وزوجته شاهدا جثة الأمير عبد الإله في منطقة المنصور مقطوعة اليد اليُمنى ومُمثل بها من قبل متمردين عراقيين،وقال إنه تلقى هاتفاً من الشريف حسين في صباح ذلك اليوم طالباً، هذا الأخير، النجدة، فشدَّ المؤلف وزوجته الرحال إلى منطقة المنصور ببغداد لإنقاذ الشريف حسين وأسرته، لكنه لم يتمكَّن، فعاد إلى منزله وقد نجا من موت محقق على يد الثوريين أو الانقلابيين من الناس الذين كانوا يريدون الحيف بالعائلة المالكة ومن يخدمها في تلك المرحلة، سيما وأن المؤلف كان أحد الأطباء المقربين من تلك العائلة· لكن البصّام لم يترك الشريف حسين وأسرته من دون إنقاذ، فكثَّف جهوده لغرض إنقاذهم من الموقف، فاتصل بشقيقته التي أمَّنت للشريف وأسرته المبيت في مكان آمن، وفي صبيحة يوم 15 تموز لجأ الشريف حسين إلى السفارة السعودية في بغداد، وصار في عهدة الدولة السعودية، والتي اتصل عاهلها الملك عبد العزيز بالزعيم عبد الكريم قاسم ليوافق على سفر الشريف وعائلته إلى مصر التي كانت على وفاق مع الزعيم قاسم·
انتحار نوري السعيد
نبقى مع المؤلف الذي روى صوراً عن الأيام الأخيرة بل الساعات الأخيرة من حياة رئيس وزراء العراق نوري السعيد (1888 -1958) يوم 14 تموز ،1958 قال المؤلف إنه في فجر ذلك اليوم سمع دوي إطلاق الرصاص ما ينمُّ عن انقلاب على الحكومة، وراح يتطلع إلى معرفة حال نوري السعيد الذي كان يقطن في بيت قريب من بين المؤلف، وقد تعرَّف من خلال رسول له إلى أن بيت السعيد كان مُحاصراً بقوة عسكرية يقودها وصفي طاهر،ومن المفارقات اللافتة، يقول المؤلف:إن وصفي طاهر كان مرافقاً لنوري السعيد، وله معرفة بمداخل ومخارج قصر السعيد،لكن نوري السعيد هرب من الباب الخلفي للقصر المطل على نهر دجلة، وركب أحد الزوارق قاصدا العبور إلى الجهة الأخرى لكنه سرعان ما عاد عندما شاهد عراقيين مهتاجين يتطلَّعون إلى منزله فخاف من أن يشك فيه ويقتل،فصعد حافة النهر متوجها إلى منزل المؤلف ودخله،إلا أن المؤلف شعر بهول ما سيحدُث له فيما لو عرف الانقلابيون أن السعيد موجود في بيت البصّام، ولذلك سارع المؤلف بنقل السعيد إلى أحد الدور الآمنة في منطقة الكاظمية بواسطة ابن عم المؤلف،فارتأوا أن يلبس نوري السعيد عباءة عراقية متنكِّراً ويتم نقله إلى الكاظمية بالرغم من الإعلان عن منع التجوال، فوصلوا إلى دار صادق البصّام في الكاظمية- شقيق المؤلف-،وفي صبيحة اليوم الثاني بدا الخوف مهيمنا على البصّام وإخوته وبقية أفراد أسرته بسبب افتضاح أمرهم؛ ولذلك قرَّر البصّام نقل نوري السعيد إلى مزرعة آل البصّام في الكاظمية، لكنهم وأسرته لم يفلحوا فآثروا الذهاب بالسعيد إلى منزل عبد الأمير الاسترابادي في الكاظمية القريب من بيت البصّام، ولكن حتى هذا الخيار ما كان مطمئناً بالرغم من أن السعيد مكث فيه، فرغب رئيس الوزراء المخلوع بالذهاب إلى بيت الشيخ محمد العريبي الكائن في منطقة البتاويين على أمل أن يوفر العريبي الفرصة لنوري السعيد للهروب إلى إيران، وبالفعل ذهبوا إلى هناك وكانت أم عبد الأمير الاسترابادي معهم،وكان السعيد متنكراً بعباءة عراقية،فوصل إلى منطقة البتاويين ظهراً، لكن والد عبد الأمير الاسترابادي لم تكن تعرف منزل العريبي بالبتاويين، فآثرت أن تضع السعيد في دار أحد أقاربها وهو دار السيد هاشم جعفر على أن تتركهُ هناك لتبحث عن منزل الشيخ العريبي،وكان لأسرة هاشم جعفر ولد اسمه مراهق (عمر) كان قد وجد في مجيء السعيد إلى منزلهم فرصة لأن يحصل على مكافأة مالية أعلنتها حكومة الانقلاب بمقدار عشرة آلاف دينار عراقي (تعادل ثلاثين ألف دولار) لكل من يخبر عن مكان وجود نوري السعيد، فخرج عمر من المنزل بسرعة فائقة ما لفت أنظار السعيد ولذلك قرَّر السعيد الخروج من منزل هاشم جعفر بسرعة لكنه عثر في الطريق وبانت ملامحه للناس بينما كان عمر قد أخبر الشرطة بأمر السعيد، وفي شارع كان مهرباً شاهد السعيد سيارة عسكرية فيها عدد من الضباط يرأسهم وصفي طاهر، لكن السعيد لم يترك لهم الفرصة فأخرج مسدسه وانتحر على الفور،بينما طالت رصاصات الشرطة جسد أم عبد الأمير الاستربادي فكانت أول شهيدة عراقية سقطت في حادث انتحار نوري السعيد·
أخيراً يُعد هذا الكتاب نصا تاريخياً مهماً كونه يكشف عن حقائق واقعية ذات منحى تسجيلي لأحداث مرَّ بها العراق في أحلك مرحلة من مراحل صراعه السياسي وتحولاته الدراماتيكية، خصوصاً وأن مؤلفه عاش تلك الأحداث عن كثب· كما أن هذا الكتاب عرض لجوانب مما كان يعيشه العراق من تحولات مجتمعية وسياسية في القرن العشرين·