السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الباحث عن الوجود في العدم

الباحث عن الوجود في العدم
7 فبراير 2019 02:01

شذريات..... ميلان كونديرا*
تقديم واختيار: رضاب نهار

ليس من الصعب أبداً على من يقرأ لميلان كونديرا (1929) الكاتب والروائي الفرنسي من أصول تشيكية، أن يكتشف رغبته الملحّة في أن يبحث عميقاً في المغزى الكامن وراء الحياة. وأن يطرح أسئلة فلسفية عن الوجود والعدم ضمن سياقاته الأدبية، متغلغلاً في الحقائق التي شغلت العلماء والفلاسفة منذ عصورٍ بعيدة، بدءاً من نظرية «العود الأبدي» التي طرحها في روايته «كائن لا تحتمل خفته»، وصولاً إلى تلك الروابط شديدة البساطة والتعقيد في آن واحد، والجامعة لعلاقة كل إنسان مع الآخر.
وفي رواياته، الأمكنة فضاءات شديدة الأهمية، لكنها لا توازي عنده أهمية الزمن الذي راح ينحت في مفاهيمه وتمظهراته لدى الإنسان وسط عالم متقلب بكل ما فيه. لذا فإن الكثير من أسئلة كونديرا تدور حول علاقة الزمن بالبشرية، وحول القدرة العظيمة للأيام في أن تحدث تغييرات ليس في القناعات فحسب، وإنما في الجوهر الحقيقي للأشياء والأمور.
لم تسلم روايات كونديرا أيضاً من آرائه في السياسة والتاريخ. لكنه امتاز في كونه لم يضعها متطفلةً كشعارات أو «مانشيتات» فارغة وجامدة بين الصفحات، إنما جعلها تطلّ علينا من الشخصيات المصنوعة من تفاصيل صغيرة بغاية الدقة والأهمية، وطرحها في أكثر اللحظات صدقاً وحميمية. وهو ما دعانا إلى التفكير في هذه الآراء باعتبارها تمسّنا نحن، وأن نتبناها أحياناً كما لو كنّا قد عشنا الظروف المنتجة لها.
كذلك اتخذ كونديرا كثيراً التهكّم كحالة أو كفضاء شامل يؤطّر به مؤلفاته، مشيراً إليه بالعناوين مثلما حدث في أكثر من عمل مثل: «المزحة» و«حفلة التفاهة». إلا أنّه يطرحه بأسلوب المضحك المبكي، ساخراً به من المأساة التي يقدّمها وناقداً للأنظمة السياسية الفاشية التي تتدخل ليس في الآراء الشخصية للإنسان فحسب، إنما في علاقاته الخاصة جداً، حيث إنها تحشر نفسها بين أفراد العائلة الواحدة وبين الأحبة أيضاً.
وغالباً ما يعتمد كونديرا في رواياته على ثنائية الرجل والمرأة لحياكة الحبكة الدرامية. ويبني شخوصه بعد دراسة نفسية وجسدية واجتماعية وسياسية تنصهر جميعاً في كيان لغوي وسردي واحد لكنه متفاوت بالطبع تبعاً للدور والمرجعية لكل شخصية على حدة. ومن هذه الثنائية ينطلق كونديرا لمناقشة المواضيع والثيمات المعقدة في تاريخ البشرية متناولاً الدين والسياسة وأصول الوجود الإنساني وغاياته.
من مؤلفاته: «كائن لا تحتمل خفته»، «حفلة التفاهة»، «فالس الوداع»، «المزحة»، «الجهل»، «الضحك والنسيان»، «البطء»، «الهوية» و»الخلود».
هنا شذريات في الحياة والإرادة واشتراطاتهما، من بعض كتب ميلان كونديرا:
ـ لحظة استطاع الإنسان أن يسمّي أجزاء الجسد، صار الجسد يشغله أقل.
ــ في اعتقادنا جميعاً أنه لا يعقل لحبّ حياتنا أن يكون شيئاً ما خفيفاً، دون وزن. كلنا نتصور أن حبنا هو قدرنا وأن حياتنا من دونه لن تعود حياتنا.
ـ يمكن لأي طالب خلال قيامه بالتمارين العملية للفيزياء، أن يقوم بتجارب معينة لإثبات صحة الافتراض العلمي. أما الإنسان فلا يملك إلا حياة واحدة ولا يملك أية إمكانية لإثبات الافتراض عبر التجربة.. لذلك، فهو لن يعرف أبداً إن كان على حق أم لا في امتثاله لشعوره.
ـ لا يمكن للإنسان أبداً أن يدرك ماذا عليه أن يفعل، لأنه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة.
ــ كانت تشعر الآن بالسعادة الغريبة نفسها، وبالحزن الغريب نفسه. وهذا الحزن، كان يعني: «لقد أصبحنا عند المحطة الأخيرة»، وهذه السعادة تعني: «إلا أننا مازلنا سوية». كان الحزن هو الغالب/‏‏‏ والسعادة هي المحتوى، والسعادة تملأ مساحة الحزن.
ــ الزمن قصير. وبفضله نحن أحياء أولاً، أي: متهمون وقضاة. ثم نموت، ونظل لبضع سنوات أيضاً مع أولئك الذين عرفونا، لكن سرعان ما يحدث تغير آخر: يصبح الأموات أمواتاً قدامى، ولا يعود أحد يتذكرهم ويختفون في العدم، بيد أن بعضهم، وهم قلة نادرة، يتركون أسماءهم في الذاكرة، وهؤلاء يتحولون إلى دمى بعد تجريدهم من أية شهادة صادقة ومن أية ذكرى واقعية..
ـ تقفز من فوق سياج الجسر وتلقي بنفسها في الفراغ. تصدمها في نهاية سقوطها صلابة سطح الماء بقسوة، وتشلّها البرودة. ثوانٍ عديدة، ويرتفع وجهها، ولأنها سباحة ماهرة، تستنفر كل حركاتها اللاإرادية ضد إرادة الموت. تغطس رأسها بالماء ثانية، وتجهد باستنشاق الماء وتحبس نفسها. في هذه اللحظة، تسمع صرخة، صرخة قادمة من الضفة الأخرى. لقد رآها أحدهم. أدركت أن الموت لن يكون سهلاً وأن عدوها الأكبر لن يكون منعكساتها اللاإرادية الخارجة عن سيطرتها كسباحة ماهرة، وإنما شخص لم تحسب له حساباً. سيكون عليها أن تقاوم. أن تقاوم كي تنقذ موتها.
ـ الحياة هي صراع الجميع ضد الجميع. هذا معروف، لكن كيف يتجلى هذا الصراع في مجتمع متمدن إلى هذا الحد أو ذاك؟ لا يمكن للناس أن يهاجموا بعضهم بعضاً عندما يلتقون. يحاولون بدلاً من ذلك أن يلقوا على الآخرين عار الشعور بالذنب. وسيفوز من ينجح في جعل الآخر مذنباً. وسيخسر من يعترف بخطئه.
ــ قال في سره إن ثمرة هذه الكراهية المزدوجة لا يمكن أن تكون إلا معتذراً: كان وديعاً ولطيفاً مثل والده، وسيظلّ دخيلاً كما رأته والدته. ومن كان وديعاً ودخيلاً في آن معاً فقد حُكم عليه، بمنطق صارم، أن يعتذر طيلة حياته.
ـ لا شيء أسهل من اختيار وطن أم، لكن اكتشاف لغته هو الصعب.
ـ نجتاز الحاضر بعيون معصوبة، وأقصى ما نستطيعه هو أن نستشعر ونخمّن ما نعيشه. ونحن لا ندرك ما عشناه ونفهم معناه إلا لاحقاً، عندما تزول العصابة عن أعيننا، ونعيد تفحّص الماضي.
ـ الكليشيهات السياسية والمغالطات لم توضع لكي نؤمن بها، بل لاستعمالها كمبررات خفية متفق عليها. ولا يلبث السذّج الذين يصدقونها أن يكتشفوا، عاجلاً أم آجلاً، تناقضاتها، فيتمرّدون عليها وينتهي بهم الأمر إلى تقمّص دور المهرطق أو المنشق. كلا، إن الإيمان المبالغ فيه لا يجلب خيراً أبداً..
ـ آه، أيها السادة والسيدات، كم هو حزين أن يعيش المرء وهو غير قادر على أن يأخذ أي شيء أو أي شخص على محمل الجد!
ـ كان الإزعاج الذي أثاره الحلم من المبالغة بحيث بذلت جهدها لتفسير سببه. فكرت في أن ما جعلها تضطرب إلى هذا الحد هو غلغاء الزمن الحاضر الذي أجراه الحلم. ذلك أنها تتمسك بشغف، بحاضرها الذي لا تبادله، مهما كان الثمن، لا بالحاضر ولا بالمستقبل.
ـ حريتنا الوحيدة هي في الاختيار بين المرارة والمتعة. فبما أن تفاهة كل شيء قدرنا فلا ينبغي أن نحملها كعاهة، بل أن نعرف كيف نستمتع بها.
ـ أنت حرة في أن تذيبي فرديتك في قدر الجمهرة مع شعور بالهزيمة، أو بغبطة.
..............................
* ملاحظة: الشذريات مأخوذة من: «كائن لا تحتمل خفته»، «حفلة التفاهة»، «غراميات مرحة»، و«الهوية».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©