الأربعاء 14 مايو 2025 أبوظبي الإمارات 33 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فيتنام.. عبرتُ الجسد لأصل إلى هنا

فيتنام.. عبرتُ الجسد لأصل إلى هنا
8 فبراير 2017 19:18
ها هي «هانوي» تمد يدها، نلتقي للمرة الأولى، فأشعر بطراوة اللقاء وغرابته في الوقت ذاته. على أطرافها الليل المحترس، الشعب، المسافرون، السياح، المستقرون، الغرباء مثلي أينما حلّوا. همستُ لنفسي عند حلول الطائرة: لمَ هنا؟ هل ما يقال صحيح عن ثورية الشعب والأرض والبلد؟ عن نضالهم المستميت؟ عن الاستعمارات العسكرية التي لم تأخذ هدنة بين أحدها والآخر؟ ولم يفسحوا لها أيَّ نَفَس. أخطو إلى خارج المطار وأُلقي نظرة على كل ما حولي. الحركات البسيطة والمبهمة، الحياة التي تدفع الناس إلى المضي قدماً دون الالتفات إلى الألم والحزن، يدورون حول أنفسهم، يغنون، تتلاقى أعينهم مع دقات الروتين الذي يعيشونه، يلتف بعضهم حول بعض دون انتباه، يطلقون غناءً لا يشبه سواه. أغوص في السيارة ونظراتهم المستغربة وجودنا ووجوهنا تلاحقنا، الإعجاب الجهري لأعيننا، لوننا، استدارة وجهنا! التصريحات العلنية، اللكزات المضحكة والعفوية، الحب واللطف البادي على لمسة أياديهم، التماس الجواب بعد ذكر أسمائنا، أسماء دولنا، مدننا وسرعة الرد: «أوه عرب!». حماس اليوم الأول ويدي التي تسجل كل ما هو مهم، بعدها تهاون قلمي ورغبة جسدي بالسير على سجيته دون تسييره. خوف الليلة الأولى وخواء روحي. شرودي وهيئتي المائلة إلى الصمت ولساني المنفلت بالأحاديث التي تناقض هذه الشفاه المطبقة. وفي الوقت الذي كنت أتفادى فيه هذا النوع من الاختلاط، وجدتني أندمج، وأهذي، أميل على شوارعهم، شجرهم، اخضرارهم المشع، هيئتهم البريئة، بطاقاتهم البريدية ونور وجوه أطفالهم، انكماش الصغيرة بين حضن والدتها وظهر أبيها على الدراجة المسرعة في السابعة صباحاً! وأخرى بسحر جمالها وأناقة جسدها، وانسدال فستانها القصير عليها، شعرها المتطاير في الهواء، ودراجتها البالية... تقف أمام مرآتها الصغيرة فتعدِّل من هيئتها وتضم خصلة مائلة خلف أذنها فتلحق رفاقها إلى العمل بجد! الغريب أن أحس بهذا الضيق الجاثم على صدري في مدينة مليئة بالناس وضجيجهم، خشخشات ضبابها، أمسياتها الموسيقية المتلاشية، حفلة الأوبرا وشعبيتها، قبلات العشاق في الشوارع، إشراق الطرق، وانقضاء اللحظات بالأحداث المتوالية، الحدث الذي ينحني عليك ليقبَّل جبينك. أتذكر أبيات شعرية لـ«هوشي منه» وهو يقول: «ليلة خريفية أمام بوابة السجن حارس يحمل بندقيته وفي السماء يتسلل وجه القمر من بين الغيوم وأنا أفكر في بلدي أحلم أنني أطير بعيداً أحلم أنني أتجول لكنني ملفَّع بالأحزان» أعود لأراجع نفسي، تئن روحي من أنين وجه المرشدة الأخيرة وهي تحكي عن معاناة جيلها في الحرب. حرب فيتنام أو الهند الصينية الثانية المقاومة للاستعمار الأميركي. الحرب التي قُتل فيها أكثر من 3 ملايين شخص بمن في ذلك 58 ألف أميركي. الحرب التي أحكمت سيطرتها ومارس الأمريكيون فيها أبشع أنواع التعذيب والقتل على الرجال والنساء والأطفال وكبار السن. الحرب التي استمرت على مدى ثلاثة أجيال متتالية رغم انتهائها فعلياً. ترى ذلك الشعور القذر يتمركز في روحك ليجردها من كل فرح تظنه موجوداً. أستذكر انقباض ملامحها وانكماش جسدها في الكرسي الجالسة عليه وهي تحكي عن عذاب عائلتها خصوصاً، وقذارة الحرب على شعبها، ألتمس رجفة الخوف في صوتها وهي تؤكد أن أرضها مسلوبة... مسلوبة وإن عادت لهم، فيتنام بصمودها أمام الصين وفرنسا وأمريكا واليابان والحروب الأهلية، لن تكون قادرة على المواجهة إن شُنّت حرب جديدة عليها، فالكل يطمح في جزء منها، الكل يطمع بتذوق أفضل قطعة منها! فهي الفريدة والغنية بلحظاتها وحكاياتها وصورها، وطيفها الذي تلحظه بالنفس الأول لك على أرضها. غنى شعبها الشعوري، أغانيهم المستمدة من صمودهم ومجدهم وأرضهم، شعرهم، موتاهم، ضحاياهم، نضالهم، أجسادهم المائلة إلى التقلص، معابدهم المتناثرة في كل بقعة، طول خليجهم وزُرقته الصادقة معك. جرأتها وقوتها على الوقوف على رجلها لتكون قوة عسكرية قوية، وتطورها خلال السنوات السابقة البسيطة لتعيد هيكلة نظامها المجتمعي والاقتصادي والتنموي والسياحي لتنافس دول العالم وتستأنف حياتها مجدداً. تعود بقوة، المرأة التي شاركت في الحرب ولم تشكُ أبداً، ساندت وساعدت وقاومت حتى استحقت شرف الانتصار إلى جانب الرجل. الأم التي ضمت أطفالها، والزوجة التي وقفت بجانب زوجها وغادرت المنزل مُخْبِرَة لأن البعض لم يولها أيَّ اهتمام فلم تكن محط أنظار المستعمر. المرأة التي كانت طبيبة، وخيّاطة تحت الأنفاق لتعالج المصابين بسرعة فائقة، وتخيط لهم الملابس دون أن يشعروا بوجودها. الزنبقة التي سال عذابها بتمتمة، وعبّرت عن تعبها بسكون. المشرقة بشفافيتها. هي التي كانت درعاً وحامية في الوقت ذاته. أسطورة فيتنام الرقيقة، المولودة باستقلاليتها وثوريتها النابعة من الأرض والتراب والشمس. أيقونة الحضارات والدول، نواة الوجود التاريخي وماضيه الأصيل. الطفلة التي انضمت إلى المقاومة في عمر مبكر يقارب الخمس عشرة سنة، البطلة التي لم تكتفِ بالمساعدات البسيطة بل ترأست وقادت وحاربت وقاتلت جنباً إلى جنب مع الرجال حتى استحقت القيادة في الجيش الفيتنامي. نساء تعلمن طريقة حمل واستخدام الأسلحة، وأخريات ساعدن المقاتلين في نصب الفخاخ وبناء الأنفاق تحت الأرض، من حرسن الحدود وعتبات المدن والقوى، من تم تجنيدهن عسكرياً ومدنياً، ومن برعن في عمليات الإمداد والتموين لإبقاء الجنود على أهبة الاستعداد. التاريخ سطّر والكتب ذكرت أسماء نسوية كثيرة حفظت لهن حقهن، أسماء كل من دافعن عن فيتنام ضد الغزاة وكل من بطش وتجرد من معنى الإنسانية. تعود فيتنام بشعور «البطل» الذي استحق رفقتهم. أحاديثهم المتطايرة عنه. «هوشي منه» الذي عاش ببساطة عائلته، وتعلم الفرنسية وهو ابن الشعب الذي رفض تعلمها لأنها لغة المستعمر، وأجبر ابنه على ذلك ليستطيع إكمال تعليمه وحياته المهنية مستقبلاً، «هوشي منه» الذي انتقل من حدٍّ إلى آخر دون أن يعرفوه ويفقهوه. كلماته القليلة وحضوره القوي بصدقه وأمانته وحبه لشعبه. مَن ضحَّى بحياته العادية وأصبح سياسياً محنّكاً، ورئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية الديمقراطية فيتنام (فيتنام الشمالية). بكلماته القليلة وحضوره القوي، بصدقه وأمانته وحبه لشعبه. من سافر إلى جميع مناطق فيتنام ليقدم خدماته للإنسان البسيط والفلاح والفقير في القرى المتناثرة. كما سافر إلى دول العالم ووقَّع الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات التي ساعدت على تطور فيتنام واستقرارها مبدئياً. مَن ناضل وقاتل من أجل الحرية والاستقلال. الزعيم الذي اعتُقل من قبل القوات الفرنسية، وعاش في الصين على الحدود الفيتنامية، وقاوم جشع الأمريكان، ونظم المجموعة الثورية. «هوشي منه» بشعره وحنكته السياسية، بهدوئه واشتعاله. التقاء الماء والنار فيه هو السبب الأساسي والرئيسي في تفوقه على باقي ملوك فيتنام، حتى أصبح الشعب يلهج باسمه. أستطيع القول إنني لم أكن حرَّة هناك. هاجس الكتابة أحكم قبضته على أصابعي وعقلي وعيني، كنت أكتب بقلبي وأنا أمشي، أرتجف في نوبة تعثر، وأسقط مع شعور الغياب الذي يتلمسني دائماً. أعود فأهمس: سأمضي.. وأمضي حقاً بشعور الطفل الذي يكتشف الأشياء في لحظتها الأولى ولذتها الأجمل وحقيقتها الموسيقية. أن ترى العالم بعين الشعب لا التاريخ، أي أن تستدرك نفسك فتعيش لحظاتها العريضة بمرارتها وانتفاضاتها وشرودها وبحّتها المكسورة. لم تكن تحتاج إلى أموال لتنفقها، أو ملابس كثيرة لتلبسها، أو أدوات زينة لتضعها. هناك تعود لتكتشف الإنسان فيك، القسوة المحكمة بطبيعتك، جفافك، عنفك حيال كل ما حولك حتى الجمادات. تعيد حسابات عالمك الخاص، تضع كل شيء على الرف لتحاسب حتى نسمة الهواء التي كنت تتنفسها وتتذمر من مرورها سريعاً! قبل أن أنام كانت النظرات تطل عليَّ من خلف النوافذ، فأنكمش وأبكي مرارة الكَلَف والتصنع الذي نعيشه في أيامنا، أتذكر التمثال الهندي، وبعض الرسومات البوذية والشموع الموضوعة، كثرة المعابد على الأرض وفوق الجبال، صوت المرشدة الذي يؤكد أنها مراسم دينية لتقديم القرابين والدعاء فقط بينما الغالبية لا تؤمن بوجود الرب. ومرشدة قروية بوذية تؤكد كثرة البوذيين في فيتنام الاشتراكية، وآخر مسلم يندب أقليته هناك. تترنح وتغمض عينيك، تعيد حكاية القصص مراراً مع نفسك وتراجعها حتى تحفظ تفاصيلها وإن كانت شعراً لطيفاً، أو أوهاماً اختلقتها عبثاً في أحد المقاهي المنثورة على طول الشوارع الغريبة عليك. تجلس على الطاولة بهدوء، قهوتك السوداء المرّة برائحة الفانيلا أمامك، تراقب الساحة بأطرافها الطويلة الضيقة، تبتسم لامرأة أشارت إليك من بعيد، ولرجل لكز خصر حبيبته وفرّ، وعائلة جالسة في محل الخضراوات تختار طعامها بدقة متناهية، ومجموعات سياحية تمشي وتعتلي الدراجات الهوائية وضحكاتهم التي تعيد ترتيب المشهد ليكون أكثر ألفة. في الليلة الأخيرة في هانوي مجدداً بعد رحلة طويلة واكتشافنا لمدن عديدة، بدا لي هذا العالم صغيراً جداً لا يساوي هذه الروح الهائمة، الراغبة بالتحليق، بفرح الكريسماس حينها تمنيتُ العودة للنوم فقط لا غيره!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض