ترجمه عن الهولندية : عماد فؤاد
يتناول الخبير الاقتصادي الأميركي ذو الأصول الصربية برانكو ميلانوفيتش في كتابه الجديد «اللّامساواة العالمية: مقاربة جديدة لعصر العولمة»، الاختلافات الكبيرة بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم. مشيراً إلى أن: «التكنولوجيا والعولمة صارتا تشكلان صدعين كبيرين في نظامنا الاقتصادي المعاصر، فعلى مدى الأعوام الثلاثين الماضية، تدهور الوضع الاقتصادي للطبقة المتوسطة ليصل إلى مستويات لم يكن ليتخيّلها أحد، حتى صارت هذه الطبقة غير موجودة، بعد أن دخلت منطقة الطبقات التي تحيا تحت خط الفقر». في الحوار التالي، والذي نترجمه عن صحيفة «NRC» الهولندية، بمناسبة زيارة برانكو ميلانوفيتش لمدينة أمستردام للترويج للترجمة الهولندية المنجزة حديثاً من كتابه، يدلل خبير الاقتصاد الأميركي على أن التاريخ الإنساني مرَّ بالعديد من الفترات التاريخية التي كان لزاماً فيها العمل على تخفيف عبء الديون عن كاهل الشعوب، ليتم إنقاذ النظام المعيشي والاجتماعي وبالتالي السياسي في بلدانهم.
بادئاً بحثه منذ العصر الروماني يؤكد برانكو ميلانوفيتش أن «نظام تخفيف عبء الديون عن الشعوب، أو سمِّه نوعاً من المغفرة الاقتصادية، كان موجوداً منذ العصر الروماني، بل منذ العصر البابلي. أما ما فعلته سياسات البنك الدولي والاتحاد الأوروبي مع بلد بحجم اليونان في أزمته الاقتصادية الأخيرة، فلم يكن سوى محاولة تاريخية غير مسبوقة لذبح أضعف شياه الحظيرة».
نستطيع أن نقول إن برانكو ميلانوفيتش يقدم في مؤلفه الجديد «اللامساواة العالمية: مقاربة جديدة لعصر العولمة»، أطروحتين جعلتا من كتابه حدثاً مهماً في عالم الاقتصاد الحديث، الأطروحة الأولى هي استعادته لكتاب الباحث الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي والمعنون بـ «رأس المال في القرن الـ 21»، والصادر في عام 2014، والأطروحة الثانية هي رسمه البياني الذي أطلق عليه اسم «منحنى الفيل»، والذي أظهر كيف زاد دخل الفرد في العالم على مدى عقود القرن الماضي، باستثناء الطبقة الوسطى الغربية، مشيراً إلى أن مصطلح «منحنى الفيل» يستخدمه اليوم الكثير من الاقتصاديين المعاصرين، لشرح غضب الطبقة الوسطى على السياسات الاقتصادية الراهنة، وصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في الغرب الثري، وظهور قيادات رأسمالية مثل دونالد ترامب.
يتحدث برانكو ميلانوفيتش بانطلاق خلال الحوار حول نظريته الاقتصادية التي ضمّنها كتابه الجديد، وما إن يأتي ذكر اليونان وأزمتها الاقتصادية الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي، حتى تتقلّص ملامحه في غضب، ويتنهد بحرقة قائلاً: «إذا قارنت الوضع الاقتصادي في اليونان اليوم بالأوضاع الاقتصادية التي مرّت بها بلدان أوروبا الشرقية خلال التسعينيات (خاصة تلك الدول التي فتحت أسواقها على اقتصاد الأسواق الحرّة مثل صربيا)، سنجد أن حال اليونان الآن أسوأ بكثير من حال هذه الدول في التسعينيات المنصرمة، وبالنسبة لليونانيين فليس هناك اليوم أي أمل في بصيص ضوء ما في نهاية النفق، لقد اضطروا خلال يوليو (تموز) الماضي إلى الاقتراض من جديد من بلدان الترويكا، وهو ما سيعمل على تضخيم أزمتهم الاقتصادية مرة أخرى».
أسباب اللامساواة
* تدرس في كتابك إشكاليات عدم المساواة بين الدول، وكذلك العلاقات بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم، لماذا تعتبر اللامساواة الاقتصادية مشكلة في عالمنا الراهن؟
** أولاً وقبل كلّ شيء، لأن عدم المساواة بين الشعوب والبلدان هي في أساسها قضية أخلاقية، وهو ما سبق وذكره الفيلسوف والسياسي الأميركي الراحل جون راولز، والذي اعتبر أن الناس متساوون في كامل الحقوق والواجبات، وعليه فيجب أن تكون كل خطوة للابتعاد عن هذه المساواة مسؤولية الجميع، علينا أن نتخذ من جهودنا في التعليم والتدريب والخدمات العامة سبيلاً لتحقيق المساواة بين الشعوب، وأن تكون الطبقات الفقيرة فيها على قدم المساواة مع أغنيائها. فاللامساواة بين الطبقات لم توجد جزافاً في عالمنا المعاصر، بل «انوجدت» لأن هناك أسباباً أدت إلى وجودها، وتبين البحوث الاقتصادية بما لا يقبل الشك كيف أنه، في سياقات اقتصادية معينة، يعمل النمو الاقتصادي للبلد على تجذير التفاوت الكبير في دخل أفراده، على سبيل المثال، فعندما ينعزل الأثرياء تماماً عن بقية الطبقات الأخرى في مجتمعاتهم، رافضين التعامل مع نظام التأمين الصحي للعامة أو مدارسهم المدعومة، فأنهم بهذا يدمرون المساواة التي يجب أن تشمل الجميع، ومن ثم تنعدم أهمية التعليم العام أو الرعاية الصحية، ما يعيق تنمية الخدمات الموجهة للسكان الأكثر فقراً في هذه البلدان، أما السبب الثالث فلأني ضد أي تفاوت بين الطبقات من شأنه أن يؤدي إلى تركيز غير مبرر للسلطة في أيدي النخبة الأكثر ثراء، إن تأثير المال على السياسة من الضخامة اليوم بحيث جعل الأغنياء هم قواعد اللعبة، اللعبة التي يلعبونها من دون أن يدرك الآخرون أنهم قواعدها الرئيسة.
* ولماذا لا نقول إن اللعبة السياسية هي التي تشكّل أساس اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية في عالمنا اليوم؟
** لا أستطيع الاتفاق معك، ذلك لأن النتيجة لن تنوجد من دون أسباب حقيقية أخرى كثيرة، وليس في مقدورنا فهم الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي الراهن من دون هوية البلد الذي نتحدث عنه، ولك أن تنظر كيف تدهورت الأوضاع الاقتصادية للطبقة الوسطى على مدى الأعوام الثلاثين الأخيرة في العديد من بلدان الانفتاح الاقتصادي، وفي الوقت ذاته نشهد الصعود الاقتصادي الكبير للصين والهند وباكستان، برغم كل ما في هذه الدول من فساد سياسي وعدم مساواة حقيقية. حتى لو تخيلنا أن الهوية هي التي تشكل عصب اللامساواة بين الشعوب، فإننا نكون مخطئين، ذلك أن مصالح الأغنياء تتفق مع مصالح السلطة، فهم يحبون السفر والتجارة، ومن ثم فهم مع الحدود المفتوحة وسياسات الأسواق الحرّة، ولأن الطبقات المتوسطة غير قادرة على التعامل بسهولة مع سياسات السوق والبورصات العالمية، فإنها تبدأ في التحلل والاختفاء، لأن المنظومة الموجودة لا تتيح لها التنفس.
صعود اليمين
* وهل تفسر هذه الظاهرة اليوم مثلاً صعود التيارات اليمينية المتطرفة في العديد من بلدان العالم الغنية؟
** نعم، ولكن أيضاً لأن اليسار العالمي اليوم صار يحمل صراعاً أيديولوجياً ميؤوساً منه. ستجد فئات عديدة في المجتمعات الأوروبية تشعر اليوم بالخيانة وتنتظر من يسمعها شيئاً على هواها، وهو ما تفعله الأحزاب اليمينية المتطرفة على الدوام، والتي تعد الجماهير بأشياء لا تستطيع تحقيقها، أو تثبت فيما بعد فشلها، لكن في كل الأحوال تبقى مقترحات جديدة حتى ولو كانت وهمية. جميع أطياف اليسار العالمي تكرر اليوم الأغنية ذاتها التي كانت تتردد في التسعينيات، والتي تقول: «لن يتبقى شيء من الكعكة لمن لا يستفيد من العولمة».
* كيف قادتك أبحاثك إلى إعادة تناول نظرية بيكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الـ21» من جديد؟
** أعجبت بشدة بكتاب بيكيتي، لكنه في بحثه هذا يرصد التغيرات التي طرأت على البلدان الغنية فقط، من خلال العديد من البيانات الاقتصادية والرسوم البيانية التي تم إحصاؤها على مدى سنوات طوال، ومن خلالها يحدد بيكيتي اتجاهات بلدان مختلفة في السياق العالمي الراهن، فعلى سبيل المثال، ارتفعت أجور العمال خلال السنوات الثلاثين الماضية في بلدان الاقتصادات ذات الدخل المتوسط مثل الصين، فيما بقيت أجور الطبقة العاملة في الاقتصادات المتطورة على ركودها. وكان لهذه المنظومة الفضل في خلق طبقة متوسطة يمكن وصفها بـ«العالمية»، كما تسببت المنظومة ذاتها في ثبات اللامساواة الاقتصادية، بل وانخفاضها للمرة الأولى منذ بدايات التصنيع، وهو ما أتوقف عنده في كتابي، فحين كانت اللامساواة بين الطبقات المختلفة عند بدء التصنيع مسؤولة عن ظهور فوارق كبيرة بين الأثرياء والفقراء، صارت اللامساواة بعد التصنيع أكثر رسوخاً في هذه البلدان، ومع تقلص الفجوة بين البلدان أكثر فأكثر، برزت على السطح اللامساواة الطبقية، بيكيتي يكتب بلا رحمة معدداً سلبيات الاقتصاد العالمي اليوم، أما أنا فأقل قسوة منه في تناولي للأمور.
موجات اللامساواة
* طرحت في كتابك مساهمة أكثر جرأة سمّيتها «موجات كوزنيتس Kuznets Waves وقدمتها بديلاً عن النظريتين السائدتين حالياً حول عدم المساواة، ما الذي قصدته بموجات كونيتس؟
** طرح الاقتصادي والمفكر الأميركي الروسي الأصل سايمون كونزنيتس (1901- 1985)، والحاصل على جائزة نوبل العالمية في الاقتصاد، نظرية مفادها بأن اللامساواة تبدأ منخفضة على المستويات الدنيا من التطور الاقتصادي، ثم ترتفع خلال مراحل التصنيع، لتعاود الانخفاض من جديد حين تبلغ البلدان مرحلة نضجها واستقرارها، اليوم نملك القدرة على تتبع الرسوم البيانية والإحصاءات الدقيقة، والتي كشفت لنا أن اللامساواة تخلق على موجات متتابعة وليس في شكل مفاجئ، فالعولمة والتصنيع كانا سببين مهمين في التفاوت الهائل بين طبقات القرن العشرين، وهو ما تكرر في السبعينيات من القرن الماضي بسبب الحروب وأيضاً بسبب تحديث التعليم، وهي فترة من تراجع عدم المساواة. لكنها عادت لتشهد زيادة مرة أخرى في الثمانينيات، بسبب النمو الاقتصادي في العديد من البلدان، وأيضاً بسبب الحدود المفتوحة وتكنولوجيا التواصل الحديثة، أو ما يمكن تسميته بثورة الإنترنت، حيث صارت الآلة تحل مكان العامل البشري.
* تتحدث عن موجات وليس موجة واحدة، هل يعني هذا أن ما نشهده حالياً من فروق كبيرة بين الطبقات كان موجوداً في أزمنة ما قبل عصر التصنيع؟
** للأسف ليس لدينا ما يكفي من المعلومات لرسم خط بياني واضح لحركة الفروقات الاقتصادية بين الطبقات على مدى قرون التاريخ، وإلا سيكون ذلك رائعاً، ولكن عدم المساواة لم يكن أبداً بهذا الوضوح والتجلي الذي نشهده اليوم، ففي العصور الوسطى يمكننا أن نشهد إحدى «موجات كوزنيتس»، حين غيّر مرض الطاعون المعادلة بين أصحاب رأس المال والعمال، الذين بدأ عددهم في التناقص بسبب الوفيات، وبالتالي أدى المرض إلى نقص شديد في الأيدي العاملة، ما دفع أصحاب رؤوس الأموال إلى مضاعفة أجور العمال، وكان هذا حلاً مؤقتاً، انتهى بزوال الطاعون وتزايد أعداد السكان من جديد، وبالتالي توافرت الأيدي العاملة فرخص ثمنها، الفرق بين أزمنتنا الراهنة وما كان يحدث في السابق، هو أن الأسباب الماضية على عصر التصنيع للامساواة بين الطبقات كانت غير اقتصادية، في حين أنها اليوم اقتصادية بحتة.
* وما هي العوامل الاقتصادية التي تسببت في الموجة الحالية من اللامساواة في عالمنا الحديث؟
** هذه الموجة من اللامساواة بدأت منذ 197 عاماً أو نحوها، نتيجة الثورة الصناعية التي شهدها الغرب، فإدخال الطاقة البخارية ومدّ السكك الحديدية واختراع الكهرباء غيّر كل شيء، بينما عاودت اللامساواة وجودها وتأثيراتها السلبية خاصة منذ تسعينيات القرن العشرين، بظهور ثورة المعلومات أو الثورة التكنولوجية، والتي فاقمت بدورها من حالة اللامساواة، ليس فقط بين الأفراد، بل بين دول العالم بشكل عام، فأي ثورة تكنولوجية في نظام قائم على الحدود المفتوحة يخلق فجوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء، وعلينا اليوم الاعتراف بأن هناك خاسرين ورابحين من مرحلة العولمة الثانية، كما هو الشأن بالنسبة لمرحلة العولمة الأولى. فهناك نمو كبير للثروة العالمية خلال هذه المرحلة، حيث تعتبر الدول الآسيوية هي الرابح الأكبر، في الوقت الذي لم تستفد دول أوروبا وأميركا الشمالية كثيراً. ما وقع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي هو عكس ما وقع أثناء العولمة الأولى في الفترة ما بين 1850 و1914، حيث كانت القارة العجوز والقارة الأميركية الشمالية مستفيدتين وحيدتين، في وقت شهدت فيه الصين والهند تراجعاً كبيراً على مستوى ثرواتهما. إننا نملك اليوم معطيات كافية لمعرفة ما تخفيه هذه المفارقة، وبإمكاننا التأكيد على أن هناك خاسرين ورابحين من العولمة التي نحياها اليوم.