أبوظبي (الاتحاد) ـ تمثل السنة النبوية المصدر الأول للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وتأتي مكانة السنة النبوية الشريفة من خلال دورها في البيان والتشريع والقدوة الحسنة، ولقد جاءت الآيات القرآنية تؤكد أهمية الاقتداء بالرسول عليه السلام وواجب طاعته وأهمية دوره في التشريع، فقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) “الأنفال، 24”، ويقول أيضاً: (وَمَا أَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) “الحشر، 7”، هذه الآيات توضح أهمية السنة النبوية كأساس عقدي وتشريعي سلوكي وكمنهج حياتي يؤسس للوسطية والاعتدال في مجالات حياة المسلمين المتشعبة لا ينبغي للمسلم أن يحيد عنه أو يتردد في قبوله.
كيف ساهمت السنة النبوية الشريفة إلى جانب القرآن الكريم في تأصيل قيمة الوسطية؟
وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في مدح الوسطية وبيان فضل الاعتدال في الدين والدنيا، وبيان معانيها وتوضيح دلالاتها، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَّ خَطًّا وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْـخَطِّ الْأَوْسَطِ، فَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، “ابن ماجة”. لذلك كان صلى الله عليه وسلم يأمر بالاقتصاد في كل شيء وينهى عن الإفراط والغلو في سائر الأعمال عبادة كانت أو غيرها، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ ثلاثاً فَإِنَّ اللَّهَ لايَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا “ابن ماجة”.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التشديد على النفس هو كل عمل أدى إلى مشقة وعنت بالإنسان، كأن يكلف نفسه بتشريعات زائدة والإكثار من الأذكار أو ترك ما لا يجب تركه من الطيبات، فالله سبحانه غني عن تعذيب المرء نفسه طاعة له وقربة، فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ مَا بَالُ هَذَا قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَـمْشِيَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ، “البخاري”. فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر من التشدد في الدين ونهى عن أي زيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب في تشديد الله عليه، فقال: “لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ”، (أبو داود).
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يرض لصحابته رضي الله عنهم ولأمته من بعدهم الانقطاع عن الدنيا والاعتزال المطلق لعبادة الله من أجل الرغبة في الآخرة، وكلما لاحظ في بعض أصحابه رغبة في طلب الآخرة على حساب الدنيا أنكر عليهم ذلك وقوم عوجهم وهداهم للتي هي أقوم، وأكد لهم أن هذا الدين ليس بدين عزلة وانقطاع وإنما هو دين حياة وتقدم حضارة ونهاهم عن التشدد والمغالاة.
إن من عوامل تجسيد منهج الوسطية الفهم الواعي للسنة النبوية، أي علاقة تربط الوسطية بالفهم الواعي للسنة النبوية؟
السنة هي كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية أو سيرة، وسواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها، والسنة بهذا المعنى مرادفة للحديث النبوي. فالرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الاعتبار مبلغ عن ربه عز وجل وهادي أمته إلى خيري الدين والدنيا، فكان للمسلمين أسوة حسنة وقدوة حسنة، فأضحى لزاماً عليهم أن ينقلوا عنه كل ما صدر من تصرفات ومواقف وأخلاق وأقوال، بصرف النظر عن كونها حكماً شرعياً، حجة على المسلمين، تصلح للاستمداد الشرعي أم لا. وبهذا الاعتبار راعى الأصوليون هذا الاختلاف بين ما يكمن اعتباره من السنة النبوية فأثبتوا فيه ضرورة الاقتداء بالرسول عليه السلام، وبين ما لا يمكن اعتباره من التشريع وسلبوا عنه صفة الاقتداء، وتجلى هذا التمييز في مستويين: مستوى الخطاب القرآني للرسول عليه السلام هل هو موقوف عليه خاصة أم هو موجه إلى عموم المسلمين، والمستوى الثاني هو الصفة الشرعية لتصرفات الرسول عليه السلام.
الاقتداء بالرسول عليه السلام تراوح بين الغلو والجفاء، كيف عالج المحققون المعتدلون موضوع الاقتداء؟
الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا الحسنة، يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) “الأحزاب، 21”، والاقتداء بالرسول عليه السلام في الثقافة الإسلامية تراوح بين الغلو والتقصير والاعتدال، فمن الناس من قصر في الاتباع فكان جافياً ومن الناس من تجاوز فكان غالياً، ومنهم من اعتدل فكان متوسطاً.
والحديث عن أهمية السنة النبوية أضحى من مهمات الأمور في وقتنا الحاضر، لاسيما بعد ظهور النزعات التحررية التي تقلل من شأن الوحي أمام العقل، فشككت في السنة النبوية الشريفة، وجرحت في حفاظها ورواتها تمهيداً لإلغاء حجيتها وشرعيتها. والسبب في جعل السنة محط شبهات في زماننا يرجع إلى ما علق بها من عادات وبدع، غيرت نظرة المسلمين إليها وأفقدتها دورها التشريعي الرائد، هذا ما جعل تحامل بعض الناس يتضاعف إلى درجة أن صرحوا بإلغاء السنة والاكتفاء بالقرآن وحده.
كيف يكون الاعتصام بالسنة النبوية طريقاً للوسطية؟
إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى للفضيلة الإنسانية والنموذج الأسمى للسلوك الإنساني، بلغ الكمال في الآداب والأخلاق وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه ومدح القرآن الكريم أخلاقه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) “القلم، 4”، فمجال مظهره وبلاغة حديثه تنال حظاً وافراً من التمجيد والتعظيم، فقد كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس لطفاً ووداً، أعدلهم وأكثرهم عفة، وطهراً وتواضعاً وضبطاً لنفسه، وأشدهم حرصا على التوازن والاعتدال ونبذ الغلو والتنطع، كيف لا وقد كان منهاجه القرآن، قرآنا يمشي ونوراً يشع في الأرجاء بمحامد أخلاقه مع أصحابه وأعدائه، سئلت عائشة أم المؤمنين عن خلق الرسول صلى الله عليه فقالت: “كَانَ خَلْقُهُ الْقُرْآنَ، يَغْضَبُ لِغَضَبِهِ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ”.
لذلك كان رسول الله يتتبع سير صحابته ومدى التزامهم بسنته وكلما رأى نأياً منهم قومهم وصوبهم وذكرهم بأن في اتباع سنته السلامة والاستقامة والخير في الدنيا والآخرة، ذكر الطبري أن مجموعة من الصحابة ومنهم عثمان بن مضعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ) فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: إن لأنفسكم حقاً وإن لأنفسكم حقاً صوموا وأفطروا وصلوا وناموا فليس منا من ترك سنتنا، فقالوا: اللهم أسلمنا واتبعنا ما أنزلت، (تفسير الطبري).
د. سالم بن نصيرة