23 أغسطس 2011 22:38
حين يدق بابك مع اقتراب موعد أذان المغرب، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو وجود ضيف مفاجئ، أو حتى سائل يرجو شيئاً من صدقات يكثر منحها خلال أيام الشهر الكريم، وكلا الأمرين من المسائل المحببة للنفس، والتي تشعرك بجو الكرم الذي يغلف مظاهر الحياة في شهر رمضان. لكن الجميل حين يفاجئك أحد الجيران حاملاً بعضاً من الأطباق وبها ما تشتهيه النفس من أطعمة، في صورة جميلة معبرة عن الحب والألفة بين الجيران، وهي إحدى السمات الرمضانية المميزة في المجتمع الإماراتي وغيره من المجتمعات الإسلامية.
(أبوظبي) - تقول أمينة خالد، ربة بيت، إن عادة تبادل أطباق الأطعمة بين الجيران، من السلوكيات الجميلة التي نشأت غليها منذ الصغر، والتي يحاول الجيران من خلالها إبراز مشاعر الحب تجاه بعضهم بعضاً، ويعمل كل منهم على التعبير عن الكرم من خلال تقديم ألوان من الأطعمة المحببة لديهم والتي يبرعون في طهيها. وتوضح أن معظم أنواع تلك الأطباق يدور في فلك الحلويات بأشكالها المختلفة، والتي تدخل السرور على قلوب الجيران حين يتذوقوها، مؤكدة أن عملية تبادل الصحون تلك، ليس فيها غني أو فقير، ولا يقوم بها مستوى اجتماعي دون آخر، كونها تتم بين الجميع، كل على قدر مستواه وحسب معرفته بأنواع معينة من الطعام وإجادته لصنعها.
صفة أساسية
من ناحيتها، تشير إيمان المحرزي، إلى أن الكرم صفة أساسية في المجتمع الإماراتي، وعملية تبادل أطباق الطعام، من العادات الرمضانية الجميلة التي تصنع السعادة وتخلق أجواء الرحمة والحب بين الجيران، خاصة وأن نمط الحياة العصرية قد يلهي الكثيرين عن التواصل مع جيرانه بأي شكل من الأشكال، غير أن إحياء هذه العادة الجميلة خلال شهر الصوم، يعمل على توطيد الحب والتآلف بين سكنى المنطقة الواحدة، سواء كان تبادل هذه الصحون يتم بواسطة الخادمة أو أحد أفراد المنزل.
وتبين المحرزي أن قبول ألوان الأطعمة المقدمة من الجيران من خلال هذه الصحون، لا يعبر عن احتياج مادي من طرف تجاه آخر، بل تكون تعبير عن الحب والتقدير تجاه بعضهم بعضاً، كون هذه الأطباق جميعاً ليست مكلفة تقريباً وإنما الغرض منها تحقيق التراحم بين الجيران بعضهم بعضاً.
أما المهندس عامر الهاشمي، فيبتسم مسترجعاً أيام الطفولة بقوله، إن عملية توصيل الصحون إلى الجيران كانت مهمته المفضلة في الصغر خلال شهر رمضان، حين كان يقف إلى جوار الوالدة وهي تعد مجموعة من الأطباق في فترة ما قبل الإفطار، لينطلق بها إلى الجيران، معتبراً ذلك من أجمل الذكريات الرمضانية التي كان يقوم بها في طفولته.
ويؤكد الهاشمي أنه حالياً لا يزال يحرص على تلك العادة، على الرغم من أنه يسكن في بناية سكنية وليس بيت خاص كما كان الحال في الماضي، وذلك بسبب ظروف العمل التي جعلته يسكن في أبوظبي ويترك الأهل والأصدقاء في الفجيرة، فلا يراهم إلا في نهاية الأسبوع. ويلفت إلى أن دوره في التوصيل يقوم به الآن، ابنه سعيد ذو السبع سنوات، والذي ورث عن أبيه حب هذا التقليد الجميل من تقاليد شهر رمضان المبارك.
الحب والرحمة
يثني سهيل فضالي، صاحب عمل خاص، على هذه العادة الإماراتية الأصيلة، ويقول إنها بالفعل تخلق جوا من الرحمة والحب بين الجيران، على الرغم من أنها لا تكلف شيئاً يذكر، موضحاً أنه يعيش في الإمارات منذ ثماني سنوات مع زوجته وأولاده، وعرف عن هذه العادة في العام الأول لوجوده في الدولة، حيث كان يجد الباب يقرع في فترة ما قبل الآذان ويجد أحد الجيران مرسلاً بالخادمة أو بطفل من أطفاله حاملاً طبقا من الحلوى، أو أحد أنواع الأطعمة التي يجيد أهل المنزل عملها.
ويذكر فضالي أنه بعد ذلك أخذت زوجته تحرص على تجهيز بعض أنواع الحلوى الشامية، التي تتقنها وتتفنن في تجهيزها بأشكال مميزة، ويرسل هو الآخر مع ابنه الأصغر أطباق من هذه الحلوى إلى جيرانه، مبيناً أن “ما تحمله عملية تبادل الصحون من معاني التآلف بين الجيران، يمحو كثيرا من مظاهر الحياة العصرية التي تتسم بانعزالية الأسر عن بعضها البعض داخل البناية الواحدة، حتى يشعر الفرد بأنه يقيم وحده في البناية، لفرط انقطاع الناس عن بعضهم إلا في حالات قليلة قد تجد فيها جيرانك داخل المصعد أو على باب الشقة، فتلقي بالسلام عليهم وتكون تلك هي حدود العلاقة بينكم”.
من ناحيته، يذكر طاهر النيادي، موظف حكومي، أن عادة تبادل الصحون كانت أكثر انتشاراً في الزمن الماضي، وصارت أقل بكثير الآن، ومع ذلك يحاول إحياءها بقدر الإمكان ويعمل على أن تقوم زوجته بإعداد بعض من الحلوى، ويقوم بإرسالها مع أحد أبنائه إلى الجيران، مؤكدا ارتباطه الوجداني بهذه العادة كونها من طقوس رمضان ، كانت تقوم بها الأم “رحمها الله”، ومن ثم فإن قدوم شهر رمضان ومعه هذه العادة يحملان معه ذكريات جميلة لأيام الطفولة كان يتنافس هو وأخوته فيها على القيام بتوصيل أطباق الطعام إلى الجيران.
لا للأطباق الفارغة
تؤكد خولة البريكي مدى حرص الأمهات على تقديم تلك الصحون في أفضل مظهر كون ذلك يعكس مدى شطارة ست البيت، وقدرتها على تجهيز أنواع جيدة من الأكل وتقديمها بشكل جذاب.
وتشير إلى أنها الآن تسير على نهج الوالدة، وتحاول دائماً إحياء هذه العادة، في رمضان من كل عام، خاصة في إعداد “الهريس” والذي يعتبر أكلة إماراتية خالصة، وتقوم بإرساله إلى الجيران مع أحد أطفالها.
وتبين أن الجيران يحرصون بدورهم على هذه العادة الجميلة، من خلال عدم رد الأطباق خالية، لأن ذلك يعد عيباً، فيحرصون على ملئها بأطايب الطعام قبل إعادتها لأصحابها، لافتة إلى أن تعمل ربة كل بيت في إظهار موهبتها في طهي أنواع معينة من الأكلات، أو صنع أشكال من الحلوى سواء الإماراتية أو الشامية التي أصبحت معروفة الآن على نطاق واسع بين ربات البيوت، وتقوم برد الأطباق وقد امتلأت بجميل صنعها من تلك الأطعمة. وعن ظاهرة تبادل أطباق الطعام خلال شهر رمضان، يقول الاختصاصي الاجتماعي ولاء محمود إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه ولا يستطيع العيش دون التفاعل والتواصل مع الآخرين أيا كان صورة هذا التفاعل أو هذا التواصل، ومن المعروف أن المناسبات والأعياد الاجتماعية في سائر المجتمعات، ما هي إلا وسيلة للتشارك المجتمعي حول حدث ما، أو الاحتفاء بمناسبة معينة.
ويضيف “بالنسبة لعالمنا العربي، نولي اهتماماً خاصاً بشهر رمضان ويعمل الجميع على تحقيق التواصل مع الغير بأساليب وطرق مختلفة، أكثرها ظهوراً تبادل الزيارات بين الأهل والأصدقاء، وأيضاً ظهور ما يعرف بالخيم الرمضانية التي أصبحت سمة أساسية في معظم المجتمعات العربية تقريباً وتتشارك فيها الأسر والعائلات طعام الإفطار، وكذلك ظاهرة تبادل أطباق الطعام، والتي تعد واحدة من أبرز أشكال التواصل الاجتماعي المرتبطة بشهر رمضان، حيث تعمل كل أسرة على تقديم صنف أو أكثر من الأصناف التي تجيدها إلى الجيران، وهو الشيء الذي يدخل السرور عليهم، بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي والمادي، لأن هذه الأطباق وكأنها تحمل رسالة تآلف بين قاطني الجوار، خاصة عندما يقوم الجيران برد الأطباق المهداة إليهم وهي معبأة من جميل ما صنعوه من أصناف الطعام والحلوى”.
العلاقات الاجتماعية
يلفت الاختصاصي الاجتماعي ولاء محمود إلى أن “أهمية ظاهرة تبادل أطباق الطعام تزداد في أيامنا هذه حيث تسود الحياة العصرية وتأخذ المشاغل الناس عن جيرانهم وأصدقائهم، فتأتي عملية تبادل الأطباق وكأنها تفعيل للعلاقات الاجتماعية بين الجيران، وإحياء لقيمة التراحم والحب بين سكان المجتمع الواحد”، مؤكدا أن ظاهرة تبادل الأطباق تعد سلوكاً اجتماعياً إيجابياً، يعزز من قيم روح الجماعة بين الأفراد، ولها أعظم الأثر في تحقيق التواصل والتقارب بين الأسر المختلفة.
ويذكر أن الرسول الكريم أوضح لنا أن إدخال السرور على قلب مسلم يعد من الأعمال العظيمة التي يحبها سبحانه وتعالى حيث قال صلى الله عليه وسلم “إن أحب الأعمال إلى الله بعد أداء الفرائض إدخال السرور على قلب المسلم تكشف عنه أو تقضي عنه دينا أو تدفع عنه جوعاً”، وهذا التوجيه النبوي يعد دافع للكثيرين للتمسك بهذه العادة الجميلة وإحياءها باستمرار سواء في شهر رمضان أو غيره من شهور السنة لما في ذلك من فوائد جمة للمجتمع المسلم.