هاشم المعلم
«ما الرياضيات البحتة إلا شعر، كلماته أفكار المنطق» إنشتاين
لسنوات بعيدة لبث الشاعر عبد العزيز جاسم في معمله يختبر خلطات غرائبية، لكنها كلها تؤدي إلى عوالم الشعر والفلسفة بكل شطحاته وفراديسه المفقودة، معزولاً وملتحفاً بمجلدات وكتب وجبال من الأوراق تتشكل وترسم ملامح جديدة لمسار ما هو ثقافي وأدبي بعيداً عن الترهلات المادية والفذلكات المقيتة التي أصابت المشهد برمته.
يظن البعض أن العزلة مكتملة الأركان والملامح نسبياً، طالما أسدلنا ستائر على الوجوه، وأغلقنا الأبواب، ومحونا الشارع وضجيج المارة. قد يحدث هذا فعلاً وحقيقة من الناحية المنطقية والتقليدية!، إلا أن عزلة الشاعر ليست كعزلة الآخرين، فماهي إلا اختبارات جهنمية مقترنة بوحشة وبحدس حاضر، حيث لا مجال في التردد أو الانسحاب.. طقوس وشعائر وابتهالات ونذور طافية في هواء العالم، وعلى هذه النمطية الفذة الوعي تجاه الثقافة والأدب تم تسليط الضوء على المشهد الثقافي ومستقبله، والمرتهن بما هو مقبل وقادم من أقاصي هذا العالم.
ولو قلبنا الصورة بشكل مغاير، نرى الانعكاس ومراحل العزلة، في حياتنا، تبقى اللوحة الأولى، تمثل الجنين وهو في بطن أمه وتلك الحياة وهي في (حالتها الخام)، كما لو أنك تسبح في كوكب مظلم.
لذا حينما نولد أو بالأحرى نسقط/ مسقط الرأس ونقطع كل صلاتنا بما هو بيولوجي أو فسيولوجي، والتي كانت تربطنا (بالحياة العمياء) التي عشناها في بطون أمهاتنا، فهي أيضا بالقياس عزلة بدائية تمر بمراحل الفتور، والشعور الغريب والرغبة بالعزلة لاكتشاف ما يدور من حولنا ولاستعادة ذواتنا أو الخروج منها.
عزلة نيتشه
لابد من الإشارة إلى شخصية مهمة هنا تتعلق بمسألة العزلة أو الوحدة، ويتجلى ذلك بالفيلسوف نيتشه، حيث تبدى ذلك في رائعته «زرادشت، في حقيقته الرائعة، مديح للوحدة».
إذن، لطالما اشتغل الشاعر عبد العزيز جاسم على مشروعه الثقافي والأدبي، وتنظيراته تجاه الفلسفة بروح مثابرة وجهد رصين، مازجا بين الشعر والأدب، حيث يركن الشعر تماما في الحدس وبين الخيال والحس بكل تفاصيله المترامية كأخطبوط عملاق، بينما يقبع في الزاوية الأخرى العلم في برجه العاجي ماديا، عقلانيا ومتشبثا بخيوط ذهبية برهانية.
عن تلك الأسئلة الشائكة والمحيّرة والمثيرة منذ عقود خلت، ونحن نتحدث عن هذه العلاقة الفارقة بين الشعر والعلم، يلوح طيف الأسئلة الكبرى، أين يلتقيان وأين يفترقان، الشعر بكل شفافيته وحرائقه، والعلم بإجلاله وعظيم سلطانه.
هذه التراكمات الفلسفية تم طرحها من قبل الشعراء الكبار أمثال: ريلكه، وهولدرلين وآخرين، وبالتالي يجب أن ننظر إلى الناحية الأخرى من طرح تلك الإشكالية. لسنا في منأى عن الخطر الذي يداهمنا، وبالتالي من غير المنطق والمقبول أن ننحاز ولو قيد أنملة ونهمّش أو نلغي العلم ونركنه بعيدا بإرادتنا الحرة الإنسانية. كما أننا لسنا في موضع التجاهل لما يدور في أفلاك هذا الكون.. فللنظر إلى ما قدمه الشاعر والرياضي عمر الخيام قبل عقود، وما عبّر عنه من خلال رباعياته الخالدة نحو الأفلاك والنجوم والأجرام السماوية وما يحيط بنا، مازجا الشعر والعلم في بوتقة واحدة تحمل في طياتها حيوات وعوالم المخيال والدهشة، عالم الرياضيات والهندسة، عالم الأفلاك والنجوم، عالم الموسيقى التي تعزف بين جنبات وأحراش أرواحنا الخفيفة الهادرة. علاوة على ذلك ترى ما الذي جعل آينشتاين وهو صاحب النظرية النسبية أن يطلق هذه العبارة الذهبية بامتياز، حيث يقول: «ما الرياضيات البحتة إلا شعر، كلماته أفكار المنطق». ومن هذا المنطلق الفلسفي يختصر لنا أن العلم والشعر يلتقيان في نهر الإنسانية الكبرى وبين قطبين من أقطاب المشرق والمغرب، وهو الشاعر والعالم وكل يدلو من بحاره ومحيطاته، فتتقاطع بينهما لذة المعرفة. وبعبارة أخرى: «أنا أشعر أني أرى» (ديكارت).
إيقاع خفي
منذ انطلاقة مجموعته الشعرية والمعنونة «لا لزوم لي» الصادرة في بيروت عام 1995م، والتي افتتحها بمقولة خطيرة لفالتر بنيامين، يقول فيها: «على أقل تقدير، لا سيطرة لأحد على رجل ميت»، نكتشف وعيا مختلفا وحساسية مفرطة تجاه العالم وتجاه النص الجديد عند عبد العزيز جاسم. تمتاز هذه النصوص بالإيقاع الخفي غير المرئي، نصوص كتبت بصيغة سوداوية ساحرة، كما لو أنك تلامس أحشاء الظلام أو ترمي حجرا في أعماقك. لا تخلو تلك النصوص المثيرة بالغرائبية والرثائيات، من رثاء الكون بتفاصيله المعقدة مقترنا بهذا الجسر اللامرئي من أجساد الطيور وبالألم الإنساني. إضافة إلى ذلك لا تخلو تلك النصوص مما يعرج على نشأة الخليقة، حيث يقول الشاعر في هذا المقطع المقتضب:
«قبل النحاس والفوتوغراف، قبل الطواحين والمراثي والحمى الصفراء، ولد العالم ميتا، ومقطوعا من الرقبة كلولب الساكسفون».
هذه الأسئلة الشعرية الحارقة تعيدنا أو تحيلنا إلى السؤال الأبدي: هل كان الموت سيّد المواقف الأولى، أم أن الحياة هي «شجرة الأمواس»؟ أو كما قال هوغو: «أصغوا إلى الحالم الرهيب، فوحده يملك العقل المنير».
«أنا الوقت القتيل، أنا النعش الأحمر المزيّن بالإبر، أنا خفقة الزوابع، وديك العدم، أنا النهر، والمعول، وصندوق الأطياف، أنا كتاب الخيزران وكنز من مضوا جميعاً، أنا خياط الرمال والمياه، أنا قطار النسور، أنا رأس الملاك، وأكرم من آوى اللهب تحت قميصه، ولم أطلب أجرتي، أنا الزهرة، واللعنة، والمدينة، أنا بحيرة البلورات، أنا شيخ الزمان، أنا أسنان الشمس، أجلست الفائت من حياتي على المصطبة، وسحبت من ضفيرة القدّيسة الميتة على فخدي شعرة شعرة».
القصائد التي تسيل من بين أصابع الشاعر عبد العزيز جاسم، قصائد مدهشة، مشحونة بالصورة والرؤيا والمعرفة والحداثة، حيث استطاع وبحيلة ساحرة أن يمزج السينما، والمسرح، والسرد في لغة بسيطة خادعة.
قصائد تحرك المشاعر، وتستفزها، تتوغل في أعماقك، وتجعلك تمشي على الأرض بالمعنى الشعري دائما، كما صرح هولدرين في جملته الشهيرة، فكأنه في ذهنه تنام الكتب والحياة وبين يديه نهر من الكلام.
الانحياز والتورط في تلك القصائد الشعرية مرتبط بالتذوق الثقافي والتعامل الأفضل مع النص الحديث، على النحو الذي يظهره نص بعنوان «القرصان»:
«منذُ قَرْنٍ لم يفتحْ فَمَهُ. لم يَفتحْهُ حتَّى للأكْلِ ربَّما، ولَمْ يُنادي على أحَدٍ مُطلقاً، ساكنُ الدَّار الخَرِبَةِ بِعُقُوصِهِ البَيْضاءِ. مَنْ عاشَ وحِيْداً في مَفْرقِ الأذَى وفَلَواتِ الهَبَابِ. يُنَظِّفُ بُنْدُقِيَّتَهُ في كلِّ يَومٍ ويُحدِّقُ هادئاً كعُيُونِ نَهْرٍ قديم، لا تَجِدُ أَحَداً يُرافقهُ، وما مِنْ أَحَدٍ عَرَفَ لونَ عَيْنَيْهِ. كانوا يُسمُّونهُ القُرْصَانَ، كانوا يُسمُّونهُ الزَّعيمْ! إلاّ أَنَّهُ بصنْدَلٍ من جِلْدِ السِّنَورِ، وبعُكَّازٍ مثلَ ضَرّابَةِ النَّاقوسِ، كانَ يمشي مُلثَّماً كساريةِ مَركبٍ مُغادرٍ دوماً.
لم يَكُن بَغلُ الحانوتيِّ يَصْهلُ عندَ مرورهِ، وشَجر السِّدْرِ تعلَّمَ أَنْ يَنْحني أمامَهُ. الشَّاهِيْنُ يَقِفُ على كَتْفهِ ولا يَجرحُهُ، والنَّاسُ لا يُلوحونَ لهُ ولا يَصرُخُون خشيةَ إزعاجهِ. مأذُونٌ بولايةِ نَفْسهِ وتَنَفُّسِهِ. لا يُخالِطونَهُ ولا يُخالطهُمْ. لا يَقْتربُ ولا يُقَرِّبُ. لكنَّهُ بلا صَوتٍ، ظَلَّ يَحفُرُ في السِّرِّ نفقاً من أَجلِ شَمْسٍ غارِبَةٍ».
ماذا لو إن هذه القصائد ترجمت إلى أعمال سينمائية، أعتقد أنها لوجدت أصداء كبيرة لدى المتلقي وأصحاب الروئ.
مختارات من قصائد عبد العزيز جاسم
يمشط شعر الشياطين ويغني...
يشعل فانوسا ويفتش عن حصالته في النهر
ويطرق أبوابا فيخرج من كل باب مريض في
يده كيسا من الدمع، أو بضعة ظلال دون
رفقة أصحابها.
كان هذا في حفلة برد حين كانت الخيول
المتعبة ترمق صحراء الرماد بنظرات الوداع
الأخيرة، وقد اختضت الأحلام حتى طلعت
عجوز من القبر ودقت عنقها بحجر
من يخون من؟
الفلاح
أم الشجرة شاحبة؟
الغرباء
أم الأرصفة التي تضيق؟
ربما كان هذا الأفق مضبضبا بالنهايات
بينما في الشمال يعتذر الجميع عن العافية
ويشكون كلما أحببناهم كثيرا ان يجففوا
شبق الهواء
ما الذي نصنعه إذا؟
ما الذي تصنعه أنت يامن تفترش الأرض
خلف محل القصاب، هناك قرب عمال
يرتعشون وأجفانهم مخيطة، حيث على
ضوء مجمرتهم تقرأ رسالة امرأة سممت
أبناءها بعرق الثعالب.
ترى هل انتهى كل شيء وأصبح بمقدور
الضفادع أن تلعب مطمئنة عند رأسك، أتراك
مت ولكن نسيت أن تقفل عيونك ولم تدلك
قلبك الآن وأنت من مشط شعر الشياطين
لتتقبلني الراحة المعرقة بشهيقها، ليأخذني
الرعاة إلى حتفهم الجميل، حيث في كل
سهل أنزل أطالع الغصون النابتة من الصدر
قال، وقال هناك أشياء كنت أسمعها مقل
موجات ترتطم بطراد رأس، إلا أن الزلزال على
حد علمي أصلع ويتباهى بغرس زهرة في
جيبه العلوي،
وقال البرابرة من ثقب التور
من مرحاضي رايتهم يبرقون كشظايا اليأس
في المخيلة، حين جمعت وطني دفعت واحدة
واخذت معي غباري.
منتظر، أيها الشمالي، ياوجهي الأحب.
إنها الرياح صديقة الخاسرين، الأيام التي
تقلصت وأصبحت كعملة من البلاستيك
على طاولة قمار، إنها الرضات شتيمتنا
والتي لطالما لازمتنا طويلا كلما غفونا على
صخرة الندامة.
أجل هل تذكر؟ وكيف تنسى؟ تلك الظلمات
التي كان يصادفنا فيها؟ في كل ثانية، ملاك
ملتح ويشخص كإيماءة قطار ضائع، هل تذكر
لقد كنا بلا حاشية وبلا مواعيد نقشّر الجوز
على تلة ونتآخى مع سحلية طافت بنا وهي
تسحب هدب بلدتنا إلى منفى غير معلوم
تاركة الكارثة وحدها تصعد وتلوح فتضل
الطيور طريقها
الآن، القبلة لك، أيها العزيز، ياساكن الفنار،
لقد تأملت البحارة في غيابك وأدهشني
نبوغهم في الموت، حين كنت تقطع الدرب
جيئة وذهابا بحثا عن نتفة حلم الآن لا
أرجح المستقبل على تلك الحافة وليسقط
المتآمرون من حياتي.
انا ليس لدي مشكلة مع الصبر
فذات يوم تناولنا العشاء في كوكب وتصرفنا
مع المودة كم يربي الألوان في مغارة ثم
ثملنا ونمنا في الصبح سدد بندقيته إلى
الشمس فاطفأها ميتة عملاقة كان يقول
وكنت أحسده مليون مرة على دقته تلك
فالشمس ليست بالجمجمة الهينة التي
تخر من طلقة واحدة.
إلا أن الصبر أراني إياها وهي تهوي بأصواتها
المفزعة ورائحتها التي تعصف كقارة انزلقت
سريعا من على كتفي.
* من مجموعة «لا لزوم لي». دار الجديد 1995م
أين كنتم*
حين هرعوا إليه، بعد أن قفز من
أعلى العمارة وظنوا بأن أضلاعه قد
تهشمت وأنه فارق الحياة، فتح عينيه
بصعوبة، نظر إليهم وقال: أين كنتم؟
حين حملوه ومددوه على النقالة، ثم
أعادوا رأسه المرضوض إلى الوراء،
قال: أين كنتم
حين وضعوا السيلان في يده، ومسحوا
بالقطن وجهه المتورم، وثبتوا جسده
بالسيور، قال: أين كنتم
حين احتشد الجمع وأخذت أصواتهم
تعلو مشفقة كالثغاء حوله، قال: أين
كنتم؟
حين دهست سيارة الإسعاف قطيعا
من الأغنام، من دون أن تتوقف، قال:
أين كنتم؟
حين فتحوا بوابة الطوارئ، وهرعوا
به على عجل إلى غرفة العمليات،
قال: أين كنتم؟
حين أقفلوا الباب وأشعلوا الضوء
الأحمر، بعد أن وضعوا له الضمادات
وحضروا أكياس الدم، قال: أين كنتم؟
حين لامست كفه نهد الممرضة التي
كانت تقيس ضغطه ودقات قلبه
قال: أين كنت؟
حين بدا للجمع أن كل شيء قد أصبح
جاهزا لإنقاذه، وأن ملاك الموت قد
غادر الغرفة نهائيا، لم يقل شيئا، لكنه بصق دفقة دم بيضاء، أقفل عينيه وتبخر كالدخان فجأة من أمامهم! حين حطموا باب غرفته فوق السطوح شاهرين مسدساتهم، لم يجدوا شيئا وجدوا حذاء مهترئا، بقايا بالية وقصائد على الحيطان ولكنهم حين أزاحوا ستارة الشقة صعقوا! فلقد وجدوه هو نفسه ميتا، منذ بضعة أيام، على فراش من الجرائد فيما ظله بالضمادات ذاتها وأثر السيلان
في يده، يجلس عند رأسه ويسألهم
أين. أين كنتم؟
* من مجموعة «افتح تابوتك وطر» (مشروع قلم 2010)