نجم والي
المرة الأولى التي عرفت فيها نجيب محفوظ، كان لي من العمر أربعة عشر عاماً. كانت الفترة التي بدأت فيها بقراءة كتب الشعر والروايات البوليسية، روايات الفرنسي مارسيل لابلان ولصه الظريف آرسين لوبين وروايات آغاثا كريستي وكوميسارها هركول بوارو، روايات كما يبدو لم تعجب جارنا كاظم طوفان الذي كان يكبرني بعشر سنوات. كاظم، الشاب الفقير الذي كان معروفاً بنشاطه الشيوعي، والذي اعتقل أكثر من مرة في سنوات الستينيات وانتهى قتيلاً في ثمانينيات القرن الماضي.
كان كاظم قارئاً نهماً أيضاً رغم أن قراءته تركزت باتجاه واحد، الماركسية، وأظن أن ذلك ما أراد الوصول إليه معي، صبي مثلي مبتدئ بشغف بالقراءة، قراءة كتب الأدب خاصة لابد أن يتجه بالنسبة له إلى الماركسية والانتماء إلى الحزب الشيوعي وأفضل وسيلة لتحقيق ذلك هي تشجيعه على قراءة كاتب مستقل لم يُدمغ بدمغة الاشتراكية علناً.. لكنه كاتب «واقعي» على الأقل، و«تقدمي» في عرف كاظم ورفاقه الشيوعيين، لأن الجميع حتى إذا اختلفوا في تفسير محفوظ فإنهم يتفقون على ميله النقدي الاجتماعي في كل الروايات التي كتبها، وحتى تلك التي انتمت إلى مرحلته الأولى، لنقل «الرومانسية التاريخية» التي ضمت ثلاث روايات تاريخية، «عبث الأقدار» (1942)، «رادوبيس» (1943)، «كفاح طيبة» (1944) كان فيها منحى نقدي وإن غلب عليه الطابع الرومانسي، لكنه سيتضح بعد روايته «القاهرة الجديدة» (1945) كما في الروايات اللاحقة: «خان الخليلي» (1946)، «زقاق المدق» (1947)، «السراب»، (1948) (من غير المهم أنه سيميل في هذه الرواية بالذات للفرويدية والتي بدا تأثره بها جلياً)، ثم في «بداية ونهاية»، (1949) وقبل أن يتوج وعيه النقدي الواقعي هذا في عمله الملحمي ثلاثية القاهرة: «بين القصرين»، (1956)، «قصر الشوق»، (1957)، «السكرية»، (1957). ولكن ما لم يعرفه جارنا كاظم هو أن الصبي هذا سيتعلم بالذات الدرس الأول على يد محفوظ: أن يكون مستقلاً يحمل صوته الخاص، ولا ينتمي إلى حزب أو جماعة.
رواية ديمقراطية
تلك هي ميزة محفوظ، فمهما قيل وكُتب عنه، مهما اختلفت وجهات نظر النقاد إلا أنهم يتفقون على أمر واحد هو أن روايات محفوظ لم تعتمد في حكاياتها على صوت واحد، كانت دائماً روايات متعددة الأصوات كأن محفوظ، الذي مثله مثل أي مثقف مخلص لعصره لم يصغ إلى الأصوات التي ارتفعت حوله بل رحَّل أيضاً تناقضاته الداخلية، ووجهات نظره إلى شخصياته وبنفس الثقل حتى عندما لميمنحهم كلهم المساحة المتساوية، لا يهم، لأن بعض شخصياته تأخذ مساحة أكبر من غيرها، يبقى الأهم هو الثقل الذي تجسده كل شخصية، تأثيرها في فلك الشخصيات الأخرى، تصريحاتها. ليست هناك شخصية صغيرة وشخصية كبيرة بهذا المعنى بل هناك دور لكل شخصية عليها لعبه كما هي في الحياة، لأن الرواية في النهاية مهما فعلت واخترعت من حكايات وشخصيات لا تستطيع الانفصال عن محيطها الخارجي، ولأن الحياة أيضاً متعددة الأصوات لابد للرواية أن تكون متعددة الأصوات. وفي النهاية ليس هناك بطل مطلق يفرض نفسه علينا بل أبطال والأمر متروك لنا في المواقف التي نختارها.
درس مهم كما أظن، ذلك الذي علمني إياه محفوظ، ففي بلاد تفتقر لتقاليد ديموقراطية، في بلاد لا برلمان فيها، في بلاد ممنوع فيها قول الرأي بشكل حر، في بلاد تفتقد كل أشكال تقاليد المجتمع المدني، يُفرض فيها الحديث بصوت واحد، يصبح فيها التعرف على كاتب روايته حياة بكل ما حوته من تنوع واختلاف، كاتب عمله الأدبي مجال تتحرك فيه شخصيات متناقضة لكنها تتعايش جنباً إلى جنب كما في تركيبة العائلات التي تجسدها رواياته. التعرف على كاتب مثل هذا هو مثل العثور على كنز عظيم لابد لي من الحفاظ عليه والتزود منه. فلكي يكتب المرء رواية يوماً ما لابد وأن يكون ديموقراطياً في تعامله مع شخصياته وهذا ما فهمه محفوظ مبكراً.
كلاسكيّات عربية
نعم، نجيب محفوظ كان كاتباً ديموقراطياً بامتياز. لا أظن أن كاتباً عربياً نجح بالسير على خطاه، إلا استثناءات قليلة ربما لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد، فالذين جاؤوا بعده واشتهروا جعلتهم السياسة يشتهرون وليس كتاباتهم الأدبية. يمكنني أن أحصي قائمة بعشرات الكتّاب العرب الذين لم يصنع الدخول إلى السجن أو الانتماء إلى حزب أو خدمة سلطة «ثورية» معينة منهم روائيين عظاماً بالضرورة! ربما جعلهم يشتهرون، لكن الشهرة شيء، وبقاء العمل الروائي شيء آخر. الانحياز الأيديولوجي، والترويج لسلطة وخدمة ديكتاتور تقود الرواية إلى تخوم حتفها. عشرات الروايات «الثورية» التي حصدت مديحاً «نقدياً» تجاوز عدد صفحات غينيس، انتهت إلى طي النسيان، على عكس روايات محفوظ، لا أريد أن أقول إنها روايات معاصرة لكنها روايات كلاسيكية شأنها شأن الروايات الكلاسيكية العالمية الأخرى. لا أظن أن روائياً شاباً فرنسياً يريد أن يكتب رواية عظيمة دون أن يكون قرأ بلزاك أو ستاندال أو زولا أو فلوبير قبل ذلك. نفس الأمر يصح على كاتب شاب روسي أو إنجليزي أو أميركي. فبدون قراءة غوغول وتورجينيف ودوستويفسكي وتولستوي بالنسبة للروسي، وشكسبير وتشارلز ديكينز بالنسبة للإنجليزي، وأدغار آلان بو وهيرمان ميلفيل بالنسبة للأميركي، لن يصلوا إلى كتابة أدب عظيم. في حالة الروائي العربي المبتدئ ليس أمامه غير محفوظ، إنه الكاتب الكلاسيكي بلا منازع. ليس ذلك وحسب بل يتعلم منه كتابة الرواية بكل ما تحمله من تعدد بالأصوات، الرواية بصفتها برلماناً تتحرك فيها الشخوص بحريتها.. الرواية بصفتها بانوراما كاملة لتفاصيل يومية لا يمكن العثور عليها في كتب علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس... وغيرها من العلوم التي هي شحيحة إن لم تكن غريبة على البلدان العربية أصلاً (كأن على الروائي وحده وقعت مهمة النيابة عن العلوم هذه جميعاً).
بين عبد الناصر والسادات
نجيب محفوظ فهم الرواية بصفتها المجال الديموقراطي الذي لا يعلو فيه صوت على الصوت الإنساني، أما نقاشاته على صفحات مجلة «الرسالة» في نهاية سنوات الثلاثينيات فهي الحجر الأساس الذي اعتمد عليه في بناء خصوصيته الروائية «الديموقراطية» وهذا ما جعل العقاد، ينتبه آنذاك لخطر التوجه الجديد للشاب محفوظ، ليحذر من خطر كتابة الرواية عامة لأنها حسب وجهة نظره تجسد انحطاطاً للأدب والثقافة مثلها مثل أصناف النثر الأخرى. النثر بالنسبة للعقاد هو نزول إلى ذوق العامّة، على عكس الشعر الذي هو تعبير عن رقي المجتمع ولكي يثبت نظريته كتب في إحدى أكثر مقالاته سذاجة وديموغاجية: «انظروا كيف تآمر البلاشفة على العالم عن طريق روائييهم أمثال بوشكين وغوغول وجعلوا العامة والغوغاء أبطالاً لكتاباتهم»، ولم يعرف أن الاثنين وُلدا وماتا قبل الثورة الروسية بعقود وأن بوشكين شاعر أصلاً! محفوظ الذي دافع بحماس عن الرواية وعن النثر عموماً وفند ادعاءات العقاد، عرف أن الردّ الأمثل على كتّاب رجعيين مثل العقاد هو الكتابة الجميلة بالاتجاه الذي أراد السير عليه، وبالأسلوب الروائي الذي لابد أن يكون: تعددية الأصوات. هذا ما فعله أيضاً في ثلاثيته المشهورة، فقد توقف عن الكتابة بعد «بداية ونهاية»، (1949) وحتى «بين القصرين»، (1956)، لأن صدمة انقلاب العسكر أو ما أطلق عليه ثورة يوليو 1952، حملته على التفكير بالجواب الروائي الصحيح عليها. نعم، هناك وضع جديد، فماذا عليه أن يكتب؟ الردّ كان ثلاثيته التي لو أردنا حصرها في الجانب السياسي فهي رد حكيم من روائي «ديموقراطي» على ديكتاتورية العسكر وعلى الاتحاد الاشتراكي،الحزب الأوحد الذي أسسه جمال عبدالناصر. الثلاثية هي أيضاً وبشكل ما الولادة الجديدة لمحفوظ الذي يعيش التغيير الجديد لكنه سيظل على مسافة منه إلى أن يجيء الرئيس أنور السادات. صحيح أن محفوظ نأى بنفسه عن التصريحات السياسية في زمن عبدالناصر، ومن أجل معرفة رأيه لما دار حوله، كان يحيل سائليه لقراءة رواياته، لكنه عندما رأى الرئيس المصري السابق أنور السادات يزور إسرائيل ويوقع معها معاهدة سلام، خرج من صمته فجأة ليدلي برأيه في المناسبة التاريخية تلك، حتى اليوم لا يريد البعض تصديق أن كاتباً ديموقراطياً، مثل محفوظ، ليس أمامه غير مساندة السلام.
ومثلما لم يهتم محفوظ الشاب في دفاعه عن النثر وعن الرواية بما سيقوله عنه كاتب بمكانة العقاد لم يهتم الناضج محفوظ بما سيقوله المزاودون عليه فيما يخص دعمه لأنور السادات واتفاقية كامب ديفيد أو في استقباله في بيته (هو الذي لا يستقبل أحداً في بيته) أصدقاءه من المثقفين الإسرائيليين (الصورة التي تجمعه مع البروفيسور ساسون سوميخ - العراقي الأصل وابنته يائير ورسالته التي كتبها له خير دليل)، ولمن يشك بذلك يمكنه قراءة رسالة نجيب محفوظ بخط يده والتي تُنشر للمرة الأولى: «ولندعُ الله معاً أن تكلل المساعي المبذولة اليوم بالنجاح، وأن يعود شعبانا إلى المعاشرة المثمرة كما كان الحال في ماضيهما الطويل، فمما لاشك فيه أن تعاوناً مثمراً قد قام بين شعبينا على مدى الأعوام الطويلة، في العصور القديمة والوسطى والحديثة، وأن أيام الخصام كانت قصيرة وقليلة، غير أننا ويا للأسف عنينا بتسجيل لحظات الخصام أكثر مائة مرة من تسجيل أجيال الصداقة والتعاون، وإني أحلم بعهد التعاون،بعهد يُحيل بفضل التعاون المشترك هذه المنطقة إلى مقام مضيء بمشاعل العلم المبارك، بمبادئ السماء السامية». لم يهتم محفوظ لا بما يقول الآخرون بسبب موقفه الثابت المؤيد للسلام في السياسة وللثمن الذي يمكن أن يدفعه بسبب موقفه الديموقراطي الثابت في الرواية، والذي جاءه على شكل طعنة سكين من إرهابي إسلاموي (لحسن الحظ كانت السكين عمياء). نجيب محفوظ ظل حتى وفاته وفياً لنفسه: كاتباً مستقلاً وديموقراطياً وداعية سلام. أربعة عقود ونصف مرت على معرفتي بالمعلم محفوظ، صحيح أنني خيبت ظن جارنا الشيوعي كاظم ولم أنتمِ إلى حزب أو جماعة أو أيديولوجيا.. لكن هل كان من المعقول أنني سأصبح روائياً كما أنا عليه الآن بدون قراءة الكلاسيكي محفوظ والتعلم من مثاله؟
الصوت الإنساني
من غير نجيب محفوظ امتلأت رواياته بشعب كامل: الفقراء إلى جانب الأغنياء، ربات البيوت إلى جانب المتعلمات، المسحوقون إلى جانب الأغنياء، الشرطة إلى جانب المجرمين، الإسلامويون إلى جانب الشيوعيين، القوميون إلى جانب الكوزموبوليتيين، المؤمنون إلى جانب الملحدين!
لقد فهم نجيب محفوظ منذ شروعه في الكتابة الرواية بصفتها المجال الديموقراطي الذي لا يعلو فيه صوت على الصوت الإنساني.