محمد نجيم (الرباط)
في معرضه الفني المقام بالرباط، يقدم لنا الفنان التشكيلي المغربي بنيونس عميروش لوحاته التي يستحضر فيها المكان وأثره في ذاكرة الفنان، وكيف يكون هذا المكان موضوعاً لصياغة لوحة يبث فيها ما انْغَرس في الذات والمخيِّلة تاركاً أثره كخطوط وألوان ورموز، إنها أعمال فنية تتخذ صبغتها التكوينية الموصولة بالفضاءات المدينِيَّة من منطلق التموقع الفيزيقي والرمزي في الفُسَح المعمارية التي تنسج فِعل التنقل والتبادل والتأمل الوجودي، فيما تُجَسِّد الذهنيات والمثاقفات والأنساق القيمِيَّة، وكل ما يعكس الثقافة الحضرية بمفهومها الإثنولوجي الشامل، وفق ما يقوله الفنان بنيونس عن أعماله.
ويصف الفنان عميروش أعماله المعروضة بقوله: في الحقيقة، اجتمعت لدي العديد من لوحات هذه المجموعة، من خلال أعمال شاركت بها في معارض جماعية ثيماتية مخصوصة لمُدن بعينها، وأخرى ضمن اشتغالي في عدد من الإقامات الفنية التي تمحورت حول علاقة (التصوير والمعمار-Peinture et architecture)، وهي العلاقة التي طالما شكلت لدي موضوعاً ذا جاذبية، في الوقت الذي يظل فيه الفن المعماري من أجناس الفنون التشكيلية، ما جعلني باستمرار على مقربة من هواجس وأفكار مهندسين معماريين عالميين وعرب، عبر قراءة كتاباتهم حول مُنْشَآتهم وتصوراتهم (غاودي، لوكوربيزييه، غروبيوس، حسن فتحي، رفعة الجادرجي، محمد مكية، زها حديد، عبد الواحد الوكيل، جعفر طوقان، رشيد الأندلسي، عبد الواحد منتصر وغيرهم). من ثم، جاء استرجاع ذاكرة المدينة لإخضاع ذلك الرباط الرفيع بين الفن والمعمار، ليتخذ التخطيط سطوته في هذه الأعمال، حيث ينبثق السَّطْر (La ligne droite) باعتباره (خط الواجب) الذي يترجم الوجه الوظيفي والمحسوب بعناية في مشاريع المهندس المعماري، إلى جانب المنحني (La ligne courbe) بوصفه (خط الجمال)، ضمن توطين خطي يستعيد ألق (الرَّسيمة - Croquis) ورونق الغرافيك.
ويضيف عميروش: في اتجاه التجاوب والتحاور والتفاعل البصري داخل حلقة الوَصْل بين التعبير والفضاء المَديني، تروم الأعمال السَّيْر نحو تجسيد نظرة ذاتية في استنبات رمزية العَتاقة كسلطة بصرية تعكس قيمة المدينة وحياتها، دون إلغاء وجهها المعماري الحديث، لكن بعيداً عن محاكاة نُظُم التشييد ومظهرية الحواضر في حد ذاتها.
وفي شهادته، خلال افتتاح المعرض، قال الناقد الجمالي أحمد لطف الله: من الواضح جداً أن العنصر البلاستيكي المهيمن في هذه التوليفة الفنية الأخيرة للفنان بنيونس عميروش، هو عنصر الخطّ. إنه يصرّ على الظهور. حازم، عاقدٌ عزمَه أن يُلفت النظر أكثر من العناصر الأخرى المجاورة في فضاء اللوحة، كالشكل واللون والمادة. ولعل من البدهي، التذكير في هذا المقام، بأن الخط يبني كل شيء، لا شيء يمكنه التجلي في هذا الكون دون أن يخضع لسلطة تمثيل الخط. سواء كانت تلك السلطة رمزية أو مكانية. الخط هو الحد الذي يتحكم في دنوّ الجسد من العالم. فالجسد، من حيث العلاقة الشكلية بالعالم، ليس سوى وعاء خطّي، يتألف من خطوط مستقيمة ومنحنية، ممتدة ومعقّدة، تتماسّ مع الكون. خطوط مركزها النقطة التي هي النواة الجينية للخط وللإنسان في الآن نفسه. كما أن الخط في مبتدأ الفكر التشكيلي، يُعدّ أساساً مفاهيمياً وجمالياً للفن، مضيفاً أن الفنان بنيونس «يشرع في التعامل مع خامته، بحضور فكرة سيادة الخط. فيرسم فسحات فاتحة مضيئة ومشرقة أحياناً، وأخرى قاتمة معتمة حيناً آخر. كما تنحصر ملونة معظم هذه الأعمال الفنية الموغلة في التعبيرية، بين الأزرق والبني الترابي. لهذا تتجه رؤيتنا منذ البدء نحو التقاط ذلك الإحساس المهيب بالفضاء. كون معلق بين زرقة السماء وأديم الأرض. ومن أعلى السماء، تغزو الفضاء في بعض الأعمال، كتل لونية فصيحة، ترمز لهوية بعض الأمكنة المقدسة. الأرض هنا دعامة الأشياء، وقاعدتها الأفقية. لا يمكن للعين أن ترتاح، إلا إذا نظرت لمنجزات الفن موضوعة على تلك القاعدة».
في هذه الأعمال الفنية، يخضع الخط حسب طبيعته المكانية، لمسلّمات الهندسة التقليدية، ولمقتضيات المساحة. ويبدو للوهلة الأولى رديفاً للحقيقة التي هي المعمار. لكننا ونحن نتلمس كيف تقترح علينا اللوحات فكرة العمق، والتي تطورت بتطور المنظور، فإننا نلاحظ أن الخط أصبح قادراً على نقل الحقيقة من مساحة الواقع نحو فسحات المجاز. ولأن غاية الفن هي الجمال، تلتبس الحقيقة، في هذه الأعمال، بالمجاز.