الإثنين 25 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

غييوم أبولينير حنجرة باريس الصارخة

غييوم أبولينير حنجرة باريس الصارخة
29 نوفمبر 2018 02:05

أنطوان جوكي

حياة أبولينير كانت قصيرة (38 عاماً)، لكن هذا العملاق، الذي تحلّ هذا الشهر مئوية وفاته، لم يحتَج إلى وقت أطوَل كي يثوّر كتابة الشعر ويوسّع حقل تجاربه. وبين انطلاقته الشعرية مع نهاية التيار الرمزي، ورحيله عشية وصول الحركة الدادائية إلى باريس وانبثاق الحركة السورّيالية (هو الذي اشتقّ كلمة «سورّيالية»)، أثبت عن حساسيّة نادرة لجميع أشكال التجديد من دون أن يتنكّر للتقليد، فمدّ يداً إلى بول فيرلين والأخرى إلى أندريه بروتون، ممثِّلاً، أكثر من أي شاعرٍ آخر، ذلك التحوّل الجوهري الذي طرأ على الشعر الفرنسي بين عامَي 1900 و1920.
وبالتالي، كان صائباً العنوان الذي اختاره الباحث بيار برونيل للدراسة الثمينة التي كرّسها لهذا الشاعر: «أبولينير بين عالمين». فبين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بين القديم والجديد، بين «عودة إلى النظام» وشهيّة مفتوحة على المغامرة، بين الحميمي والشامل، بين الأساطير القديمة وهاجس الحداثة، عرف الشاعر كيف يكوّن صوته الغنائي الفريد. وهذا البين بين هو الذي يجعل من قصيدته فضاءً تحاورياً وشِقاقياً بامتياز تُختبَر فيه مختلف مستويات المألوف والمستغرَب، الجلافة والعبقرية. كما لو أن المسألة لم تعد تتعلّق بمقابلة النبيل والفظ، كما فعل رامبو، بل بتقريبهما قدر الإمكان الواحد من الآخر. هكذا ابتكر أبولينير مطواعية جديدة للقصيدة. مطواعية زمنية وفضائية بقدر ما هي شكلية، بما أن كتابته الشعرية تستدعي في الوقت نفسه عدة أشكال كلاسيكية ومجدِّدة، عدة أزمنة وأماكن. وكان يمكن لهذه الاستدعاءات أن تهدد نصّه بالتمزّق والتفتّت لولا صوت الشاعر الذي لعب دور الرابط أو الصلة بين عناصره المتنافرة.

المنعتِق
في صباه، تأثّر أبولينير بالشعر الرمزي، لكن باكراً أيضاً أثبت عن فرادة وقدرة على الابتكار حرّرتاه من سطوة أي مدرسة أو تيار أدبي. ففنّه لا يرتكز على أي نظرية، بل على مبدأ بسيط مفاده أن على فعل الخلق أن يتأتّى من المخيّلة والحدس، وأن يتقرّب من الحياة والطبيعة. هكذا شكّلت الطبيعة له «ينبوعاً صافياً يمكننا أن نشرب منه دون أن نتسمَّم». لكن على الفنان أن لا يقلّدها، بل أن يحاكيها ويُظهِرها من وجهة نظره الخاصة. وعلى الفن أن ينعتق أيضاً من التفكير كي يتمكن من أن يكون شعرياً. وفي هذا السياق، قال في أحد حواراته: «أنا مؤيّد شرس لاستبعاد تدخُّل الذكاء (أي الفلسفة والمنطق) في تجلّيات الفن. يجب أن يستند الفن على صُدق الانفعال وعفوية التعبير، والاثنان في علاقة مباشرة مع الحياة ويجهدان في تعظيمها جمالياً». وبالتالي، قد يكون العمل الفني مزوّراً من منطلق عدم تقليده الطبيعة، لكنه موهوب بواقعٍ خاص يمنحه حقيقته وأصالته.
في نصوص أبولينير، ثمّة تلاعبٌ حاذق بين حداثة وتقليد. لكن هذا لا يعني الالتفات نحو الماضي أو المستقبل، بل تعقُّب حركة الزمن من أجل إلغائها. ولذلك يستخدم الحاضر زمناً لخطابه في العديد من قصائده، خصوصاً في ديوان «كحول». ومع أن بعض أحداث نصوصه تقع في الماضي، لكنه يتوجّه فيها دائماً إلى أشخاص من زمنٍ آخر، غالباً ما يقع أمامنا. ومن هذا المنطلق كتب في «تأملات جمالية»: «لا يمكننا أن نحمل جثّة والدنا إلى جميع الأماكن التي نسير إليها، بل نتركها برفقة الموتى الآخرين، ونتذكّره، نأسف عليه ونتكلم عنه بإعجاب. وإن أصبحنا هذا الوالد، علينا أن لا ننتظر من أحد أولادنا أن يرغب في التماثل بنا كي تبقى جثّتنا على قيد الحياة. لكن أقدامنا لا تنفصل إلا عبثاً عن التربة التي تحتوي الموتى».
ولاستبدال تعسُّف الزمن الذي يسير في وجهة واحدة بنشوة الزمن الآني، ابتدع أبولينير القصيدة التصويرية (calligramme)، وهي صرحُ شعري بصري يجمع فرادة حركة الكتابة بقابلية حروف الطباعة على التحوّل إلى مفردات وعلامات تشكيلية. قصيدة تشكّل تطبيقاً راديكالياً لشعار التجديد الشكلي الثابت الذي رفعه ودعا في سياقه إلى تحرير البيت الشعري من الوزن والقافية وعدم قطعه إلى شطرَين، إلى ابتكار مفردات لغوية جديدة، إلى خلط الأساطير والتوفيق بينها داخل النص الشعري، وإلى تفجير هذا الأخير بطريقة جمالية معبٍّرة على الصفحة. نصائح لا بد لأي شاعر من الالتزام بها، في نظره، كي يتمكن من إيصال تجربته الخاصة إلى الآخرين وبلوغ الشامل.

الغريب
من جهةٍ أخرى، أبولينير هو «الغنائية مشخصَنة»، كما كتب بروتون عنه. غنائية بمعنى التعبير الشخصي وأيضاً بمعنى التحمُّس والإثارة. ففي أعماله الشعرية، ثمّة جانبٌ مهم من البوح الذاتي والعاطفي، وفي الوقت نفسه، ثمّة حضور ملحّ لحالة التحليق (المسيح الطيّار، العصافير...) ولحالة الحماسة والابتهاج الغامر، وشعور النشوة الطاغي في ديوان «كحول»، منذ عنوانه، يشكّل خير دليل على ذلك. وإلى هذين المعنيين، تمكن إضافة مكوّنات أخرى مهمة من المعطى الغنائي، كالموسيقى (القصائد التي كتبها على شكل أغانٍ أو أنشودات)، والتسكّع (القصائد التي ألّفها خلال سيره بلا هدف). وهذه العناصر التي تدخل في تركيبة شعرية أبولينير هي أيضاً معطيات من صلب شخصيته.

الغامض
ولفهم هذه الشخصية الفريدة وشعريتها، لا بد من الإشارة هنا إلى أن صاحبها وُلِد من علاقة عابرة بين خادمة بولونية شابة وضابط سابق في جيش مملكة الصقليتين لم يعترف به، وإلى أنه أمضى طفولته متنقلاً مع أمّه بين مدنٍ مختلفة، قبل أن يستقرّا في باريس عام 1889. مُعطَيان يقفان خلف شعوره الثابت لاحقاً بأنه «غريب» بالمعنى الذي منحه بودلير لهذه الكلمة، أي عاشق «الغيوم العابرة»، وتبنّيه ببعضٍ من الرضا عن الذات هوية المهاجر الذي لا وطن له، واللقيط، خلال حقبة كانت قد بدأت تتصاعد فيها الحملات القومية المعادية للأجانب، وبالتالي طَرحِه بطريقة راديكالية في شعره سؤال الهوية الغنائية. ولهذا السبب، حافظ أبولينير على سرّ أصوله وغذّى الإشاعات حولها. «القصص والحكايات هي شيئي»، كتب في واحدة من الرسائل التي تبادلها مع تريستان تزارا. سببٌ يفسّر أيضاً عشقه للخيال ونسج الخرافات، وذلك التلاعب الثابت بين الحقيقي والمغشوش في نصوصه، كما يفسّر ميله إلى المعتِم والغامض والنادر والثمين والمبلبِل، وهو ما دفعه إلى الغوص باستمرار في القواميس لتشكيل لوائح طويلة من الكلمات النادرة من أجل استثمار أصواتها ومعانيها وغرابتها في قصائده. وإلى ذلك، يمكننا أن نضيف أيضاً ميلاً قوياً إلى الحياة الشهوانية يفسّر ممارسته الأدب الإيروسي الفكاهي بين عامه العشرين وعامه الثلاثين ووضعه فيه روايات كانت توزَّع في السرّ، وتردّده على الحانات وسائر الأماكن الليلية التي كان يختلط فيها البوهيميون بالقوّادين وبائعات الهوى ومختلف أنواع الأشقياء.

حنجرة باريس
جميع هذه الميول نستشفّها في أعماله الشعرية الغزيرة، وفي مقدّمها ديوان «كحول» الذي كتب قصائده بين عامَي 1898 و1913، وديوان «كاليغرامات» الذي كتب نصوصه بين عامَي 1913 و1918. فمنذ عنوانه، يستحضر الديوان الأول عطشاً لاستهلاك الحياة. عطشٌ مرادف للفضول والحماسة والرغبة الحادّة. ولأن الشاعر «ثملٌ من شِرْبِ الكون بأسره»، نراه يصوّر نفسه كـ «حنجرة باريس» الصارخة أو المُنشِدة التي لا ترتوي. لكن قيمة هذا الديوان لا تكمن فقط في سطوة مضمونه، بل أيضاً في أسلوبه السيّال وموسيقى أبياته وكثافة صوره. تكمن أيضاً في تمكّن أبولينير داخله ليس فقط من استثمار الميثات بشكلٍ حاذق، بل أيضاً من تفكيكها وإعادة كتابتها كما يرغب، مخضعاً الوجوه الأسطورية اليونانية والرومانية واليهودية المسيحية والحديثة إلى عملية إتلاف تُفقدها ألوهيتها وتحوّلها إلى شخصيات عادية، باستثناء طائر الفينيق الذي افتُتِن الشاعر بقدرته الثابتة على الانبعاث والتجدُّد. وإذ يعزو بعض النقّاد سبب «تشويهه» هذه الميثات إلى رغبة دفينة لديه في قلب الواقع السائد رمزياً من أجل خلق واقع آخر لا يكون فيه لقيطاً، الأكيد هو أن «كحول» نجح ليس فقط في ترسيخ الاسم الذي اختاره أبولينير لنفسه (اسمه الأصلي فيلهلم ألبرت فلاديمير أبوليناري كوستروفيسكي) داخل المشهد الشعري الفرنسي الحديث، بل أيضاً في تكريسه كأب للشعر الحديث.
وسواء في هذا الديوان، أو في ديوان «كاليغرامات» الذي ابتكر فيه قصيدة تصوّرية لا سابق لها تتوزّع أبياتها أو كلماتها بطريقة تمنحنا صورة بصرية للموضوع المقارَب فيها، ليكون بذلك أوّل من ألغى الحدود بين الشعر وفن الرسم، يختلط داخل نصّ أبولينير الذاتي والموضوعي، الغنائي والمبتذَل، لمقاربة إما جماليات العالم الحديث، إما شعرية الواقع اليومي المستخلَصة من النظرة الجديدة التي ألقاها على الأشياء العادية وكشف بواسطتها جمالاً مجهولاً فيها، وإما نشوة الحضور في الكون. مواضيع تحضر إلى جانب مواضيع أخرى ثابتة لديه، كالكآبة النابعة من العبور السريع للزمن، والعذابات الناتجة من مغامراته العاطفية التعيسة، ووضع المنفيين ومهمَّشي الحياة الحديثة على أنواعهم، وخصوصاً تلك العزلة المستشعَرة داخل الجموع، والمدينة كمكانٍ ملتبَس يثير الحماسة واليأس معاً، الإعجاب والقلق على حدّ سواء. وبذلك، أكمل الشاعر تجربة بودلير المدينية لكن براديكالية أكبر.

المغامر
ولا تكتمل صورة أبولينير من دون التوقف عند علاقات الصداقة التي ربطته بعدد مهم من كبار فناني عصره، وكانوا في بداية مسيرتهم الفنية، فدعمهم وكتب عنهم أفضل النصوص النقدية. حقيقة ذكّر بها بروتون الناقد عام 1952 بقوله: «كان أفضل مكتشف للمواهب الفنية وحدّد بشكل حاسم مسعى كلٍّ من ماتيس وأندريه دوران وبيكاسو وجورجيو دو كيريكو، مستعيناً بأدوات مَسْحٍ ذهنية لم نر مثلها منذ بودلير».
وخلف عمل الشاعر والناقد، ننسى غالباً عمل القاص والناثر الذي ترك لنا سرديات رائعة، مثل «الشاعر المُغتال» أو «المرأة الجالسة»، تعكس ثقافته الانتقائية وتؤسِّس لنوعٍ أدبي جديد يشكّل نقيض الأدب الواقعي والطبيعي اللذين كانا رائجين في زمنه. ننسى أيضاً عمل الفنان الذي مارس الرسم منذ صباه بمهارة مدهشة تتجلى في عشرات الرسوم التي تركها خلفه وتظهر فيها وجوه بشرية حزينة أو مضحكة، أجساد مفكّكة أو مقطّعة، حيوانات مختلفة، كائنات خيالية أو مشاهد حُلُمية تعكس بأسلوبها الحرية الكبيرة التي تمتّع بها هذا العملاق وقدرته الهائلة على الافتتان بمشهد العالم. رسوم تساعد في طبيعتها ودلالاتها على ولوج أعماله الأخرى، وتشكّل خير تجسيد لما قاله أبولينير عام 1917: «يمكننا أن نكون شعراء في جميع الميادين: يكفي أن نكون مغامرين وأن نلبّي بصدق هذه النزعة فينا».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©