عالم من المفردات والعناصر والتفاصيل، يفرشها الفنان «محمد كاظم» أمام عيوننا، عبر عمله الفني «سفر الأمكنة» المشارك ضمن مهرجان الحصن، كحكاية بانورامية متحررة من القيود والحدود والجغرافيا، ينكشف فيها العالم على مرايا الأزمنة في فيوضاتها وتجلياتها المتبدلة، وقد توحدت فيها عناصر الذاكرة الإنسانية، الفردية والجمعية على السواء في سياق متكافئ مع ذاكرة المكان، تتشابك، وتتقاطع، لتنتهي في سرد بصري جمالي ووجداني مفارق للجاهز أو النمطي، يتكأ مفتوحاً على مرايا الماء، وسط مهابة قصر الحصن التاريخي، ويتخذ من «سفر الأمكنة» علامة محورية، يتوسل منها استدراج ذاكرة المكان في تقاطعه المفتوح مع ذاكرة التاريخ، والجغرافيا، وعلاقة الإنسان مع البعد اللامتناهي لفراغ الفضاء، ومجهول البحر، تروي حكاية الإنسان مع إيقاعات الزمن المتغير، وانعطافات الثابت والمتغير من مظاهر الحياة فيها.
* لكن ما المقصود هنا «بالسفر» هل هو «سفر مجازي» عبر الذاكرة والمخيلة والحلم؟ أم هو السفر الحقيقي، عبر قطع المسافات والاحتكاك بالبشر والأمكنة على تنوّعها؟
- يقول الفنان محمد كاظم: نحن هنا أمام عمل فني جديد، يعكس «فلسفة الفن» باعتباره متجاوزاً لسلطة المكان والزمان، ويتعامل مع عناصر البيئة المحلية، ويستمد أفكاره منها. «فالماء» في حركته الدائمة هو العنصر البيئي الذي يشكل ملامح إنسان الإمارات، وعلاقته القديمة بالبحر، والموانئ هي أيضاً أمكنة تمثل رئة كل مدينة، بما فيها فكرة الهجرة والترحال والسفر والتجارة وكسب الرزق، لذلك نحن أمام فكرة تدوين متسلسل، ومفتوح على أحداث الماضي، وصولاً إلى المستقبل، ولتحقيق ذلك اخترت المنافذ المائية والموانئ البحرية في دولة الإمارات، ورسمت موقعه الجغرافي بعد زيارته ومعاينته، بمساندة جهاز (GPS) ومن ثم قمت برسمه، وتنفيذه على الخشب لعرضه إلى جانب المواقع الجغرافية الأخرى، بشكل متجاور وقرب بعضها البعض، على سطح بحيرة المجمع الثقافي في أبوظبي، في إشارة رمزية لاتحاد دولة الإمارات، وانصهار مدنها، وشواطئها، ومياهها وناسها في روح واحدة لا تتجزأ.
ويضيف كاظم: هذه الأرقام الخشبية تمثل الإحداثيات الجغرافية للموانئ والخيران الموجودة في الدولة، وهذه الأماكن ارتبطت برحلات الصيد واللؤلؤ، وأيضاً رحلات السفر، حيث كان الترحال في ذلك الزمن القديم، كما أن هذه الرحلات ساهمت في رفع دور الاقتصاد في دولة الإمارات، بالإضافة إلى أن هذا العمل معاصر، ولكنه متصل أيضاً مع التاريخ القديم. وهو يوحي بأن الفنان أيضاً يتدخل في المكان، ويحاول أن ينجز عملاً يكون ملائماً للحدث. إن العمل حداثي، لكن له علاقة بالتاريخ أيضاً؛ أي أنه تاريخي كذلك، ويستخدم فيه مادة طبيعة وهي مادة الخشب التي كانت تستخدم في صناعة السفن التقليدية. ونرى أن الإحداثيات الموجودة بجانب المركب مفككة، بمعنى لا يمكن أن ترمز لأي مكان محدد وهي في حالة حركة دائمة، من خلال الرحلات الممتدة خلال عمل البحارة. وأوضح الفنان أن في هذا العمل جدلاً مهماً من خلال تفاعل الفنان مع المكان. وهذا يحتاج أن يشرف على العمل مقيم، وأشرفت عليه كل من القيمة ريم فضة وسارة صفوان، حيث أشرفتا مع فريق عمل كامل على إنجاز هذا العمل الفني.
تداخل الماء والهواء
وعن المدة الزمنية التي استغرقها العمل الفني «سفر الأمكنة» يجيب كاظم: أمضيت حوالي 8 أشهر في إعداده، وكنت أترقب المكان إذا كان مناسباً لاحتواء العمل، ويتكون العمل من نحو 5000 قطعة، وجميعها من الحروف والأرقام العربية. وكان يمكن أن أستخدم مواد غير الخشب، لكن نحن أخذنا مادة الخشب لأننا كنا نريد لعنصري الماء والهواء أن يتدخلا فيه لتحريكه، كما تركنا لمن يريد من الجمهور أن يشارك ويساهم في العمل، أياً كانت جنسية المشارك، بذلك، يمثل العمل يمثل روحاً واحدة بمشاركة الناس من جنسيات مختلفة، بما يحقق رمزية السفر من المكان وإليه. وقد سبق لي المشاركة في مهرجانات عدة، واشتغلت على عمل «الوقوف فوق الماء» بمهرجان في الصين، كما عملت ما يشبه هذا العمل، لكن بعدة أشكال وتحمل دلالات مختلفة، استخدمت فيها بعض الإضاءات الصناعية أو إضاءات الشمس ومواد مختلفة أيضاً.
* يستند محمد كاظم في أعماله الفنية، التي ليس من السهل فهمها لغرابتها، وهي تجمع بين التجريد والتشخيص والتجسيم الشكلاني المفاهيمي، إلى مثير فكري أو بصري أو حدسي فطري، ينطلق من خلاله في تشكيل سرديته البصرية التي تتميز بالإفراط في نزوحها نحو التجريب والاختبار، في بحثه عن سؤال فكري أو فلسفي من واقع الحياة الإنسانية ومخلفاتها اليومية، تعكس طريقته الخاصة في النظر إلى الأشياء باعتبارها موضوعاً للفن، وليس مادة له. فعن جديد أدواته التعبيرية في عمله «سفر الأمكنة».
- يقول كاظم: يتضمن العمل مجموعة من الإشارات الفنية البصرية التي تؤكد على توجهي إلى مفاهيمية الفن، وهي المدرسة التي أنتمي إليها. فنحن نرى مع هذا العمل، الأشكال الطافية على الماء وكأنها توحّدت من تلقاء نفسها، واختلطت ببعضها البعض وفق مبدأ (التغيير الثابت). حيث إننا نقف أمام عمل يتسم بالحركة الدائمة. هذه الحروف، والأرقام الخشبية ليست ثابتة، وإنما في حركة دائمة ومتغيرة باستمرار. ومع ذلك، فإن هذا التغيير في الشكل، لا يقابله تغيير في الجوهر، حيث إن الكتلة تظل واحدة، والمعنى أيضاً يبقى كما هو في استدلال واضح على أن «الكيان الوحدوي» الذي يجمع كل مدن الإمارات، يظل متوحداً حتى لو طرأت عليه التغييرات في الشكل من الخارج.
إحياء دوائر الزمن
* ولكن أي قدرة للفنون التصويرية على إحياء دوائر الزمن في تبدلها، وإنتاج مقومات جديدة للفهم والتفكير والتوجه به من جديد نحو قراءة الواقع والمستقبل؟
- يقول كاظم: استخدمت عناصر تكنولوجية وطبيعية مثل الريح وحركة الأمواج والتيارات البحرية وتحولات الطقس، إلى جانب تجارب فيزيائية أخرى قد تكون وليدة لحظة تأدية العمل. والعمل ككل هو غوص في عمق المفردات البيئية والبحث من جديد عن اتجاهاتها الأساسية المرئية واللامرئية، لربط العلاقات البسيطة نسبياً، والمعقدة ضمنياً مع بعضها البعض.
ويختتم محمد كاظم حديثه بالقول: يكمن جوهر الفكرة في إشراك المشاهد بالعمل الفني، وجعله جزءاً لا يتجرأ من تحولات القطعة الخشبية التي تتحرك على سطح الماء، وتخترق الخطوط الجغرافية التي رُسمت على الخرائط، والتي تتغير من زمن إلى آخر، مع تغير الإحداثيات الجغرافية للمكان وبالتالي الأرقام، الزمن والتاريخ، جميعها تصبحُ في حالة من التغير الدائم. تتفكك وتعود لتتحد. وكأنها تتمرد على الجغرافيا والحدود. أليس الإنسان هو أيضاً عرضة لهذه التيارات، والإحداثيات الجغرافية والبيئية والسفر بين الأمكنة وعرضة للتغيير كل لحظة وكل يوم؟
سارة صفوان: الهدف الاحتفال بثقافة الإمارات وتراثها
تقول المقيمة الفنية سارة صفوان: أردنا من هذا العمل للفنان محمد كاظم الاحتفال بثقافة الإمارات وتراثها. اخترنا المواد الخشبية لربط الخشب من الداو. عندما تكون جميع الإحداثيات معا فإنها تحتفل أيضا بتوحيد الإمارات العربية المتحدة وتربطها بالموقع التاريخي لقصر الحصن.
وتضيف: حدد محمد كاظم الموانئ البحرية في دولة الإمارات العربية المتحدة، واستخرج الإحداثيات الجغرافية الرقمية للموانئ البحرية من كل إمارة وصممها على قطع خشبية، ثم وضع هذه الإحداثيات معا ليصنع تاريخا موحدا في الحصن، أحد أهم النقاط التاريخية والثقافية في أبوظبي. وأشارت صفوان إلى أن العمل يدعو المشاهد للمشاركة في وضع رقم أو حرف في الماء وتركه يطفو بحرية. ورغم التغيرات المستمرة للعناصر الخارجية إلا أن أجزاء العمل تبقى متراصة وموحدة.
ريم فضة: يعكس حساسية فنية عالية
تقول المقيمة الفنية ريم فضة، مديرة المجمع الثقافي، حول دلالات العمل الفني «سفر الأمكنة»: منطقة الماء في دارة الحصن، حاولنا تفعليها في مهرجان الحصن، بحيث يطلع الناس على النشاط التراث البحري، المتعلق بمدينة أبوظبي ودولة الإمارات، لذلك، توجهنا إلى الفنان محمد كاظم، وهو الذي اشتغل بأعمال تركيبية متعددة، وخاصة تلك التي تتناول علاقته بالبحر، وفي هذا العمل الرمزي الجميل جداً «سفر الأمكنة»، استوحى الفنان عمله بأن يأخذ الإحداثيات الجغرافية لكل موانئ دولة الإمارات العربية المتحدة، أخذ الإحداثيات الجغرافية، وهي على شكل أرقام وحروف من الخشب، لأن مادة الخشب تطفو على الماء، وتوضح الفنانة فضة أن الفنان قرر أن يصمم هذا العمل بالشكل الإحداثي، ويضع هذه الأرقام الخشبية في الماء، بحيث يقوم الجمهور بالتفاعل مع هذا العمل، ويشارك بإلقاء هذه الأحرف، وجمالية هذه الأحرف والأرقام تكمن في أنها تلتقي مع بعضها، بحيث تتوحد بشكل حر وتلقائي، ومن هذه الرمزية أحببنا أن نؤكد على هذا المكان، باعتباره من ركائز هذا التراث.
وتابعت مريم فضة، مشيرةً إلى أن كاظم استوحى هذه الفكرة من الإحداثيات، وكيف يمكن أن تستخدم التكنولوجيا للتأكيد على الركيزة في المكان، وتخطي حتى العواقب والمصاعب الجغرافية في السفر، وحتى في التعامل مع الثقافات الجديدة والمختلفة، وهو هنا يستخدمها كنوع رمزي ليؤكد على وجوده.
اختتمت فضة، قائلةً: علاقتي مع الفنان محمد كاظم علاقة عمل من سنوات طويلة، حيث اشتغلنا سنة 2012 تحضيراً لمعرضه، الذي كان في بينالي البندقية، في 2013، وكنت من بين الذين أعدوا كتاباً عن عمله، كما أني ملمة بأعماله بشتى أشكالها، ومن سنتين اشتغلت على معرض كان بعنوان: «تحيا القدس» في رام الله، حيث عمل على شبابيك المتحف الفلسطيني، واستخدم أيضاً الإحداثيات مع شبكة النور، بدعوة مني للفنان الإماراتي، حتى ترمز إلى عدم قدرته للوصول إلى القدس وإلى فلسطين، وقد بادر الفنان محمد كاظم إلى إنجاز العمل بصدر رحب. وبينت فضة: أن «كاظم» فنان دؤوب وعنده حساسية عالية، وبنفس الوقت عنده قيم في العمل رائعة، وهو من الفنانين الذين يعملون بجد واهتمام، وعنده حوار مع المكان والمجتمع، وهذا العمل الذي قدمه به حساسية عالية جداً وجمالية راقية، وأنا أعتبره من أجمل ما صنع من أعمال فنية، ونحن هنا نلتقي بفنانينا حتى على مستوى عالمي، وكاظم جدير بالمكانة التي وصل إليها، وهو بأعماله وصل إلى العالمية.