بقبعته الصغيرة المتعددة الألوان وحذائه الرياضي الرمادي، كان زيد سعد، قد انتهى لتوه من وضع اللمسات الأخيرة على معرضه للفن المعاصر على الضفة الرملية لنهر دجلة في بغداد، حين وصلت دورية للشرطة.
كان ذلك المعرض جزءاً من جولة على مدى يومين في العاصمة العراقية، في إطار جهود يبذلها فنانون عراقيون شباب سعياً لمعالجة المعضلات الاجتماعية واستعادة هوية بغداد بعد أكثر من عقد طبعته أعمال العنف.
لكن عند كل منعطف تقريباً، واجه المنظمون بعض الصور النمطية التي سعوا إلى كسرها، من الجدران الإسمنتية إلى القوات الأمنية وصولاً إلى المشككين في المجتمع العراقي المحافظ.
وعلى سبيل المثال، فإن نوع الفن الذي يقدمه سعد أقيم في منطقة تعتبر حساسة في العاصمة، مباشرة على ضفة نهر دجلة القريب من المنطقة الخضراء المشددة التحصين والتي تضم مقار الوزرات والبرلمان وسفارات عدة أبرزها الأميركية.
أجرى سعد اتصالات هاتفية عدة واستحصل على تراخيص مكتوبة بخط اليد قبل أن يتمكن من ملاقاة ما يقارب عشرين شخصاً وتقديم عرضه بعنوان "صندوق".
وفي هذا العرض، 11 صندوقاً كرتونياً يمثل كل منها عراقياً خاطر في خوض غمار البحر باتجاه أوروبا. وعلى مقربة منها، راديو صغير يذيع شهادات أقارب أو أصدقاء يدعون لهم بالتوفيق.
يقول سعد "27 عاما" لوكالة فرانس برس "أريد أن أوصل الفكرة أنه من الضروري أن نبقى هنا، أن نبني بلدنا أولاً، ثم نذهب إلى بلدان أخرى".
ويضيف أن هؤلاء "هاجروا بسبب الضغوط والأشياء التي حصلت في البلد وحوّلته غير صالح للسكن. والسبب الرئيسي هو الحكومة الموجودة داخل المنطقة الخضراء".
أفضل من لا شيء:
يصر سعد على أن الفن قد يكون وسيلة للتصدي لأشد التحديات التي تواجه العراق اليوم، من موجات الهجرة ومرحلة ما بعد تنظيم داعش، إلى جانب الفقر والتلوث.
يلفت سعد، العضو أيضاً في مجموعة "تركيب" الفنية الشبابية العراقية، إلى أن "المجتمع العراقي اعتاد على كل أنواع التظاهر والاحتجاج (...) يريد شيئاً جديداً"، مضيفاً "للأسف الفن عندنا شيء جديد، والفن المعاصر بالذات، فهذا سيؤثر في المجتمع".
وقد شهد العراق موجات عدة من انعدام الاستقرار الأمني منذ الغزو الأميركي في العام 2003، مرورا بسنوات من العنف الطائفي والتفجيرات الدامية، وصولا إلى ثلاث سنوات من المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية انتهت في ديسمبر 2017.
كانت تلك السنوات الخمس عشرة كافية لتشويه العاصمة، حيث تغلق حواجز الشرطة شوارع ومناطق بأكملها، غير تلك المحاطة بأسوار إسمنتية عالية، خصوصاً تلك التي تضم مباني قد تشكل هدفاً محتملاً لأي اعتداء.
يمتد واحد من أعمال "بغداد ووك" (جولة في بغداد)، على طول جدران اسمنتية عند سوق مزدحمة مفتوحة ملاصقة لأحد المصارف.
يقول صاحب الفكرة المصور الفوتوغرافي حسين مطر لفرانس برس إن "كل شيء في المدينة كان سيئاً، لكن يمكن تغييره".
كان مطر قد أعاد تصوير نسخ جديدة من صور قديمة لبغداد التقطت قبل عقود، وعلق الصور للمقارنة على منازل عراقية متهالكة في شارع الرشيد بوسط العاصمة.
رغم هذا التفاؤل، فإن معظم تراث بغداد تعرض "للتشويه" بشكل دائم، بحسب ما تقول الباحثة المتعاونة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى سيسيليا بييري.
ومبادرات كتلك الجولة، رغم أنها تحسن الوضع، لكنها لم تصل إلا إلى فئة صغيرة من المجتمع العراقي.
وتشير بييري، المتخصصة في التاريخ الحضري الحديث في العراق إلى أن "هناك مزيداً من المقاهي مع الشباب، ومبادرات أكثر إبداعاً، لكنها في المجال المحدود للبرجوازية الحضرية المتعلمة".
لكنها تضيف "إنه أفضل من لا شيء، لكن ليس كافياً ليرتوي المجتمع بأكمله".
التاريخ أقوى من الفن:
وفعلياً، كان المتسوقون يبدون اهتماماً أكبر على طول شارع الرشيد ببسطات ساعات اليد، والسمك النهري والأحذية الرياضية المقلدة، أكثر من المعرض الفني المفتوح.
وبدا المارة في حيرة من أمرهم، حتى سأل واحد منهم أحد المنظمين "هل أنت عراقي؟".
مع بدء غروب الشمس في ساحة التحرير بوسط العاصمة، أقام الفنان لؤي الحضاري معرضه، وهو عبارة عن تمثال وردي لامرأة بسلاسل تتدلى من معصميها، تمثل النساء اللواتي سُبين واستعبدن جنسياً من قبل تنظيم داعش خلال سيطرته على ما يقرب من ثلث مساحة العراق في العام 2014.
يوضح الحضاري لفرانس برس إنه اختار ساحة التحرير لأن الرسالة من عمله الفني هو التحرر، قائلا "قطعت السلسلة ورفعت يدها في الهواء. هناك أمل في الموضوع".
قبل ساعات قليلة فقط، اضطر إلى إجراء تعديلات اللحظات الأخيرة على رداء تمثاله لتغطية جزء أكبر من الجسد.
يقول الحضاري في إشارة إلى المجتمع العراقي المحافظ "غيرت لون العباءة لأنها كانت شفافة جداً. أكثرية الناس لن تفهم الموضوع وستعتبره تعرياً".
وفي هذا السياق، يقول المهندس علي عامر (34 عاما) الذي كان حاضرا خلال الجولة، إن العبء كله يقع على المجتمع العراقي.
ويعتبر عامر أن "المشكلة فينا. المدينة وسخة؟ نحن نوسخها. المدينة غير آمنة؟ نحن سبب المشاكل". ويضيف "اليوم كانت محاولة، وهذا الشيء الذي دفعني إلى المشاركة".
لكن ذلك غير مقنع لأبو عذراء الربيعي، الرجل ذي البنية القوية الذي يبيع لوازم الهواتف قرب إحدى نقاط المعرض.
يشدد الربيعي بالقول "اعتدنا على الهمجية، على القتل. لا يوجد أمل أن يتغير هذا الشيء من خلال الفن"، مضيفاً "حرب تلو الأخرى. التاريخ أقوى من الفن".