أحمد مراد (القاهرة)
في السادس عشر من نوفمبر من كل عام، تحتفل مختلف دول العالم باليوم العالمي للتسامح بهدف تعزيز قيم السماحة والصفح والمحبة والتعاون، وهي القيم والمبادئ التي دعا إليها الإسلام الحنيف منذ أكثر من 1400 عام. وأوضح علماء دين أن الإسلام حدد الأصول التي يجب مراعاتها عند التعامل مع الآخر، وقوام تلك الأصول هو التسامح الذي هو وثيق الصلة بالعفو الذي يعني التجاوز عن الذنب وإسداء الإحسان وفعل الخيرات، مؤكدين أن قيمة التسامح من القيم السامية في دين الإسلام، وقد تحقق بصورة واضحة سواء التسامح الديني، والذي يعني التعايش بين الأديان وحرية ممارسة الشعائر.
الحق في العيش
مفتي الديار المصرية السابق، د. علي جمعة، أوضح أن الناس جميعاً في نظر الإسلام لهم الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز، فالإنسان مكرم في القرآن الكريم، دون النظر إلى دينه أو لونه أو جنسه، ولا يصح أن يكون اختلاف البشر في ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم ودياناتهم سبباً في التنافر والعداوة، بل إنه يجب أن يكون داعياً للتعارف والتلاقي على الخير والمصلحة المشتركة، لكل ذلك نظر الإسلام إلى غير المسلمين، خاصة أهل الكتاب، نظرة تكامل وتعاون، ودستور الإسلام في التعامل مع غير المسلمين يتلخص في قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، «سورة الممتحنة: الآية 8»، ومن هذه الآية وغيرها حدد الإسلام الأصول التي يجب مراعاتها عند التعامل مع الآخر، وقوام تلك الأصول هو التسامح الذي هو وثيق الصلة بالعفو.
وقال: قيمة التسامح من القيم السامية في دين الإسلام، قال الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...)، «سورة البقرة: الآية 356»، وقد تحقق التسامح في الإسلام بصورة واضحة سواء التسامح الديني والذي يعني التعايش بين الأديان والمذاهب المختلفة وحرية ممارسة الشعائر الدينية والتخلي عن التعصب الديني والعنصري أو التسامح الفكري بمعنى حرية الحوار والمناقشة مع عدم التعصب للأفكار الشخصية ومنح الحرية في الإبداع والاجتهاد، وقد حرص القرآن على أن يربي أتباعه على مجادلة المخالفين بالحسنى والعقل بما يعكس روح احترام الآخر واحترام نظرته المختلفة، لأجل إقامة علاقات إنسانية بين الناس على أساس التسامح والسلام، قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...)، «سورة العنكبوت: الآية 46».
وأضاف د. جمعة: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم اهتماماً فائقاً بإظهار الرحمة والتسامح والعفو مع غير المسلمين، وحذر أشد التحذير من ظلم واحد منهم، فقال: «من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»، ولما توسعت رقعة الدولة الإسلامية زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، كانت هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية، وبخاصة في نجران، فما كان منه، إلا أن أقام معهم المعاهدات التي تؤمن لهم حرية المعتقد، وممارسة الشعائر، وصون أماكن العبادة، بالإضافة إلى ضمان حرية الفكر والتعلم والعمل. وتابع: تحقيق السلام هو غاية جميع العلاقات الإنسانية والتسامح مع الآخرين هو الوسيلة النافعة في تحقيق تلك الغاية، وقد كان من هدي النبي، صلى الله عليه وسلم، استخدامه الأسلوب الرقيق والكلمة الطيبة مع المخالفين، وقدم لأصحابه النموذج في التسامح والعفو حينما أمن أهل مكة بعد فتحها عزيزاً منتصراً قوياً فسامحهم رغم ظلمهم له وبغيهم على أصحابه، وقال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟»، قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
دعوة إسلامية صريحة
وأوضح فضيلة الشيخ عبد الناصر بليح، من علماء الأزهر ووزارة الأوقاف المصرية، أن الإسلام الحنيف يدعو إلى التسامح بين المسلمين، وبين المسلمين وغيرهم، والتسامح في الإسلام نصوصه كثيرة وشهيرة، منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)، «سورة الشورى: الآية 37»، ولأن الصفح والعفو والتسامح من دلائل العظمة، وعمق الإيمان، فقد كان النبي يعلمهما أصحابه، فقد جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ قال: «كلَّ يوم سبعين مرة». وأشار إلى أن سماحة الإسلام كانت من أعظم أسباب سرعة انتشاره، وكانت تلك السرعة الهائلة التي طوى فيها الإسلام أكثر المعمور من الأرض تحت ظله الظليل، كانت راجعة إلى عدل هذه الشريعة وحكمتها، عندما رأى أصحاب البلاد المفتوحة عدل المسلمين وتعاملهم فكان في ذلك أكبر الأثر في انتشار الإسلام في البلدان، فنقرأ مصالحات أبي عبيدة بن الجراح لأهل الشام على الإبقاء على معابدهم من البيع والكنائس داخل المدن وخارجها مصونة لا يهدم منها شيء وصالحهم على حقن دمائهم وحفظ حياتهم، وصالحهم على الدفاع عنهم وحمايتهم من أي اعتداء آخر مقابل مبلغ من المال مقدور عليه، يدفعه كل واحد منهم ولذلك سموا بأهل الذمة، وهؤلاء المعاهدون وأهل الذمة وفيت لهم الشروط، وشاهدوا حسن السيرة فيهم، وبهذه المعاملة رغبوا في دين الإسلام، وأقبلوا عليه وارتفعت الجزية عمن أسلم منهم.
حق الآخر
قالت الدكتورة آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر: التسامح قيمة إسلامية جليلة حث عليها الدين الحنيف وطبقها النبي الكريم في سيرته وسنته، ومجمل قيمة التسامح أنها السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه، وكون أنها محمودة أنها لا تفضي إلى ضرورة أو فساد، ومن ألوان التسامح أن نتحمل عقائد غيرنا وأعمالهم ولا نقول فيهم بما يؤلمهم رعاية لعواطفهم وأحاسيسهم، ولا نلجأ إلى وسائل الجبر والإكراه ولصرفهم عن عقائدهم أو منعهم مما يقومون به من الأعمال العقيدية، ومن معاني التسامح مع المختلف معه، المساكنة والتعايش في إطار رؤية إسلامية تحترم حق الآخر في الرأي والعقيدة والفكر.
وأضافت: يرتبط التسامح مع العدل في المعادلة مهما كان الاختلاف، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، «سورة المائدة: الآية 8»، فالله سبحانه يراقب الخلق ولا يغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فالمؤمن يراقب ربه، ويتحرى العدل مع جميع البشر، وقد نهى سبحانه أن يتخذ المؤمن من اختلاف من يختلف معه في الدين ذريعة لظلمه وعدم العدل معه، ومن العدل الوفاء بالعهد، ومن التسامح أن يشمل ذلك المسلم وغير المسلم.