كثيرة هي المجالات التي يظهر فيها التسامح: مجال التفكير والعقل، مجال العاطفة، مجال العلاقة مع الناس (دينية أو مذهبية أو طائفية أو أخلاقية أو سياسية أو ثقافية أو عقائدية... والعلاقة مع الذات، والعلاقة مع السلطة، والعلاقة مع المخلوقات الأخرى)... الخ. كما أن هناك درجات ودرجات كثيرة من التسامح، من التساهل البسيط، حتى الإذعان. فالتسامح مرتبط بالمقدرة، فمن لا يمتلك المقدرة لا يمتلك التسامح، بل بالعكس، إنه يطلبه. والإذعان تسامح مستسلم وعاجز، فالإذعان للعاصفة أو البركان أو الطوفان... ليس فيه أي شيء من التسامح، بسبب فقدان المقدرة على المواجهة. وكذلك القوى الاجتماعية الكبرى، فإننا نذعن لها عندما نفتقد المقدرة على انتزاع الحقوق. وما يحدد التسامح ينحصر في موازين القوى، فدائماً هناك طرفان، فإن كانا متساويين في القوى تحوّل التسامح إلى اتفاقية، وإن كانا متباينين تحوّل إلى إذعان. هنا بعض المجالات التي تسعف في إبراز التسامح.
في المجال النفسي هناك من يميلون إلى التسامح بحكم طبيعتهم، فنجد نفوساً تميل بطبيعتها إلى التساهل، وهناك نفوس فطرت على العناد والتحجر، فترفض أي تنازل. وبين الطرفين هناك درجات لا تكاد تحصى. مدرسة الطبائع في علم النفس تذهب إلى أن التسامح من طبيعة المزاج البلغمي الميال إلى الاجتماع واعتماد التودد إلى الآخر، بينما العناد من طبيعة أصحاب المزاج السوداوي الذين يشكون في كل شيء تقريباً، فيرفضون التسامح بكل أشكاله. في المجال الاقتصادي تتحكم قوانين السوق الرأسمالية في درجة التسامح، ففي أعقاب الثورة الصناعية، بعد أن تحوّلت المراعي إلى حظائر من أجل الأجواخ، نزلت أفواج هائلة إلى المدينة، فاكتظ سوق العمل، حتى أن المرء كان في كثير من الأحيان يعمل بما يكفي قوته اليومي، ولكن بعد أن ظهرت المنافسة بين القوى الاقتصادية، وتوسعت الأسواق وانتقلت من الداخل إلى الخارج تحسنت الأحوال، وظهرت حركة تطالب بالحقوق الكاملة للعمال، لم يعد الأمر إذعاناً.
في المجال الأخلاقي، هناك نوعان من التربية: الإسبرطية والأثينية، فالأولى متشددة والثانية متساهلة، فبحسب نوعية الثقافة تكون درجة التسامح. وتشدد الأنظمة المتطوّرة على التربية والتعليم كوسائل تخفف من التطرف، وتضمن إلى حدّما السلم الاجتماعي. وفي الخمسينيات من القرن الماضي، عندما تفوّق السوفييت في مجال الفضاء، كان الرئيس نكسون وقتها عضواً في لجنة وضع البرامج التعليمية، فرفض أن تتكاثر المواد العلمية فقط، بينما تتقلص العلوم الإنسانية، وكانت حجته في ذلك أن مثل هذا البرنامج «العلمي» يجعل المواطن الأميركي يفتقد «اللطافة» (القدرة على التسامح) التي هي أساس المجتمع، وأصرّ على تنمية العلوم الإنسانية، التي هي صمّام السلم الاجتماعي، وحجته أن العلوم تصنع الوسائل، بينما الإنسانيات والعواطف النبيلة التي هي الملاط الاجتماعي.
وفي مجال العلوم التطبيقية هناك أيضاً تسامح، ففي الآلات يسمح بخطأ في أداء الآلة بمقدار كذا، وفي الكهرباء يسمح بانخفاض التيار أو زيادة التيار بمقدار كذا، وفي المحركات يسمح بفراغ في الزند أو المرفق أو الصباب أو حركة الميل المركزي بمقدار كذا...
وفي مجال الطب والدواء، هناك أيضاً معايير للتسامح لا يجوز تخطيها، فلا يسمح بتخطي حرارة المريض الدرجة أربعين، ولا يسمح لضغط الدم أن يزداد على 14/9 ولا يسمح لمصانع الأدوية بأن تنزل المادة الدوائية عن 2%... ونلاحظ أن تعاطي الدواء نفسه يخضع للتسامح، فدائماً هناك مجال متاح للمريض: من حبة إلى ثلاث حبات يومياً، على سبيل المثال.
وفي الوظيفة يسمح بإجازة أسبوعية، وكذلك إجازة سنوية، وقد حصل ذلك بعد دراسات كثيرة، فتبيّـن أن التسامح في هذا المجال أفضل من التشدد، فالمردود يكون أفضل بكثير مما لو عانى الموظف ضغوط العمل الكثيرة.
وحتى في السجون نلاحظ أن المجتمع يشرّع التسامح بربع مدة العقوبة، ليتيح للسجين بداية حياة جديدة، وفي الامتحانات تسمح الجامعات بدورات استثنائية حتى تشجع الطلاب على الدراسة والنجاح.
لا يكاد مجال من المجالات يخلو من التسامح بهذه النسبة أو تلك، فيبدو الوجود قائماً على التسامح. وعلى فرض أننا حذفنا التسامح من هذا الوجود... هل يبقى كما هو؟ ألا تنهار العلاقات في كل المجالات، حتى أنه يستعصي على الفكر البشري تصوّر كيف يكون المجتمع والكون والفكر والأشياء؟
هذه الصورة للتسامح تدب فينا الحماسة إلى درجة نتصوّر فيها عدم التسامح نوعاً من الجريمة الصامتة، فلا يجوز ألا يكون هناك تسامح، لأن التسامح من صلب التكوين الإنساني والطبيعي والفكري والثقافي... ولكن...!
جذور التسامح
النقص سمة في الإنسان منذ خلق، وهذا النقص لم يكن من حظ الإنسان وحده، بل في كل شيء من الأشياء الطبيعية والكونية. ألم يمنح إبيميثيوس الصفات العظيمة للحيوانات، حتى أن أخاه بروميثيوس عندما أراد أن يخلق الإنسان لم يجد صفة عظيمة يمنحها له، فخلق له العقل تعويضاً عن هذا النقص المريع؟ ومن النظر في لغة البشر نلاحظ هذا النقص، فاللغة نفسها ناقصة، ولا تعبّر بحد ذاتها عن النشاط البشري، إلا إذا استعانت بالآخر من حيوان ونبات وطبيعة وكون. ولننظر في فن البلاغة نجد أن الصفات العظيمة موجودة خارج الإنسان، فالشاعر يقول: وجهها كالبدر، وقدّها كالخيزران وصوتها كالبلبل... ولو فتشنا في كل اللغات عن مشبه به لكان خارج النطاق الإنساني، ما يدل على نقصه الفادح. والنقص يفرض التسامح.
يقال إن سقراط صار حكيماً لأنه اتبع ما كتب على جدار معبد دلفي: اعرف نفسك -لا تبالغ- الكمال مستحيل. فمعرفة النفسبحق وكبح الذات عن المبالغة والإقرار بنقص الوجود، كل الوجود... يفرض التسامح، وإلا دمّر الإنسان نفسه والطبيعة المحيطة به. وعندما كتب المسيح على الأرض بالقرب من الزانية «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، إنما كان يعود إلى الجذور اليونانية للنقص البشري. فالخطيئة موجودة ولابد من الإقرار بها، حتى نتمكن من إصلاحها، أو على الأقل نتجنب الضرر البالغ منها. ولتلافي الخطيئة يعمد الإنسان إلى أشكال لا تعد ولا تحصى ومنها التسامح، بحسب الخطيئة والأذية والظروف والأهداف.
الوسائل
وضع الإغريق على مدى عصور ودهور وسائل تعين على تحمل خطيئة الوجود، وبالطبع خصوها بالإنسان، على اعتبار أنه وحده قابل للتربية والثقافة والتعليم. توصلوا إلى أن هناك أربع فضائل إنسانية كفيلة بالتخفيف من عناء الوجود البشري وهي العدالة justice والحكمة wisdom والشجاعة fortitude والعفة tolerance (وهي الكلمة التي اتخذتها اللغات الأوروبية وضمنتها معنى التسامح) وهذه الفضائل ليست بلا هدف، بل لها هدف تنشده وهو تحقيق القيم المطلقة: الحق truth والخير good والجمال beauty. وأي فضيلة لا تهدف إلى رفع سقف القيم المطلقة تكون ساقطة وتتحوّل إلى نقيصة، فأنت تكون شجاعاً إذا استخدمت شجاعتك لإغناء الحق والخير والجمال، وليس الباطل والشر والقبح. وهذا ما التقطه رواد النهضة الأوروبية وعملوا عليه، ففي كتاب فرانسوا رابليه غاريغانتوا وبنتاغرويل مسرد كامل عن برنامج التعليم لتدعيم الشخصية البشرية، وهو مأخوذ برمته من الفضائل الأربع والقيم الثلاث. ولو نظرنا في اليوتوبيات الفلسفية التي كتبت من أيام أفلاطون حتى كامبانيلا لوجدنا أنها كلها تسبح في هذا الفلك الكبير. وحتى الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة يجمع بين آراء أرسطو وأفلاطون، ويسير في الخط العام لليوتوبيات، مع فارق وهو أنهم في الشرق كانوا يسعون إلى تحقيق التوافق بين الشريعة والفلسفة، الذي بدأه الفارابي واستمر مع ابن طفيل وابن رشد، بينما في عصر النهضة نحى النهضويون الدين جانباً.
حتى هذه اللحظة لم تضف البشرية فضيلة أو قيمة على ما سبق أن توصّل إليه الإغريق بعد مخاض طويل، ومعاناة شاقة في وضع القوانين، ودراسة المجتمعات، ورعاية الآداب والفنون والموسيقى. فالمسيحية وافقت على الفضائل، ولكنها طرحت قيمها الخاصة وهي الإيمان والمحبة والرجاء، وهي قيم مضمرة لا تخضع لقياس ولا لمعاينة، فالحق يعرف مباشرة، ولكن من يستطيع معرفة المؤمن من المنافق؟. وقد حوّل الإكليروس هذه القيم إلى قيم تعصبية، فالإيمان يجب أن يكون بكذا وكذلك المحبة والرجاء، مما ضيّق الدائرة الإنسانية فصارت مقتصرة على أصحاب العقيدة فقط، ما أفضى إلى المزيد من التعصب، إلى درجة النظر إلى الآخر باعتباره عدواً، ما تسبب في أخطر الحروب وأطولها، كالحرب الصليبية.
من التاريخ المعيب
كل العقائد والأديان تدعو إلى التسامح، ولكن الممارسة كانت على النقيض من ذلك أحياناً. ويفسر الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع والأخلاق ذلك بأن المطامع المادية وراء كل التاريخ المعيب لحروبنا، فدائماً ينزلون بالرايات بيضاً، ويعودون بها حمراً، أي يستندون إلى الشعارات الإنسانية الراقية، ويزعمون أن الآخر مجرد منها، فتكون النتيجة الخلاص منه والاستيلاء على ممتلكاته. ففي القرن العاشر تحوّلت روسيا إلى المسيحية فجهزت جيشاً وقضت على كل من لم يعتنقها، وفي أوروبا ظهرت محاكم التفتيش، وعملت بحسب ما جاء في وثيقة مطرقة السحرة بحجة أن كل من ليس مسيحياً هو مهرطق أو ساحر، وفي رسائل كريستوفر كولومبوس إلى البابا يبرر قتل الأطفال في العالم الجديد بأنه يريد أن يجنبهم عذاب الجحيم. ولا حاجة للإشارة إلى الفرق الإسلامية، بل يكفي أن نشير إلى فرقة المعتزلة التي اشتهرت بلقب «أصحاب العدل»، وكيف لاحقت خصومها بلا هوادة.
يصعب أن يتخلى صاحب العقيدة عن عقيدته، وبخاصة إذا كانت السلطة الحاكمة داعمة له، بل قد يستغل الظروف للخلاص ممن يتوهم أنهم أعداء له. وفي القرن السادس عشر ظهرت كلمة tolerance ليس بالمعنى اليوناني القديم بل بمعنى التسامح، وكان جون لوك أهم مفكر عالج هذه القضية، فحصر التسامح، بعد حروب الكاثوليك والبروتستانت، في الدولة، فلا تتدخل إلا في حال قيام الأطراف بعمل يهدد السلم الاجتماعي، أو يخالف القانون. فمهما علت حدة المناقشات تبقى الدولة حيادية، وهذا ما ساعد على التخفيف من الحروب الدينية. ووضع لوك مبادئ عدة تسير عليها السلطة الحاكمة لضبط الأمور. أما جون ملتون فقد سبق جون لوك في المطالبة بحرية الرأي، بل طالب بنشر الكتب من غير ترخيص، فإن وجدت السلطات، بعد النشر، مخالفة قانونية لجأت إلى المقاضاة. وبالتدريج مالت بريطانيا إلى الحكم الدستوري وصار التسامح يتم مدنياً بعيداً عن الدولة التي تهتم فقط بقمع أي شغب أو عمل يهدد القانون والسلم الاجتماعي، من دون أي تدخل في الشأن العقائدي.
أما في الأدب، فيعتبر التسامح من أهم المحاور الكبرى، وقد برع في ذلك دستويفسكي،وبخاصة في «الإخوة كرامازوف». وليو تولستوي. والتسامح مرتبط أدبياً بالخطيئة وليس بالجريمة، فالقانون يرفض أي تسامح، وحتى عندما يسقط الشخص حقه الخاص، يبقى هناك الحق العام، الذي لا يسقط أبداً. العقيدة القانون انتهت منذ القرن التاسع عشر، وبدأت مرحلة وضع القوانين المستوحاة من مونتسكيو وجون لوك وكانط وهيغل... وأما الفلسفات الحديثة أمثال الفوضوية والماركسية والنقابية والحركات العمالية والحركات الاشتراكية... فإنها تتمسك بالمجتمع المدني الخاضع لقوانين دقيقة وشاملة. وقد ربط المفكرون بين هذه القوانين والجهاز التنفيذي الذي يجب أن يكون في مستوى القوانين المصوغة، وإلا ظلت حبراً على ورق... الأمر يتصل ببناء الدولة الحديثة... فالخلاص ليس بالقانون وحده، بل أيضاً بمن يشرف وينفذ.
وإذا كان الغرب قد حوّل العقيدة إلى رأي ومنحها كامل الحرية في القانون، فإن الشرق لم يفلح في تحويل العقيدة إلى رأي، لأسباب كثيرة، في مقدمتها ظهور رعاية للأفكار العقائدية واستخدامها في المجالات القتالية والسياسية.