إبراهيم الملا (الشارقة)
في أفق حروفي وتشكيلي يتسّع لأقواس زاهية من الأعمال التركيبية ذات العمق الروحي والبعد العرفاني، يقدم مهرجان الفنون الإسلامية بالشارقة في دورته الثانية والعشرين، وتحت شعار مشبع بدلالاته وتجليّاته وهو: «مدى» ما يمكن أن نطلق عليه الاتساع الذي تضيق أمامه العبارة، والرحابة التي يقصر دونها الوصف، ذلك أن المحتويات الفنية التي يقدمها المهرجان تتعانق في فضاء بصري لا يحتمل حدود النظر، أو الاكتفاء بالمعاينة، بل يتعداه نحو الانخطاف والجذب والهيام، مانحاً المتلقي ما تستحقه الأشواق الرهيفة من نشوات ولذائذ، وما تتطلّبه الأهواء العطشى من جمال وجلال.
وفي متحف الشارقة للفنون الذي يحتضن جانباً مهماً ومتميزاً من أعمال وأنشطة مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية في دورته الحالية، يمكننا قراءة ملامح العنوان العام للمهرجان في المدى المفتوح للمرجعيات الثقافية المتنوعة ضمن مناخ تعبيري متجانس في مضامينه ومعانيه، على الرغم من الفرادة الواضحة في التجربة التشكيلية لكل فنان على حدة، ومنها أعمال الفنانين والخطاطين والمصممين الإماراتيين الذين تبوح نتاجاتهم اللونية والحروفية بتكوينات بصرية منتمية للخصوصية المحلية المستندة على توقير المشاعر الدينية، واستلهام النفحات الإيمانية، بما يتقاطع مع الجوهر الصوفيّ البهيّ في الديانات والمعتقدات الأخرى، الأمر الذي يغدق على العمل الفني المرتبط ببيئة وذاكرة الفنان الإماراتي، انعكاسات سخية في مرايا الفن الإسلامي وفي مروياته أيضاً، باعتباره فنّا موصولا بوجد كوني يفوق مدارك الهويّات المنعزلة، ومحدّدات الجغرافيا الضيّقة.
ففي عمل بعنوان: «أنا هي، من كنت أو سأكون» تقدم الفنانة الإماراتية هند بن دميثان تنويعات بصرية للثيمة العمرانية المعروفة في البناء التراثي المحلي للبيوت والمساجد، وهي الثيمة التي يطلق عليها: «الوارش» أو «المشربية» في بيئات عربية أخرى، كما تقدم ملمحا تراثيا آخر يتجسّد في «نسيج السدو» الذي تعرضه في فيديو موزع على ثلاث شاشات وبخلفية تظهر رمال ونباتات الصحراء، وكأنها تمزج هنا بين المهنة الشعبية التي كانت تمارسها الأمهات قديماً، من خلال توزيع ألوان «السدو» وتنسيقها، وبين ألوان الصحراء ذاتها المتدرجة بين البني الفاتح للتراب والاخضرار الغامق للنباتات الحولية والأخرى الدائمة في البنية الظاهرية المتماوجة للرمال.
أما في تعاملها مع: «الوارش» أو الديكور الخارجي لسطح المنزل فهي تستثمر الطراز الهندسي الذي يخفي الأشخاص خلفه، ويتيح مجالاً لرؤية الخارج بوضوح، كي تعبّر عن ثنائية الانزواء والفضول التي لازمت الحضور الأنثوي، كونها ثنائية مرتبطة بنسق ديني واجتماعي يصنع فاصلا بين المرأة والمكان الخطر، وبين المرأة والآخر الغريب، ولكن ضمن حدود تحترم رغبة المرأة في اكتشاف العالم الخارجي ورؤيته ومعاينته والحكم عليه، وحول مشاركتها في المهرجان تقول هند بن دميثان: «باستخدام نفس مبدأ المشربية، سوف أسمح للمشاهد برؤية أين هو جسده، حيث ستقف المشربية كحاجز بين جسده وروحانيته، وكل هذا يؤدي إلى حيث بدأت، وهو فكرة الوجود: لماذا نحن هنا؟، أين نحن؟ إلى أين ذاهبون؟ ولماذا؟».
ومن هنا أيضا تبرز أهمية هذا العمل المستوعب لتساؤلات حارقة حول المعطى الدلالي للمشربية، والتي تصفها مدونة العمل بأنها تستر وتحمي المجال الخاص، مع السماح للمشاهد في هذا المجال للتعرض بشكل كامل لكل ما هو على الجانب الآخر من الفاصل، حيث تعمل النقطة الفاصلة على الجمع بين الحركة والثبات، وبين الرؤية والتأمل، وبين الكليّة والفردانية، وبين المَشاع والحميمي.
أما الفنان الإماراتي فراس بردان فيقدم عملا بعنوان: «ومضات» استفاد في تركيبه من خبرته في مجال التصميم الغرافيكي، وإعادة تشكيل «البولارويد»، وتشريح شكل الصورة إلى نقاط موزعة في نطاق متناسق، واستخدامه كذلك للطباعة بالشاشة الحريرية، مستعينا أيضا ببرامج تصميم متعددة، حيث يتبع شبكة تزيد على 2500 نقطة للبدء في العمل على موضوعه، وإعادة بناء الصورة على شكل أعمدة رأسية ومرتكزات أفقية.
يوثق عمل «ومضات» للتكوينات الزخرفية المختلفة في سجادة الصلاة، والتي تتجاوز هنا الطرز الإسلامية التقليدية، ذات الأشكال الهندسية المكررة، لتذهب باتجاه آخر يفضي إلى الوعي بالقيمة الجمالية لهذه التكوينات، وطبيعة الاشتغال من خلال خامات جديدة وتقنيات معاصرة، ويقول فراس بردان عن عمله: «عندما نصلّي في لحظات الاستسلام والعبادة والضعف والسكينة، لا يسعنا إلّا أن نرى هذه الأنماط التزيينية أمام أعيننا لتصبح معبرا لرحلة بصرية آسرة تربط بيننا وبين الله».
وفي عملها بعنوان: «تراكيب» تستثمر الفنانة الإماراتية عزة القبيسي خبرتها الطويلة في مجال تصميم المجوهرات وصناعة الفضة والحرف اليدوية، لتمنح المشاهد صيغة بصرية تفاعلية حول الأنماط التي تخلق نماذج عملية للتصميم تستلهم من مواد محلية مستوحاة من جذوع النخيل، ويسلّط عملها الفني الضوء على تطور المعرفة المنقولة حول كيفية نشوء الزخارف الإسلامية وأغراضها الجمالية المؤكدة على خصوصية الهوية الفنية واشتباكها في ذات الوقت مع الدلالات الروحية للإنسان في أمكنة وأزمنة متعددة.
وتستدعي الفنانة الإماراتية موزة مطر في عملها: «فن الدعاء» خبرتها الروحية والإيمانية بعد تأديتها لمناسك الحج، حيث تصوّر في عملها قصصا لأشخاص صادفتهم في الحج، استرجعت فيه محيطهم الطبيعي وسلوكياتهم وعواطفهم الدينية أثناء الدعاء، ووثقت هذه المشاهد في ثلاث لوحات تجسّد مشاعرها أثناء تواجدها وسط هؤلاء الشخوص، وتصف موزة مطر أعمالها بأنها تعيد إحساسنا بالدعاء باعتباره جوهر العبادة، وتقول: «تلقيت تعليمات الدعاء في الحج بقلب منتبه، فيما قال آخرون أن الدعاء ممكن بأية لغة دون قيد أو شرط، وهو أمر ملموس، واعتراف بضعفنا، وسواء كان الموقف ينمّ عن الحزن أو الشكر، فإن الناس يتضرعون لله بكل شفافية وأمل».