السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«المسحراتي» كروان شهر رمضان المبارك وساحر القلوب

«المسحراتي» كروان شهر رمضان المبارك وساحر القلوب
9 أغسطس 2011 22:02
يا نايم وحّد الدايم.. يا غافي وحّد الله.. يا نايم وحّد مولاك، يللي خلقك ما بينساك.. قوموا إلى سحوركم جاء رمضان يزوركم. على وقع هذا الدعاء، يستمتع المسلمون في شهر رمضان المبارك بصوت “المسحراتي” الساحر، والمسحراتي أحب شخصية إلى قلوب الكبار والصغار على السواء، ومن أهم الوجوه التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالعادات والتقاليد الرمضانية عمل “المسحراتي” يقتصر على ليالي هذا الشهر الفضيل، أي لمدة 30 يوماً فقط، ولا تكتمل “العدة” من دونه، فبمجرد سماع صوته بعد منتصف الليل، تدب الحركة في الأحياء والأزقة الشعبية خصوصاً، موقظاً الأهالي على وقع ضرب طبلته، فيتغير سكون الليل، ويضفي على المكان سحرا خاصا، وتتردد صدى كلماته: قعدوا تسحروا يا عبيد الله قعدوا تسحروا يرحمكم الله قعدوا تسحروا يا ناس برد سحوركم يا ناس.. لا تكتمل صورة هذا الشهر الكريم من دون “المسحراتي”، فهذه “المهنة” من الموروثات القديمة المتعلقة بالعادات والتقاليد، وصاحبها يقدم خدمات إنسانية تقضي بإيقاظ الناس من نومهم حتى يتناولوا طعام السحور قبل الفجر بمدة كافية، فجولته تبدأ بعد منتصف الليل، حاملاً طبلة صغيرة وعصا، وبصحبته أحد الصبية الصغار يحمل مصباحاً او قنديلاً يضيء لهما الطريق، لاسيما عندما تكون الكهرباء مقطوعة والظلام دامس جداً، يطوف على البيوت مردداً: يا عباد الله وحد الله، سحورك يا صايم وحد الدايم، يا عباد الله وحدوا الله.. طبلته التقليدية عدا ذلك، فإن “المسحراتي” يحفظ أسماء الأهالي، وغالباً ما ينطق بها، من دون أن ينسى الأطفال الذين ينتظرونه بفارغ الصبر، فيستيقظون على إيقاع ونغمة طبلته التقليدية التي ينقر عليها نقرات معروفة عند باب كل منزل، حيث ينادي صاحبه باسمه، فيدعوه الى الاستيقاظ من أجل السحور. قديماً كانت مهمة “المسحراتي” أقوى من اليوم، ويقال إنه كان يتولى ثلاث جولات، إحداها يومية وتشمل الأحياء لايقاظ الناس وقت السحور، والثانية يومية وتشمل بعض البيوت لجمع الطعام والمساعدات للمحتاجين. والجولة الثالثة كانت في أيام العيد من أجل جمع العيديات، ترافقه طبلته وهي بمثابة الهوية التي تدل على صاحبها. يعتبر وجود “المسحراتي” ضرورياً في ليالي رمضان، لايقاظ الناس من نومهم، وان تبدّلت المقاييس اليوم بعض الشيء نظراً لوجود الساعات المنبهة، وسهر معظم الناس على “شاشات التلفزة” حتى وقت السحور، وجولته تبدأ عند الساعة الواحدة صباحاً وحتى آذان الفجر. وفي ليلة السابع والعشرين من الشهر الكريم، يردد “المسحراتي” أهازيج خاصة ومحزنة بتوديع رمضان، حيث يقول: فلان بن فلان اجلس وتسحر يا عبيد الله السحور، ودعوا يا كرام شهر الصيام الوداع الوداع يا شهر رمضان عيّدوا ولعيدكم جاكم، عيدوا في هنا وسرور ايجيكم العيد عيدوا، واقعدوا لعيالكم وانظروا الثياب الجديدة ألبسوا بطيب الجنة اتطيبوا، عيدوا والعيد جاءكم، عيدوا في هناء وسرور.. مهنة “المسحراتي” في المدينة أو القرية، يرثها الأبناء من الآباء والأجداد، وقد يكون أحدهم موظفاً أو عاملاً أو صاحب حرفة، الا أن الواجب يدعوه لتكملة مسيرة “المسحراتية”. وقديماً كان التلفزيون يتولى مهمة “التسحير” وكان البث والإرسال ينتهي عند موعد السحور، وليس طوال الـ24 ساعة، وفي سنة 1964 كان صوت الراحل سيد مكاوي يصدح في التلفزيون عند موعد السحور، حيث كان يضفي بكلماته بعض الأجواء الاجتماعية والسياسية، وفن “السخرية” مثل: حيوا الوطن في الغيط أبو الفدادين، وفي حصة العربي ودرس الدين، حيوا الوطن في الجبهة والميادين، يوم الجهاد لكل المجتهدين، حيوا الوطن.. فلو لا العرق ما كنتش نور الجبين.. أزياء تقليدية بالرغم من اختفاء الكثير من الفنون المرتبطة بـ”المسحراتي” سواء في القرية او المدينة، الا أن وظيفته الأساسية لا تزال ظاهرة، من خلال استمرارية العادات والتقاليد، فنرى “المسحراتي” بزيه التقليدي “الجلباب”، يوقظ المسلمين، وهذه العادة بدأت منذ عهد الرسول الكريم حتى الآن، عندما كانوا يسمعون آذان الصحابي “بلال بن رباح” ويعرفون الامتناع عن الطعام، بآذان الصحابي “عبدالله بن مكتوم”. فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: “إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم”.. تطورت مهنة “المسحراتي” في كثير من البلدان العربية، فابتكرت الطبلة بعدما كانت العصا لوحدها، واستعان “المسحراتي” بالطبل يدق عليه أناشيده وأهازيجه خلال تجواله في الأحياء، واستعان بأشخاص يرافقونه بحمل “الصاجات” كما هو الحال في مصر، مع ترداد أغاني خفيفة ينادون بها كل ليلة رمضانية. أما في الشام فإن “المسحراتي” يعزف على العيدان والصغافير. وفي عمان يوقظ “المسحراتي” الصائمين بالطبلة أو الناقوس. وفي السعودية يقول: ربي قدرنا على الصيام واحفظ إيماننا بين القوم. وفي المغرب يدق الباب بعصاه ليوقظ النائمين. تقاسم الأحياء والزواريب في لبنان، يتقاسم “المسحراتيون” الشوارع خشية المنافسة والمزاحمة، فنرى مجموعة هنا في هذا الشارع، وتكون مؤلفة من أبنائه، ومجموعة أخرى هناك في الشارع المقبل مكونة من أبناء الحي نفسه، وما يسلي هو التقاء فرقتين من “المسحراتيين” في أحد الشوارع الجامعة بينهم، فتندلع شرارات المنافسة، فيشحذون قريحتهم لاستخراج العبارات الجميلة، وكل ذلك في سبيل الفوز بقلوب الصائمين وأموالهم، لكن هذه الصورة قد تنقلب إلى ما هو أسوأ، حيث تقع مرات مشاحنات ومضاربات بينهم، تتسبب ببعض الإصابات المؤسفة. وأيضاً في لبنان، درجت العادة في دعوة الناس الى السحور، أن تمر سيارة تضع على سقفها مكبرات الصوت، وتصدح منها الأناشيد الدينية والابتهالات الإسلامية، وكأن فرقة بكاملها تعبر الطريق على مهل، وتتوقف في محطات مؤقتة، ثم تكمل سيرها حتى تنتهي من مهمتها من المنطقة المكلفة بها، وغالباً ما يكون لكل حي “طبال” من أبنائه كما ذكرنا، يؤدي مهنته في مقابل “اكراميات” او “عيديات” يحصل عليها آخر أيام الشهر الفضيل أو صبحية عيد الفطر، وكانت “الطرفة” جزءاً لا يتجزأ من شخصية “المسحراتي”، اذ لا يكتفي أن يسير مع فانوسه منادياً: “قوموا على سحوركم”، او ينادي على كل شخص باسمه ليمنح مهمته مزيداً من الألفة، وأنما كان يقرن دعوته للقيام الى السحور بعبارات طريفة وفق معطيات خاصة بأهل الحي، وأحياناً يعرف أن فلاناً نومه ثقيل، فيقف تحت نافذته وقتاً أطول، ويصر على مناداته باسمه، مع إضافة لقب يستفزه حتى ينهض هذا “الفلان”.. حفظ القصائد ويذكر أحد قدامى أصحاب هذه المهنة، أن “المسحراتي” كان في الماضي قريباً أكثر من الناس، يعرف من رزق ولداً فيخصصه بنشيد يبتهل فيه إلى الله حفظه، ويترحم على الموتى الذين فقدهم كل بيت في العام السابق، ويبرع في حفظ القصائد لانه يعتبر مهنته فناً يجب احترامه. يمر “المسحراتي” على كل منزل في كل ليلة من ليالي رمضان المبارك، ينادي على أصحابها وأسماء أبنائهم، ومن في المنزل من جميع الذكور، والبعض يغضب و”يحرد” حين لا يناديه “المسحراتي” باسمه. واهازيجه تتوالى مثل: أنا مسحراتي وانا جيت البسوا ثياب الجديد واتطيبوا بأحسن طيب، هذا شهر الله ودعوه يا الله افتحوا لي الباب حتى تجيكم الاحباب، قوموا اعملوا له زاد، الله يخلي الاولاد ويعمر بهم البلاد.. المسحراتي فتاة! “المسحراتي” لا يزال موجوداً في القرية.. والمدينة، ووظيفته الأساسية ما زالت حتى الآن، هي الإمساك بالطبلة والطرق عليها بالعصا، والنداء على كل سكان الحي كل باسمه، داعياً إياهم للاستيقاظ قبل حلول موعد الإمساك. وفي وقت تشهد فيه هذه المهنة انخفاضاً في عدد “المسحراتيين”، حيث أن معظم الدول العربية والاسلامية تعتمد على رجل واحد يقوم بهذه المهمة، الا أنه في “الكاميرون” تستخدم جماعة تتراوح عددها بين 10 و15 فرداً لايقاظ الصائمين المسـلمين. أما في تركيا فان الفتيات أصبحن يشاركن في هذه المهمة منذ أكثر من ثلاث سنوات، فلأول مرة في تاريخ البلاد، قامت إحدى البلديات بتدريب خمس فتيات على عمل “المسحراتي”، من أجل معرفة كيفية دعوة الصائمين الى السحور، مع ترديد أحكام وأشعار موجودة ومقتبسة من الأدب التركي. تحصيل إكرامية العيد ما أن ينقضي هذا الشهر الفضيل، ويطل عيد الفطر المبارك، حتى نرى “المسحراتي” في وضح النهار يطل على السكان بعباءاته وطبله وعصاه، من أجل تحصيل إكرامية العيد بعد عناء شهر كامل، إنما بمتعة لا مثيل لها، وهذه “الطلة” تكون الأخيرة بانتظار رمضان المقبل، فيسكن الشوق في قلوب المؤمنين الصائمين على أمل اللقاء مع “المسحراتي” وشهر الخير والبركة القادم.
المصدر: بيروت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©