يتساءل جيل دولوز عن طبيعة الخبر Information والمعلومة التي ينقلها؟ فيجيب: «الخبر هو مجموع كلمات- أوامر. عندما نخبرك ونطلعك على معلومات، نقول لك ما يتوجب عليك اعتقاده. بعبارة أخرى فالإخبار هو بثّ أوامر. وليس من قبيل الصدفة أن تُدعى تصريحات الشرطة بلاغات وبثاً لمعلومات. نتوصل بالأخبار والمعلومات. يُقال لنا ما ينبغي علينا اعتقاده وكيف نتهيأ لذلك ونكون مستعدين له. بل إن الأمر لا يتعلق بالاعتقاد، وإنما، بالتشبّه به، والعمل كما لَوْ. لا يُطلب منا أن نعتقد، وإنما أن نتصرّف كما لَوْ كنّا نعتقد».
ليس بعيداً عن هذا ما كان رولان بارث كتبه تمهيداً لكتابه «ميثولوجيات» فلاحظ أن الأخبار تغرق في اليومي وتتآلف معه وتجعل منه أمراً طبيعياً «فتتناسى أن اليومي ينتمي إلى التاريخ». الأخبار «تخلط بين الطبيعة والتاريخ». لذا فقد حاول هو إعمال الفكر«في بعض أساطير الحياة اليومية»، والبحث عما «ليس يومياً في الحياة اليومية»، ووضْع اليد، فيما وراء ما يبدو طبيعياً، على التاريخي الذي يعتمل خلفه.
إنه إذاً بحث عن التاريخ في ما يعْلق بالأسطورة، أي، تحديداً، في ما يحاول الانفلات من الزمن التاريخي. إنه البحث عن الزمني في ما ينحو نحو السّرمدي.
فعندما ينصبّ التفكير على اليوميّ، وعندما يهتم بالصحافة والملبس والرياضة والمأكل والمشرب والإشاعة والإشهار والكليب و..، عندما يتحول إلى سيميولوجيا للحياة اليومية، فذلك سعياً وراء الفصل بين «الطبيعة والتاريخ»، وبحثاً عن الجديد في المستجدات، وعن الغرابة في الألفة، وعن التاريخيّ في الميثولوجي.
قد يقال إن هذه هي مهمة رجل الصحافة، أو رجل السياسة، أو بالأوْلى مهمة النقد الأيديلوجي. يلاحظ صاحب أسطوريات أن هناك أشكالاً ثقافية «تخترق» حياتنا اليومية من دون أن تثير الاهتمام المباشر لا للسياسة ولا حتى للأيديولوجية. لذا فهي تعيش في مأمن من نضال السياسي وفي حمى من نقد الأيديولوجي. وعلى رغم «تفاهة» هذه الأشكال، فإنها تشكل مجتمعة ما يدعوه «الفلسفة العمومية» التي تغذي طقوسنا وشعائرنا اليومية، و«تحدّد» لباسنا وحلاقة شعرنا وتنظيم مطبخنا وحفلاتنا، وتدبير شؤوننا اليومية بما فيها من قراءة للصحف وارتياد للمسارح ودور السينما وحديث عن أحوال الطقس وأخبار الإجرام والرياضة.
الشعبية والعالمة
لا يتعلق الأمر مطلقاً بما يسمى «ثقافة شعبية» في مقابل الثقافة «العالمة»، كما أنّ الأمر لا ينحلّ إلى التقابل بين «الوضيع» و«الراقي» بالمعنى الأكسيلوجي للكلمتين. إلا أن المهم أنه لا يتعلق فقط بنقد للأخلاق بمعزل عن السياسة والأيديولوجيا.
هذا النقد شبيه بما كان يمارسه، في فرنسا على الخصوص، ما سُمّي بـ «الطليعة». بل لعله هو ما يحدّد الطليعة L’avant- gardeبما هي كذلك. فالطليعة ليست طبقة اجتماعية ولا حتى فئة متميزة. إنها حركات وتمردات محدودة في مدة امتدادها وقوة نفَسها. فهي تصدر عن جزء من البورجوازية، عن أقلية من الفنانين والمثقفين، إلا أنها إذ تعارض البورجوازية كأخلاق وتصرفات، فإنها لا تعارضها كسياسة. هذا ما يجمله بارث في عبارة وجيزة، إذ يقول «إن ما كان يعيبه رجل الطليعة على البورجوازي هو لغتَه وليس مكانتَه ومنزلتَه». لا يعني هذا، بطبيعة الحال أنه يُقرّه في صنيعه، وإنما يعلّق حكمه على السياسة، وينأى بنفسه عن النقد الأيديولوجي المكرور.
لكن، بين هذا وتلك، تصان تلك الأشكال الثقافية «التافهة»، وتغدو طبيعة ثانية فتترسخ في الأذهان والأعيان، وتسكن السلوكات اليومية والتصرّفات «العادية».
ها هنا تبرز مهمة نقد «مغاير» لا يقتصر على الثقافة كإبداع وأشكال «سامية»، وإنما يتصيّدها في أتفه تجلياتها، ويضبطها، وهي تعمل قبل أن تصوغ نفسها في مفاهيم مجردة وأشكال «رفيعة».
كان ظهور كتاب ميثولوجيات لرولان بارث عند نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وهو كتاب يضمّ نصوصاً كانت قد نُشرت على صفحات جريدة يومية، كان هذا الظهور إعلاناً رسمياً لهذا النوع من المباحث. قلت إعلاناً رسمياً، إن صحَّ أن نتكلم عن الرّسمي في هذا السياق، وربما كان الأصح أن نتكلم هنا عن تتويج. فنحن لا ينبغي أن نُغفل أوجه الشبه الكثيرة بين هذا النوع من الاهتمام وذاك الذي نجده عند أصحاب التحليل النفسي ابتداء من المؤسّس، وخصوصا في كتابه «علم النفس المرضي للحياة اليومية»، إلى دانيال سيبوني في كتاباته حول اليومي. كما أننا قد نجد شيئاً من هذا عند الماركسي هنري لوفيفر في «نقده للحياة اليومية»(الذي ظهر جزؤه الأول كما نعلم سنة1947) وكذا في «نقده لليومي»، كما نعثر عليه عند فالتر بنيامين في Sens Unique «ممر وحيد الاتجاه»، وميشيل دوسيرتو في «ابتداع اليومي»، وأمبرتو إيكو في «حرب الزّيف»، أو عند الفيلسوف المعاصر تشيتجاك، بل حتى عند جماعة من الكتاب الفرنسيين كانت قد نشرت كتاباً اعتبرته امتدادا لكتابات بارث وعنونته «نحو ميثولوجيات جديدة».
ولا يخفى هنا ما كان لانتشار وسائط الاتصال الجديدة وسيادة ثقافة الصورة في عصرنا من أثر بالغ على تشجيع هذا النوع من المباحث، والإحساس بضرورة تعقب آثار التطورات التقنية على يوميّنا.
منظومات دالة
لكل هذه الأسباب، أخذنا نلمس عند امتدادات كل هؤلاء الذين أتينا على ذكرهم، اتجاها نحو نقد لا يقتصر على المعاني كأشكال «سامية»، وإنما يتصيّدها في «أتفه» تجلياتها، ويضبطها وهي تتولد وتعمل في معمعة اليومي، قبل أن تتبلور في المفهومات المغرقة في التجريد.
وهكذا ستتخذ موضوعات مثل آليات الإشهار ومباريات الرياضة وخطاب الموضة ودليل السياحة وبرامج التلفزيون وعلامات السيارات ولعب الأطفال ومواد الغسيل ومختلف وسائط الاتصال... كل هذه الموضوعات ستتخذ أهمية بالغة، وسينظر إليها من حيث هي «منظومات دالة» يجري عليها، كما يرى صاحب «ميثولوجيات»، ما يجري على أية علامة من كونها اعتباطية، وكون معناها يتولد عن اللامعنى، وكونها لا تستقي المعاني إلا من خلال المنظومات التي تدخل فيها، والاختلافات التي تشدّها إلى غيرها.
لا ينبغي أن ينقلنا عنوان كتاب بارث إلى الأسْطَرة بمعناها التقليدي، فليست الأسطورة هنا «حكايات الخوارق»، وهي لا تتحدّد بموضوعها وإنما بطريقة تناولها لذلك الموضوع. إنها منظومات تَواصل تُضمر تمثلات ذهنية جماعية. وما تسعى السيميولوجيا إلى أن تكشفه هو ما تنطوي عليه هذه المنظومات الدّالة وهي ترمي إلى أن تجعل من ثقافة طبقة بعينها طبيعةً كونية. ذلك أن الأسْطرة هنا هي تلك الآلية التي تسعى إلى أن «تحوّل ثقافة طبقة بعينها إلى طبيعة كونية».
تُحرّف الأسطورة التاريخ كي تتمكن من إلغائه، وهي تتغذى على «الثقافة» كي تدَّعي «الطبيعة». وهكذا تغدو مرتعا لعمل الأيديولوجيا، تلك الأيديولوجيا التي، وإن كانت ثقافة بطبيعة تحديدها، فهي لن تتمكن من الخلود إلا بتقمّص لباس «الطبيعي». على هذا النّحو يغدو فضح الأسطورة تعرية للتاريخ/الثقافة من وراء سعيهما إلى أن يبدوا «طبيعة».
تسعى متابعة اليومي إلى الكشف عن آليات توليد المعاني، تلك المعاني «التي تتولد من اللامعنى»، والتي تدخل في منظومات يكون على الدّارس الكشف عن قوانينها، وتندرج في بنيات يكون عليه «إبراز قواعد لعبتها». نقطة الانطلاق الأساس هنا هي نفي المعنى الأولي dénotation، أو، على الأقل اعتباره مفعولا للمعاني الثانوية Connotations. كتب بارث: «ليس المعنى الأوّلي إلا أسطورة علمية، تلك التي تقول بوجود حالة «حقيقية» للغة، كما لو أن كل جملة لا بدّ وأن تتضمن أصلا اشتقاقيا هو حقيقتها».
الثورة السيميولوجية
نعتقد أن بإمكاننا أن نردّ أصول هذه «الثورة السيميولوجية» إلى نظرية الاشتقاق اللغوي عند نيتشه. ذلك أن معنى الاهتمام باللغة عند صاحب الجنيالوجيا هو نفي الإحالة، نفي الواقع الخام. فالقول بالواقع الخام هو إنكار للكثافة التأويلية، وهو قول بحضور المعنى، ونفي لخبث العلامات والدلائل. إن الدال عندما يحيل لا يردّ إلى واقعة وإنما إلى دال آخر. في هذا المعنى يقول نيتشه: «إن ما يهمنا هو معرفة الكيفية التي تُسمى بها الأشياء لا معرفة ماهيتها. فما يشتهر به شيء ما، أكان اسمه أو مظهره أو قيمته أو قياسه أو وزنه، كل هذه الأمور التي تنضاف إلى الشيء بمحض الصدفة والخطأ، يشجعنا على ذلك تناقلها من جيل لآخر، تصبح بالتدريج لحمة الشيء، ويتحول ما كان مظهرا في البداية إلى جوهر ثم يأخذ في العمل كماهية».
ما تعمل عليه الحياة اليومية وما تكرّسه «الفلسفة العمومية» هو أسْطرة هذه المعاني وجرّها نحو الثبات والإطلاق كي تنسى اعتباطيتها وتزعم الضّرورة والكلية، وسرعان ما تسكن السّلوكات اليومية والتصرّفات «العادية»، فتسعى نحو الترسّخ والمحافظة والتّقليد. ومهمّة «سيميولوجيا الحياة اليومية» هي التصدّي لهذه «الأسْطرة»، وفضح لعبة توليد المعاني وسعيها نحو الترسّخ انفصالاً عن الدوكسا ووقوفاً «ضد الراهن» واستعادة للزمن.
يرد البعض، الذين على الرغم من أنهم قد يقرون بهذا النوع من المباحث، بأنها لا يمكن أن ترقى إلى مستوى النقد الفلسفي؟ فرغم ما تتسم به هذه المتابعة لليومي في أحيان كثيرة من طرافة، ورغم ما قد تتخذه من أهمية، إلا أنها لا ترقى في النهاية إلى جدّية النقد الفلسفي الذي يعتمد مناهج صارمة، ويوظف مفهومات مصقولة، ويرتوي من تاريخ عريق طالما غذَّاه اختلاف الفلاسفة وتنوّع مشاربهم؟
قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال-الاعتراض الذي لا يخلو من وجاهة، ينبغي أن نشير أن نهايات الأربيعينيات كانت قد شهدت في فرنسا على الخصوص نوعاً من اليأس من تاريخ الفلسفة لعل جيل دولوز أحسنُ من عبّر عنه عندما كتب:«في فترة تحرير باريس، ظللنا سجيني تاريخ الفلسفة. كنا نكتفي باقتحام هيجل وهوسرل وهايدغر. كنا، ككلاب صغيرة، نتهافت وراء نزعة سكولائية أدهى من تلك التي عرفتها القرون الوسطى».
هذه الإشارة إلى دوغمائية القرون الوسطى، وإلى تحويل الفكر إلى تبحر في المعارف، هي ربما التي كانت وراء اليأس من «جدّية الفلسفة»، أو، على الأقل، من سجن تاريخ الفلسفة، والخروج منه بحثا عن لغة أخرى، وطرْقا لموضوعات أخرى، على منابر أخرى.
وعلى رغم ذلك، فإن طبيعة الموضوعات التي يعرض لها هذا النوع من الكتابات الأخرى لم تجعله يكتفي بأن يبرز الدلالات الثاوية خلف تصرفاتنا العادية، وكيف تتحول ثقافة بعينها إلى طبيعة ف«تتأسطر» المعاني، وإنما ظلّ متمسكا بطرْق قضايا الفلسفة الشائكة من خلال متابعته لليومي، ولكن دونما«جدّية الفلاسفة»، ومن غير حاجة إلى اقتحام«تاريخ الفلسفة»، واستعراض تأويلاته، والضياع بين نصوصه، والغرق في بحر المفهومات المجردة والمصطلحات التقنية.