3 نوفمبر 2010 21:24
لا يزال ينتظر أن ينفرج قلب الغيوم عن أمل، إنها الرابعة، بعد منتصف الليل، والطريق خال وقد خرج يطلب شيئا من النسيم والعزاء، تعب، حياته غدت لا تطاق، إنه يوشك أن يموت مختنقا، والديون تتراكم، وقال لها:
ـ أحبك ولكن ما تطلبين فوق طاقتي..
فردت منزعجة:
ـ لا يغلى على من نحب أي شيء..
فضحك وقال:
ـ ولكن كلامك يدل على أني أرخص مما تطلبين..
فتركته، إنها مركبة بآلية لا تمنحه أي عذر، هو دائما متهم، وهي دائما ضحية، وهذا الليل المنار بالمصابيح الصفراء خاو رغم امتلاء الفضاء بالنور، هذه المرة تركها تهجره إلى أهلها دون حزن أو أسف، وتلاشت ذكرى حبها دون أن تدري من قلبه، وإلى الأبد، وهو لا يزال غير واثق مما حدث، فجأة رآها.. رأى ملامحها أقرب إلى القردة منها إلى البشر، واقشعر خوفا، وصمت دهشة وتلاشى من خاطره وقع الزمان والمكان فلم يمنعها من الرحيل، كعادتها، إلى أهلها، كلما رفض لها طلبا صعبا..
...وكانت تزداد قبحا أمام ناظريه الشاخصين لدرجة أحالت تلك اللحظات القصيرة من رحيلها المذهل، من بيته، إلى كابوس ثقيل استغرق ألف سنة أو أكثر، وزفر أخيرا، فلتذهب دون رجعة، إلى غابتها، ها هو يقترب من مسكنه الشعبي، القاطن في طرف الحي الأيسر القصي، السماء لا تبشر بالمطر رغم كثافة الغيوم، وهو لا يزال غارقا في الديون، ودغدغته سخرية ماجنة، ياله من أحمق، لماذا تزوجها؟، وقد بذل من أجل رضاها ما لا يستهان به من المال، والكرامة، وهو يشفق على نفسه، لأول مرة في حياته، يدرك، بأنه خدع، بما كانت تردده أمه ومن قبلها جدته:
ـ الرجل في بيته حكومة، أنت يا ولدي كل شيء..
أجل هو تيس.. وأمه، لم تبصره بحقائق الحياة، لا يدري كيف خدعنه، وأوحين له بأنه مخلوق فريد لا يأتيه الباطل..
حسنا، هاهو يجتاز ساحة بيته والظلام مطبق، فليعد ويتأمل ذاته بصدق، إنه كالآخرين، يخاف الظلام المطبق، وهو لذلك يفتح الباب بيد مرتجفة والظلام هنا أعمق منه في الخارج، وأشعل الأنوار.. ماتت أمه، ومن قبلها جدته، ولكن كثيرا من الناس مات أهلهم أيضا فلماذا هو المسكين بالذات؟..
...ربما لأنه لا يطيق الظلام، ولا رنين الهاتف، ولا العطش وصوتها الباكي المنبعث عبر الأسلاك، ورد:
ـ ألو
ـ أيها الخائن...
وكاد يصرخ فيها متذمرا لأول مرة مذ تزوجا، فهي التي تركته، تجادله الآن، بقسوة، لأنه أهملها، ولم يتصل، كان مرتاعا طوال النهار، وجهها المشوه الممسوخ يفقده وعيه ورشاده كلما تذكر و.. وسد السماعة في وجهها رغما عنه، فعلت صيحات الرنين المرعب من جديد في قلب المكان، وأخذت الجدران تعلو وتعلو من حوله وتتعرى من زيفها، والسوس يسخر منه ويلعق الرمال والحصى، وتشوش كل شيء فهرع باحثا عن الحمام، فليغسل وجهه بقطرات من الماء البارد، والباب، أين الباب؟.. وراح يدور بين الحيطان العارية المشوهة والمصمتة تائها غائبا عن الإدراك فاقدا القدرة على بلوغ الماء، والنجاة، والعطش يملؤه بحنق حاد، وروحه تجف، آه.. ما أشد العطش.. لا يجد لسانه، ولا صوته:
ـ قطرة ماء.. قطرة..
المصابيح العالية في السقف البعيد تزداد وهجا والرنين يعلو والحرارة تفقده روحه والماء.. لا أثر للماء، ويسقط مغشيا عليه..
يفيق على الرنين ولكنه ينسى أن يرد، لا يزال الفضاء من حوله مشوشا، يحاول جاهدا أن يستوعب ما حوله، ويتحرك مشوشا تائها والرنين يلح، لكنه لا يرد، ويبحث عن روحه، يخرج باحثا عن الماء.