3 نوفمبر 2010 21:16
يستخدم الباحثون مفاتيح العلوم ومُصطلحاتها للتوصل إلى منطق العلم، ويتوغلون في مساربه، كونها تشكل بحقّ مفاصل أي نظرية، بل جوهر ولبّ اللغة، ولهذا نرى اتساع دائرة الحقول المعرفية والعلمية المهتمة بها؛ محاولة ضبطها وتحديد وظائفها، ومعرفة مرجعياتها المختلفة، ولعلّ من بين المصطلحات التي تداولها الدارسون، مصطلح خطاب “Discours” الذي أولاهُ أسلافنا عناية ودراسة، انطلاقاً من مرجعياتهم الفكرية والعَقدية، ذلك أن هذا المصطلح، كان وثيق الصلة بحقل “أصول الفقه” على غرار مصطلح النص Texte.
خمسة فصول
يأتي كتاب المجلة العربية السعودية “أثر المرجعية الفكرية في تحليل الخطاب اللغوي” لمؤلفه الجزائري فاتح زيوان، وقدم له الناقد المعروف سعيد يقطين. وقد وزع المؤلف كتابه إلى إضاءة وخمسة فصول. وأشار في “إضاءة” بأن دراسته تسعى إلى تحديد وإبراز الخلفيات الفكرية لدى علمائنا العرب القدامى في تحليلهم للخطاب، من خلال كتبهم ورسائلهم. بعدها تناول في الفصل الأول لـ”مرجعية تحليل الخطاب” وهي المرجعية الأصول الفكرية والمعرفية لنظرية الخطاب، حين اعتز العرب بمذاهبهم أيما اعتزاز، وراحوا يدعون إليها بشتى السبل، عاكسين فكرهم في تحليلاتهم اللغوية للخطاب بخاصة الذي يفرض وجود مخاطِب ومخاطَب وخطاب، وبينهما أداة نقل وإعلام هي اللغة أو نظام الإشارات، وهي ظواهر اصطلحوا عليها باسم “ظواهر التخاطب” لأن اللغة وجدت للتعبير عن أغراض المتكلمين، وتبليغ مقاصدهم للمخاطَب.
كما يرى المؤلف حين يرحل صوب الجذور اللغوية والمعرفية والمذهبية التي أسهمت بقسط وافر في بلورة عملية التخاطب لدى علماء العرب والمسلمين بعامة، ذلك أن الانتماء الفكري والسياسي من شأنه أن يؤثر في التوجيه العلمي لدى من يتبنونه، حتى انعكس هذا التعدد والتنوع المعرفي في كتاباتهم ودراساتهم، فضمته مُصنفاتهم الكبيرة التي بقيت محفوظة إلى يومنا هذا.
السماع والقياس والعلّة
كما أفرد زيوان الفصل الثاني للحديث عن “أثر السماع والقياس والعلّة في تأسيس المدرسة البصرية”، ويقصد بالمدرسة البصرية مدرسة البصرة النحوية، الذي يعد الخليل لابن أحمد الفراهيدي صاحب معجم العين في مقدمة من نال الريادة في علم النحو فيها، حيث جعل “الفتحة من الألف والكسرة من الياء والضمة من الواو”، معتمداً في تخريجاته النحوية المصدر الأساس الأول، وهو القرآن الكريم الذي غدا منطلق كل المجهودات الفكرية والعَقديّة للمسلمين، وقطب الرَحَى الذي تدور حوله مختلف العلوم والدراسات، باعتباره المادة الخام التي احتوت شتى علوم المعرفة، من فقه، ولغة، ودين، وطب، وغيرها... وأشار إلى أن تلك العلوم ظلت من الحاجات والضروريات التي نهل منها المفسر والبلاغي والفقيه والمتكلم، وانتقلت تلك المصطلحات من حقل إلى آخر، وكان من جُملتها مصطلحا “القياس والسماع”، اللذان ينتميان إلى حقول أصول الفقه، ويضاف إليهما “العلّة التي يتم من خلالها إعطاء تأويل وتفسير لتلك التخريجات في كلام العرب، وهي كما نعلم من اصطلاحات الفلاسفة”.
تحليل الخطاب
بعد ذلك عرض المؤلف في الفصل الثالث من كتاب المجلة العربية حول “تأثير المذاهب في تحليل الخطاب”إذ يرى بأن هذه العلاقة بين البحث اللغوي/ النحوي والبحث الفقهي، نابعة من بحث علماء الأصول في دلالة النصّ، وبالأحرى الاهتمام بالكتاب/ القرآن الكريم، باعتباره المصدر ألأول في التشريع الديني وأبلغ خطاب في علوم العربية. واستشهد في هذا الفصل بشواهد عن اللغويين كالفرّاء والإمام الشافعي، الذي حاكى أسلوب القرآن الكريم في الخطاب، باعتماد الإيجاز طريقاً في إيصال المعنى للمخاطَب، بحجة أنّ “أقلّ البيان عندها كافٍ من أكثره، إنما يريد السامع فهمَ قول القائل، فأقلّ ما يفهمُه به كافٍ عنده”. وذكر بأن الأديب البصري الجاحِظ قد فصل القول في اللفظ والمعنى التي استأثرت عند المعتزلة، وأوعز المزية والجَمال في الخطاب إلى مقدرة صاحبه على “حُسن اختيار الألفاظ، وحلاوة مخَارج الكلام”؛ بمعنى تمكنه من إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، مُجتنباً السوقي والوَحشي منه، أو الوعر والغريب، مفضلاً: التوسط مجانبة للوعُرة وخروجٌ من سبيل لا يحاسب نفسَه.
أما ابن قتيبة فقد حذا حذو علماء التفسير في تحليله للخطاب، مستعيناً بما ورد عن العرب، نحو دعوتها لاختصار الخطاب، وحذفها حروفاً من اللفظة؛ قصد الإجاز أو الاقتصاد اللغوي فقال: “والعرب كذلك يفعلون، ويحذفون من اللفظة والكلمة، نحو قولهم: لم أُبْلْ “وهم يريدون لم أُبَالِ”، ويختزلون من الكلام ما لا يتمُ الكلام على الحقيقة إلاّ به، استخفافاً وإيجازاً، إذا عَرف المخاطَب ما يعنون به، نحو قول” ذي الرمّة” في وصف معاناة الحُمر الوحشية كما كانت معاناة الثور الوحشي في الليل الأسود المُظلم:
فلمّا لًبسِنَ الليل أو حين نَصّبَت
لهُ مِن خذَا لآذانها وهو جانِحُ
أراد الشاعر أو حين أقبل الليل نصبتْ آذانها...
التأثير الفلسفي
أما رابع فصول الكتاب فهو “التأثير الفلسفي وبناء النظام اللغوي”، الذي يرى فيه صاحبه بأن العالم اللغوي المُبرِّد قد ركن في دراسته للخطاب من خلال تطرقه لمصطلح الجملة الذي يعود له الفضل في وضعه، مستنداً في تفسيراته لعملية التخاطب على ما سننتهُ العرب في كلامها، وبخاصة ما دعت إليه مدرسة البصرة النحوية وهو احد أقطابها والمقتفين لسُننها وأصولها، فقد رأى أن اللفظة لها معنى في ذاتها من خلال صيغتها التي تجيىء عليها، نحو قولك: “كَتَبَ” فهو فعل ماض، أدّت حدثاً في الماضي، أو أنّها تؤدي دوراً أو وظيفة نحوية في الجملة، من مثل قولك: “نجَحَ الطالبُ في الامتحان”. فلفظة الطالب أدّت وظيفة الفاعل في الجملة، جاء هذا في قوله: “وإنما كان الفاعل رفعاً لأنه هو الفاعل... والمفعول به إذا ذكرت من فعل به، وذلك لأنه تعدى إليه فعل الفاعل، وإنما كان الفاعل رفعاً والمفعول به نصباً، ليُعرف الفاعل من المفعول به”. كذلك أوضح بأن الفارابي كغيره من العلماء قد أشار إلى أن اللغة، تنشأ بالمواضعة والاتفاق بين الناس، حيث لا يمكن أن يتمّ التوصل بين المتخاطبين إلاّ بعد أن تكون لغة التواصل بينهما مشتركة، يفهمها كل طرف منهما، كقوله: “ويلزم أن يكون ذلك اللفظ مفهوم المعنى يتواطأ عليه القائل والسامع جميعاً قبل هذه المخاطبة”.
وإثر ذلك تناول المؤلف بالاستشهاد لنماذج من المذهب الاعتزالي في التوجيه اللغوي من خلال رؤيتهم النحوية، ثم لمرجعية اللغوي ابن جنِّي التي أسهمت بدور كبير في توجيهه اللغوي وصقل مواهبه، لبناء خطاب متناسق، مُؤسس على اصطلاحات كلامية، تبعه الحديث عن مرجعية اللغوي ابن فارس الدينية والذي حدد ضروب الخطاب المختلفة، مخصصاً لكل منها باباً في كتابه الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب، وأما أبو هلال العسكري فقد أرسى مرجعيته على لبنة أساسية، تمثلت في القصد الذي بفضله تقع الدلالة، والتي تتحدد من طريق: “ما يمكن أن يُستدل به قصد فاعله ذلك أم لم يقصد”، وسواهم من العلماء الآخرين الذي مثل لهم المؤلف.
تأصيل الدراسات اللغوية
أما مسك ختام الكتاب فهو “بزوغ الجرجاني وتأصيل الدراسات اللغوية” الفصل الخامس، حيث أنّ عبدالقاهر الجرجاني قد ركز في دراسته للخطاب على القرآن الكريم بوصفه المصدر الأول للتشريع الديني، ومنبع اللغة العربية الأصيل، إذ انصبت دراسته حول هذه المدونة، ليجلو أهم الخصوصيات الفنية والجَمالية التي جعلت منه كتاباً مُعجزاً، فكان الجرجاني إفرازاً لذلك التيار الذي أولى كتاب الله المُعجز عناية خاصة، بوصفه أسلوباً متيناً لا يضاهيه أسلوب آخر، مُفعم بالأشياء الجمالية المتينة، وقد بدت جهوده ماثلة في كتابيه: “أسرار البلاغة في علم البيان”، و”دلائل الإعجاز في علم المعاني”، واهتمامه بالتأويل قد أوصله إلى تقرير نقطة في غاية الأهمية، وهي أن هناك طريقين لحصول المعنى، طريق الحقيقة، وطريق المجاز، مفرِّقاً بين المعنى ومعنى المعنى.
كما قدّم المؤلف في هذا الفصل لعدة أفكار لسانية للجرجاني منها: دعوته للنظر والتأويل برؤية وعقل في كشف معاني الخطاب، بحيث لا يقع صاحبه في تعرض مع القرآن الكريم. كما اعتنى بنظم الخطاب لا بالكلم مفردة، حين أولى اهتماماً خاصاً بنظم الخطاب وكيفية تأليفه، مراعياً فيه معاني النحو، كما اعتبر الألفاظ أوعية للمعاني، واعتنى أيضاً بتركيب الخطاب وتحكيم العقل في الوصول إلى مغزاه، وإنّ عنايته بتذوق النصّ القرآني، قاده على رسم مظهر الإعجاز في الجانب النفسي المؤثر في المخاطَب الذي يغوص في خباياه وأسراره.