4 أغسطس 2011 22:48
مفتي المدينة النبوية في عهد التابعين في القرن الثاني للهجرة، ربيعة بن أبي عبد الرحمن المشهور بربيعة الرأي، لدقة رأيه وشدة فحصه وسداد نظره إذ كان يستنبط من القرآن والسنة فقهاً وعلماً سبق به غيره وبرز فيه على أقرانه.
ولقد كان ربيعة من أهل الدأب في العلم والإخلاص له والعمل به فقد روى عن بعض الصحابة وكبار التابعين وجدّ في ذلك، حتى جلس إليه وجوه الناس في العلم وكبار علماء المدينة النبوية، وكان محل إجلال وتقدير وصاحب ورع وفضل، فقد مكث مدة يتعلم، ويتعبد ثم جالس العلماء فكان ينطق بكل عقل ووعي، ومن أقواله النيرة (العلم وسيلة إلى كل فضيلة)، ومن بعد نظره وإخلاصه ما ذكره تلميذه سفيان بن عيينة قال بكى ربيعة يوما فقيل له: ما يبكيك؟ قال: رياء حاضر وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كصبيان في حجور أمهاتهم، إن أمروهم أئتمروا، وإن نهوهم انتهوا، ودلالة هذا القول: ما أحوج الذي يتصدر من أهل العلم لتعليم الناس أن يعرف ماذا يعلمهم وإلى أين يأخذهم، ولهذا كان كريماً فوق طاقته ومن أسخا الناس بما في يده لطالب أو صديق أو سائل، وكان من يريد أن يسافر معه يشترط عليه ربيعة أن لا يأخذ معه زاداً بل هو الذي ينفق عليه في سفره، لقد كان وراءه أم تحسن التربية، وتوجهه الوجهة الصحيحة في العلم والأخلاق، ومن طريف ما يروى، عن تربيته ومكانته أن فروخ والد ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازياً وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عندها ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وفي يده رمح وهو راكب على فرس، فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه فخرج ربيعة قال: يا عدو الله تهجم على بيتي؟ قال: لا، وقال فروخ: يا عدو الله أنت رجل دخلت على حرمتي، فتواثبا وتعاركا واجتمع الناس عليهما، وأقبل مالك بن انس ومعه بعض طلاب العلم ليروا ما حل بمعلمهم ربيعة، فلما رأى الناس مالكاً سكتوا فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال: هي داري وأنا فروخ مولى بني فلان فسمعت امرأته كلامه فخرجت فقالت: هذا زوجي وهذا ابنك الذي خلفته وأنا حامل به فاعتنقا جميعاً وبكيا، فدخل فروخ المنزل ثم قال لزوجته أخرجي المال الذي عندك وهذه أربعة آلاف أخرى فقالت: المال دفنته وسأخرجه بعد أيام.
فخرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقة الكبار أمثال مالك بن أنس وأشراف أهل المدينة، فقالت المرأة لزوجها أخرج صلِّ في المسجد النبوي فخرج فصلَى ثم نظر إلى حلقة كبيرة فأتاها فوقف عليها ثم أفسحوا له قليلاً فجلس ونكس ربيعة رأسه ليوهمه لم يره وعلى ربيعة لباس العلماء فشك فيه فسأل الناس من هذا، فقالوا: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن فطار قلبه من الفرح، وقال: لقد رفع الله ابني ثم أسرع إلى منزله، فقال لامرأته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها فقالت أمه: أيهما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه من الجاه والعلم؟ فقال: لا والله هذا. فقالت: إني أنفقت المال عليه، فقال لها والله ما ضيعته.
وليس بغريب مثل هذا عن قوم أحبوا العلم وتفانوا لقد كان ربيعة إماماً لعلماء المدينة وغيرهم وصاحب المسائل العويصة والمعضلات التي يجدون حلها عنده ومن المجتهدين الكبار قال مالك بن أنس: اعتممت وما في وجهي شعرة ولقد رأيت في مجلس ربيعة بضعة وثلاثين معتماً، والعمامة لباس كبار العلماء.
رحم الله ربيعة فقد ترك مآثر جليلة للعلم والعلماء والفقه والفقهاء مما دعا مالك بن أنس يقول: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة أبي عبد الرحمن وبمثله فليقتد أهل العلم وطلابه.