26 يوليو 2012
لماذ نتذكر توفيق الحكيم الآن رغم مرور أكثر من 25 عاما على غيابه (رحل في 27 يوليو 1987)؟ نتذكره لأنه في الواقع كاتب من طراز خاص، وله وزنه ووجهة نظر ورؤية مهمة في عالم المسرح والفنون والآداب، ولأنه في المجمل العام وكما يقول الناقد الدكتور علي الرّاعي عنه “إنه صاحب مدرسة مسرحية ستظل إلى أمد بعيد كنزا من الأفكار والموضوعات والمواقف، سيظل النقاد بحاجة إلى وقت طويل لتفسيرها واكتشافها”، على الرغم من أن بعض النقاد الذين لم يفهموا مسرحه على حقيقته، اتهموه بأنه كاتب مسرحيات ذهنية، أو مسرحيات الأفكار التي تقرأ أكثر ما تمثل على المسرح، لكننا نقول إنه سيظل من أهم ما في “ريبورتوار” المسرح العربي، مع جملة من كتّاب غابوا عن الساحة وما زلنا نفتقدهم، ونفتقد أعمالهم الرصينة من أمثال: الفريد فرج، سعد الدين وهبه، عبدالرحمن الشرقاوي، علي سالم، عبد الرحيم الزرقاني، يوسف إدريس، ميخائيل رومان، محمود دياب، وغيرهم كثيرون، بفقدهم وغيابهم أصبح المسرح الحقيقي بجناح واحد. يذكر أن الحكيم مولود في 9 أكتوبر عام 1889.
في هذه المقاربة لن نقرأ الحكيم الذي كتب ما يزيد على 50 مسرحية، قراءة توثيقية عادية، بل سنقرأ جوانب محدّدة في مسرحه، الذي نجح من خلاله في إرساء اصطلاح خطير، هو مفهوم واستخدام “اللغة الثالثة في المسرح”، وإذا عدنا قليلا إلى حياته، سنجد أنها درس مفيد للجيل الجديد من العاملين في الحقل المسرحي، فمن كلية الحقوق طالبا، اتّجه عام 1921 إلى “مسرح الأزبكية”، حاملا بين يديه مسرحيته الأولى، وكانت عبارة عن أوبريت بعنوان “خاتم سليمان”، ليقدّمه إلى “فرقة عكاشة” التي قبلته على الفور، ونفذ ألحانه الراحل كامل الخلعي. بعد النجاح الأول وكان لافتا للنقاد والجمهور، أصبح قلم الحكيم لا يتوقف عن الكتابة للمسرح الذي خاض فيه تجارب متنوعة وحروبا وصراعات امتدت لنحو 40 عاما، كان خلالها رقما صعبا، رغم تزامن ظهور أسماء مهمة من كتّاب المسرح ربما لا يتذكرها أحد اليوم من أمثال: إبراهيم رمزي، لطفي جمعة، عباس علاّم، محمد مسعود، محمد عبد القدّوس، يونس القاضي، حامد الصعيدي، وآخرون. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الكتّاب الشباب في وقتهم، قد وجدوا مناخا صحيا للإبداع، ومن ذلك التشجيع الشعبي والنقدي والرسمي الذي تلقوه من الاقتصادي طلعت حرب الذي احتضن هذه الفرقة وأنشأ لها مسرحا خاصا عرف باسم “مسرح الأزبكية” على الطراز العربي، وكان أحد شروطه، أن يتخصص المسرح بتقديم المسرحيات العربية التاريخية، وكان طلعت حرب بهذه المبادرة مثالا لتشجيع الفنون، ودعم كتّاب المسرح، سعيا منه لتطوير هذا اللون من الفنون، وكي يلعب رسالته في تنوير الشعب، وتعزيز ثقافته الجماهيرية، وأيضا ليكون المسرح سلاحا لمواجهة الاستعمار والغزو الثقافي الخارجي. وربما تكون مسرحيته “سليمان الحكيم” مقاربة عما نتحدث عنه، وفيها حاول التوفيق بين العربي الإسلامي والعنصر الغربي في ثقافته، والمسرحية مطبوعة برؤيته الشرقية للإنسان في العموم.
عطاء غزير
كتب توفيق الحكيم للفرقة ثلاث مسرحيات هي: العريس، المرأة الجديدة، وأوبريت بعنوان “علي بابا” من تلحين الراحل زكريا أحمد، والذي لا يعرفه القارئ، أن الحكيم في بداياته كانت يكتب باسم مستعار هو “حسين أفندي توفيق”، حتى يتأكد أولا من ترسيخ إقدامه على أرض أصعب الفنون وأكثرها خطورة في ذلك الوقت. ويروي الحكيم في ذكرياته حول هذا الجانب فيقول: “فرقة عكاشة كانت تضم عباس فارس ومحمد بهجت وعمر وصفي وبشارة واكيم، وأن الاستقرار المالي الذي منحه طلعت حرب للفرقة، جعلها تعرض مسرحياتها طوال العام، وظهور ما يمكن تسميته بالمسرح اليومي، بل إن الفرقة كانت تقدم كل ليلة مسرحية مختلفة، وكان من أهم ما قدمته أوبرا بعنوان “ليلة كليوباترا” التي كتبها شعرا الدكتور حسين فوزي ولحنها داوود حسني، كما قدمت أوبرا كاملة باللغة العربية هي “شمشون ودليلة”، وكان للفرقة شعبة تقدم عروضها في الأرياف والأقاليم، لنشر الثقافة المسرحية لكافة فئات الشعب. بل إن أكثر ما تميزت به الفرقة هو ارتقاؤها باللغة، لمواجهة اللغة الهابطة المسفّة التي كان يتداولها أهل الفن والغناء في شارع عماد الدين”.
هذا هو المزاج العام الذي كان يكتب فيه الحكيم مسرحياته ورواياته، بل إن أجواء هذه المسرحية، سمحت له بأن يقتبس من الأدب العالمي أفكارا ومسرحيات، باعتبار (التمصير) أحد أشكال التعبير الفني الراقي. ثم سافر الحكيم إلى عاصمة النور باريس عام 1925، واستقر فيها ثلاثة أعوام كتب فيها أجمل أعماله وهي “عودة الروح” و”شهر زاد”. كما أنه تطلع هناك إلى آفاق جديدة، ونهل من المسرح الفرنسي الكلاسيكي بالقدر الذي يروي ظمأه وموهبته الفذة، لقد رأى عالما جديدا لم يعهده من قبل، فقد عاصر في باريس مرحلة انتقال هامة وحاسمة أعقبت الحرب العالمية الأولى، عندما كانت المسارح الشعبية في الأحياء القديمة، أو مسارح البوليفار، تقدم مسرحيات هنري باتاي وهنري برنشتين وشارل ميريه، التي تنهض على فن الميلودراما ومسرحيات جورج فيدو الهازلة.
كان من حظ الحكيم وهو في باريس أن شهد ظهور حركة ثقافية جديدة، بدأت تحتضن عشاقا جددا للمسرح، وتعتمد على مسرحيات النرويجي هنريك ابسن، والايرلندي جورج برناردشو، والايطالي لويجي بيراندللو، وأندريه جيد وجون كوكتو وفرانسواي دي كوريل. واحتضن المثقفون من النقاد هذا الاتجاه الجديد، وأخذوا يبشرون بمسرح جديد يقوم على مناقشة وتناول القضايا الاجتماعية والفكرية والإنسانية، وبالفعل بدأت الدراسات والقراءات النقدية عن هذا اللون الجديد من المسرح تغرق صفحات الجرائد، وأصبح هناك جمهور خاص لهذا المسرح، وقراء جدد لهذا اللون من الثقافة النقدية.
لم يقف الحكيم طويلا عند مفرق الطرق، فسلك من فوره طريق المجددين المعتمدين على الثقافة والأدب الفكري، مقررا أن يعقد مع الجمهور صلات لا تعتد على الإضحاك الخاوي والمواقف المسرحية الفارغة الهازلة، بل معتمدا على إثارة قضايا نفسية واجتماعية وفكرية عميقة، انه لا يود طعن الأصيل القديم، وإنما يستعين به لتقديم الجديد شكلا ولونا ومضمونا، مقررا العودة إلى مصر بمخزون ثقافي ومسرحي جديد عام 1928، وهو أكثر اقترابا من مسرح الفكر والفرجة. وبدأ إنتاجه يتدفق فكتب رائعته “أهل الكهف”، و”رصاصة في القلب”، قابضا بقوة وفي وقت واحد، على لونين من المسرحيات الذهنية والاجتماعية، فيقدم مسرحيات ذهنية مثل: شهرزاد، وبيجماليون، وأوديب، وايزيس وغيرها، ويقدم أيضا مسرحيات اجتماعية تقدم صورا من الحياة بأسلوب كوميدي لافت، ينتقد العيوب والسلبيات والأخلاق الاجتماعية، محاولا إصلاحها عن طريق إثارة الضحك النظيف والسخرية التي لا تجرح ولكنها تحدث وعيا نقديا لدى المتفرج، ومن ذلك مسرحيات مثل: الزّمار، وسر المنتحرة، وحياة تحطمت، وجنسنا اللطيف وغيرها، نقل من خلالها لغة المسرح خطوة واسعة نحو التطور والرقي والرمزية والاقتراب كثيرا من رجل الشارع، اذ لم يعتمد على النكتة اللفظية كما اعتادت على ذلك فرقة نجيب الريحاني وعلي الكسّار وغيرها، بل تحاشت مسرحيات الحكيم ابتذال اللغة واستخدامها كوسيلة للإضحاك فقط. مستمرا في هذا النهج المسرحي حتى عام 1945، ليجمع مسرحياته في مجلدين هما “مسرح المجتمع” و”المسرح المنوّع”، في حين أن الفرقة القومية بدأت تهتم بإنتاجه المسرحي بصورة واضحة فقدمت له مسرحية بعنوان “صندوق الدنيا” ومسرحية “الأيدي الناعمة” التي تحولت إلى فيلم سينمائي حقق نجاحا منقطع النظير من تمثيل كل من أحمد مظهر، صباح، ليلى طاهر، صلاح ذو الفقار، مريم فخر الدين. ونجح الحكيم في تأسيس قاعدة جماهيرية لمسرحه بعد أن قدم مسرحيات: الصفقة، عودة الشباب، السلطان الحائر. كما تم تطوير مسرحية أهل الكهف وأخرجها للمسرح القومي عملاق المسرح في ذلك الوقت زكي طليمات، كما أخرجها في إطار مختلف نبيل الألفي.
ثلاثة أنماط
بقيت الإشارة المهمة إلى أن النقاد قسموا مدرسة الحكيم المسرحية إلى ثلاثة أنماط، هي: المسرح الذهني أو مسرح الأفكار والعقل والذي يكتشف القارئ والمتفرج من خلاله عالما من الدلائل والرموز التي يمكن إسقاطها على الواقع بسهولة شديدة، لتقديم رؤية نقدية للحياة تتسم بقدر كبير من العمق والوعي. وخير مثال على هذا النوع من الأعمال مسرحية “أهل الكهف” التي نشرها عام 1933 ومحورها يتمثل في صراع الإنسان مع الزمن. ومسرحية “بيجماليون” ونشرت عام 1942 واعتمد فيها الحكيم على جملة من الأساطير اليونانية القديمة، ومسرحية “براكسا” أو مشكلة الحكم ونشرت عام 1939 وهي مستمدة أيضا من الفلسفة الإغريقية، وتظهر مدى سخرية الحكماء من السلطة. والنمط الثاني هو “مسرح اللامعقول” ومن أعماله التي تجسد رؤية هذا المسرح في استكشاف الرؤية الشعبية من تلاحم المعقول في اللامعقول، مسرحية «الطعام لكل فم»، وفيها يجمع ما بين الواقعية والرمزية. كذلك مسرحيته “نهر الجنون” ذات الفصل الواحد، ويعمد فيها إلى أسطورة قديمة تحكي عن ملك شرّب جميع رعاياه من نهر، كان كما رأى في منامه أن مائه مصدرا لجميع من يشربون منه. أما النمط الثالث والأخير فهو المسرح الاجتماعي الذي طرق من خلاله الحكيم باب الفساد في مجتمع المدينة، كما تظهر من خلالها البيئة المصرية بوضوح من خلال أسلوب السخرية والنقد التهكمي المرير، الذي يحوي عنصر (التفكه) بدلا من الإضحاك المسفّ.
جوهر الحكيم
أما عمق مسرح الحكيم، فمازال في تقديري بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتحليل النقدي والاكتشاف، لكي نزيح الغبار والنّقاب عن جوهر أعمال فنان الفرجة وفنان الفكر، الذي يتمتع في أسلوبه بروح الفكاهة والدعابة والخيال العلمي أو الأسطوري والأمثولة الأخلاقية وقصص التراث العربي والشعبي والأجواء السحرية و”الحدوتة” الشعبية والحوار الطريف المخلص للغة الواقع الفياضة. لقد امتلأ مسرح الحكيم بمسرحيات وموضوعات متنوعة منها ما يشتمل على عناصر مسرحية درامية مثل الميلودراما والأوبريت والكباريه السياسي، ومنها ما يقوم على أسلوب المحاكمة الشعبية والحبكة المحكمة والأسلوب البوليسي والحكايات الجانبية. ولعل بعض أعماله أيضا تقوم على عناصر بصرية ومرئية لتحقيق مشهدية عالية مثل استخدام ألوان من التعبير المسرحي مثل الرقص والكورس (الجوقة) والمنشد والحركة السريعة والمناظر الجذابة والأمكنة المثيرة للخيال. لقد أثار استخدام الحكيم لفن الفرجة اهتماما كبيرا لدى النقاد والجمهور، وما زال هذا اللون من الأسلوبية ماثلا حتى وقتنا الحاضر وبخاصة في الأعمال المسرحية الاستعراضية أو الموسيقية، ومن ذلك ما قدمه على شكل “قصة وصفية” في “عوالم الفرح” عام 1927، والتي يكشف من خلالها إلى أي مدى كان فن الفرجة قد تسرب إلى أعماقه، كما تحقق هذا الإيقاع في الأوبريت المسرحي بعنوان “علي بابا”، ونشير هنا إلى أن الحكيم كان حريصا في مثل هذه الأعمال على ربط الفرجة بالفكر، حتى يكفل لها سهولة التناول ويسر الاستيعاب، وحتى أكثر مسرحياته امتلاءا بثمرات فكره، وهي مسرحياته الست التي تبدأ بشهرزاد وتنتهي بالملك أوديب، وأكثرها إغراقا في تأمل المشكلات الفلسفية المجردة واستخداما للحوار الفلسفي والرموز الكثيفة والأساطير القديمة، لايألو الحكيم جهدا في سبيل تزجيتها عند جمهوره بالمناظر اللافتة والألغاز المنشطة للعقول النظارة، وتلك الأجواء الحالمة والقصص الجانبية والصراعات القوية، علاوة على عناصر الفرجة البصرية من لواحق عرض مسرحي مثل الملابس والديكور والمناظر والرقص والغناء وغيرها.
لقد قدم الحكيم للمسرح العربي روائعا ما زالت مجهولة للمتفرج المعاصر في الواقع، ومن ذلك مسرحياته ذات المحتوى الفكري الخالص (شهرزاد، أهل الكهف) وترجمت الى الفرنسية عام 1940 “بيجماليون”، و”براكسا”، و”سليمان الحكيم”، و”الملك أوديب”، ثم مسرحيات الصحافة التي سماها بعض النقاد بـ (مسرح على الورق) والتي كتبها الحكيم إبان الأربعينيات وأوائل الخمسينيات عندما كان يكتب في جريدة “أخبار اليوم”، وهي كما تصورها بعض المهتمين في شؤون المسرح، مرحلة ذبول العرض المسرحي بوجه عام، مرحلة لم يكسرها إلا ظهور كتّاب كبار القامة من أمثال نعمان عاشور وسعد الدين وهبة، وقدموا تنويعات من المسرحيات ذات مضامين تحمل طابعا اجتماعيا نقديا مغلفا بإطار سياسي، في حين كان الحكيم مولعا في تلك الفترة بتقديم ألوان من المسرحيات ذات صلة بفنون الفرجة التي كانت تبرز في الموالد الشعبية وفناني المسرح الشعبي ومسرح الارتجال أو كما عرف بمسرح الكوميديا ديلارتي، محققا في ذات الوقت توازنا ملحوظا بين الفكر والفرجة في سلسلة المسرحيات التي بدأت عند أواسط الخمسينيات بمسرحية “الأيدي الناعمة”، حتى منتصف الستينيات بمسرحية “الورطة”.
نموذج جميل
في الجانب الآخر إذا عدنا قليلا إلى مسرحيات الحكيم التي سميت بـ “مسرح على الورق” وهي نموذج جميل للمضامين الهادفة إلى تعرية المجتمع وتشريح صور الحياة في مدينة القاهرة، على غرار ما فعل في “يوميات نائب في الأرياف”، حيث الاهتمام الكلّي بالواقع الاجتماعي، وتفضيلا لشكل المسرحية ذات الفصل الواحد، واستخدام الأفكار استخداما دراميا، كما نرى الحكيم في ثوب آخر حينما يعود إلى موضوع الإنسان والزمان في مسرحيته “لو عرف الشباب”، حيث الواقعية النقدية أيضا، كما نلمح تأثيرات التراث العربي والأمثولة الأخلاقية في مسرحية “الصندوق”، فيما يتأكد بالمجمل العام اتجاه تحقيق التوازن بين الفكر والفرجة في جميع مسرحيات الورق، التي لم تعجب بعض النقاد، بعد أن نزعوا عنها صفة “المسرح الفكري الحيّ”، الذي يفقد حضوره على الصفحات، وليس على خشبة المسرح. لكن ذلك لا يقلل من أهمية الحكيم وقالبه المسرحي الجديد الذي يجمع الإشكالية بين الفكر والفرجة على نحو ما تحقق له في مسرحياته التي أطلقها عام 1945 مثل: الأيدي الناعمة، ايزيس، السلطان الحائر، يا طالع الشجرة، الطعام لكل فم، شمس ونهار، الورطة، وغيرها..
يكتب الحكيم المولود في مدينة الإسكندرية عام 1898، بلغة مسرحية تفوح منها أحيانا قسوة لاذعة، حينما يكون الفكر المتناول فيها يعكس صورة جشع الإنسان، وسيطرة الفساد على حياته وطموحاته، ولعل ذلك يحمل العديد من المكنونات، والجانب الرمزي.. وفي مسرحيته التي تحمل عنوان “الصرصار ملكا”، نجد مقاربات مع عناوين شبيهة لمسرحيات أخرى منها مسرحية للكاتب الأرجنتيني ازوالد دراغون بعنوان “الرجل الذي صار كلبا”، بل إن هناك مسرحية أخرى ذات عنوان لافت هي “الرجل الذي صار عصا” للكاتب آبي كوبو.. وبموازاة ذلك نكتشف أن للحكيم مسرحية بعنوان “كل شيء في محلّه” وهي كوميديا اجتماعية من فصل واحد، وتحمل في ثنياتها حوار جذابا، ونفسا من روح التجريب في ضبط الإيقاع المسرحي والمشهدية.
وحول قضايا مسرحه يقول الحكيم: “أقيم مسرحي داخل الذهن، وأجعل الممثلين أفكارا تتحرك في المطلق من المعاني، مرتدية أثواب الرموز”. إن الرجل في الواقع يعرف قيمة علاقة الفن بالحياة والواقع، حتى في مسرحياته التي سماها كما ذكرنا سابقا “مسرح على الورق” كانت تتمتع بخفة ظل واضحة، ونقدية مرّة تبرز أهمية النقد الاجتماعي، إلى مستوى إدانة رموز المجتمع وقوانينه وسلبياته، بما في ذلك الإقطاعيات الصغيرة التي كان يشكلها صغار التجار، وأصحاب المهن، ومن ذلك من نراه من روح انتقاديه في مسرحية “عمارة المعلم كندوز” ومسرحية “أعمال حرة”، في حين أنه في الواقع كان ينتقد مجتمع الطبقات الممالئة للاستعمار والإقطاع، ومن أولئك الذين يمتصون دماء الفلاحين، كذلك إدانة الرأسمالية الناشئة التي تشارك في نهب البقية الباقية من ثروة الشعب، نقد في الواقع كان يمس الأساس السياسي للمجتمع ولكن بطريقة ساخرة، تبتعد كثيرا عن الغرض الإيديولوجي، لهذا كان مسرح الحكيم إنسانيا طبيعيا يهتم بالإنسان وقضاياه على طريقته الخاصة ليتصدر بذلك قائمة الكتاب من ذوي الاهتمامات الإنسانية الواسعة.
القلم والقدم
ينسب إلى توفيق الحكيم قوله قبل سنوات قليلة من رحيله، حينما علم بأن بعض لاعبي كرة القدم يتقاضون رواتب بالملايين، وبعضهم يباع ويشترى بأكثر من ذلك بكثير، قال: “انتهى عصر القلم، وبدأ عصر القدم، لقد أخذ هذا اللاعب في سنة واحدة ما لم يأخذه جميع أدباء مصر منذ عهد أخناتون”، تماما على النحو الذي قال فيه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، بعد أن شاهد جمهور الشباب في الحفلات الجماهيرية وهم يصرخون في الحفلات المهرجانية التي يقدمها بعض المطربين من أصحاب اصطلاح ألأغنية الشبابية قال: “انتقل الجمهور من السماع بقلبه وروحه ووجدانه وأذنيه إلى السماع بقدميه”.