يبدو أن الحمامات الشامية تصارع الزمن للبقاء، بعد أن أصبحت رمزاً لتراث شعبي غني، كما أنها أصبحت تأخذ بالحداثة فيما تقدمه من خدمات إضافية على هامش الاستحمام، بحيث أصبح دخول الحمام الشامي من قبل السائح فرصة نادرة للاستمتاع بالأجواء والطقوس، كما أن العديد من السياح العـرب والأجانب لا يزال يغريهم ارتياد الحمام الدمشقي التاريخية.
يعتبر الحمّام العام أو حمّام السوق كما تسميه العامة أحد المظاهر القديمة الحية في دمشق، والتي لا تزال تتحدى التطورات الحديثة وتقاوم لكي تبقى وتستمر، وما يزيد من قوة الحمامات الدمشقية الأثرية أنها تعتبر قيمة في فن العمران في بنيانها وزخارفها وتقسيماتها، وفي الجو الساحر الذي تضع فيه الزبون، ولاسيما إذا كان سائحاً.
فهي خليط من مكان للاستحمام بأسلوب تقليدي ومقهى ومطعم، وعديد من التسليات التي تجعل الحمام العام جزءاً من الفولكلور الشعبي الدمشقي، الذي يأسر زوّاره وينقلهم إلى عالم مختلف يسميه أهل الشام «نعيم الحمام».
وقت ممتع
في الوقت الحاضر، فإن ما بقي من حمّامات دمشق الشهيرة لا يتجاوز عشرة حمّامات لا تزال تستقبل زبائنها من السياح العرب والأوروبيين وقلة من السوريين الذين ما زال يستهويهم حمام الماضي، برغم توفر الحمامات المنزلية الحديثة في بيوتهم.
ويصدف أن مجموعة من الشباب تستهويهم تقاليد الأمس، فيقصدون الحمام ويمضون فيه وقتاً ممتعاً يتعرفون فيه على حمام الماضي، والتسلية التي تتاح فيه، ولاسيما أن القائمين على الحمامات أضافوا إلى بعضها خدمات جديدة لم تكن موجودة في السابق، كالساونا والمسّاج وصالونات الحلاقة.
ومن أشهر الحمامات وأقدمها في دمشق الآن حمام «نور الدين الشهيد»، الذي يتوسط سوق البزورية الشهير المتفرع عن سوق «مدحت باشا»، والذي بناه السلطان نور الدين الشهيد عام 545 للهجرة، وهو مصنف ضمن الآثار المهمة في مدينة دمشق، وظل قائماً منذ ما قبل القرن الرابع عشر الميلادي، حيث تعرض للإهمال في العهود اللاحقة، ثم استخدم كمستودعات حتى عام 1975 عندما قامت مديرية الآثار والمتاحف بإخلائه وترميمه وتجديده وإعادته للحياة مجدداً، حيث بدأ باستقبال الزبائن من المواطنين والسياح، وذاع صيته مجدداً كأجمل حمام في دمشق القديمة من حيث ثرائه المعماري وزخارفه الرائعة وقبابه البديعة والرخام الذين يزين أرضه بأشكال هندسية جميلة. وهناك حوالي عشرين حماماً لا تزال قائمة، وبعضها يعمل ويستقبل الزبائن، وصُنف عدد منها ضمن الحمامات الأثرية المسجلة لدى مديرية الآثار السورية، ومنها حمام القرماني، الذي كان يعد واحداً من أكبر الحمامات الدمشقية وأكثرها ارتياداً ونشاطاً.
طقوس تقليدية
أصبح الحمام الدمشقي من التراث الشعبي لأهل الشام، فقد كان في الماضي مجمع الأصدقاء من الرجال والشباب، وملتقى الأسر، حيث يقضي فيه الجميع ساعات طويلة من السمر، وكانت الحمامات ولا تزال تخصص وقتاً لاستحمام الرجال من الصباح حتى الظهر وطول فترة الليل، بينما تخصص للنساء فترة ما بعد الظهر حتى المساء، وكان يحدث كثيراً أن تستأجر بعض الأسر الميسورة الحمام بكامله، فتجتمع فيه النساء وبناتهن وأحفادهن، وغالباً ما كان يتم ذلك في مناسبات الأعراس والولادة. وكثيراً ما تصطحب النساء طعامهن إلى الحمام، أو يحضرن إليه جاهزاً من المطاعم، وكذلك الأمر بالنسبة للرجال. وكان الحمام الدمشقي مقصداً للخاطبات أو الأمهات اللواتي يبحثن عن زوجات لأولادهن، إذ يتاح للأم أن تتعرف على الخطيبة المرشحة عن قرب، وتتأكد من لون بشرتها البيضاء التي كانت مفضلة عند الجدّات الشاميات.
وتتوزع مهام العاملين في الحمام إلى أصناف، فهناك المعلم، وهو صاحـب الحمام أو مستثمره، ويجلس في مكان بارز ومميز في القسم البراني، ويشرف على سير العمل بكامله. ويليه «الناطور»، وهو الذي ينوب عنه في العمل في حال غيابه، كما يقوم باستقبال الزبائن وتسلم أماناتهم وحفظها، ويقدم الفوط (المناشف) القماشية لهم كي يستبدلوها بملابسهم. كما يستقبل الزبون بعد انتهائه من الاستحمام، ويقوم بتبديل المناشف له، ويقدم له المشروبات الساخنة حسب طلبه.
أما الريس، فإنه الشخص الذي يقوم بعملية تحميم وتكييس وتلييف الزبون في القسم الجواني، وهناك عاملون آخرون كالتبع الذي يساعد الريس في مهمته، و»القميمي» الذي يتولى إيقاد النار وتسخين المياه في قبو الحمام. وهؤلاء العاملون يقابلهم عاملات يقمن بالمهام نفسها عندما يكون الحمام مخصصاً للنساء.
أقسام الحمام
يتألف الحمام الشامي من القسم الخارجي «البراني» الذي يضم مصاطب مفروشة، وفيه يُستقبل الزبائن، ويتم تغيير ملابسهم ولفهم بالمناشف، وتقديم الضيافة لهم. وإلى هذا القسم يعودون بعد الانتهاء من الحمام لتقدم لهم المشروبات الساخنة، بينما تتراقص المياه في البحرة التي تتوسط الحمام، وسط درجات حرارة عادية، ويليه القسم «الوسطاني»، وهو أعلى قليلاً من حيث درجات الحرارة، بحيث يشكل مرحلة انتقالية بين درجات حرارة «البراني» العادية ودرجات حرارة «الجواني» المرتفعة. وفي هذا القسم يستريح الزبون، ويتكيف تدريجياً مع حرارة الجو، قبل أن ينتقل إلى «الجواني» ذي الحرارة الساخنة، وهناك تجري عملية الاستحمام بالمياه الساخنة داخل مقصورات تتوزع في المكان، حيث تتدفق المياه من الصنابير إلى أجران خاصة، بعضها يستقبل الماء الساخن وبعضها الماء العادي، وبعد انتهاء الاستحمام يقوم الزبون بالانتقال تدريجياً من الجواني إلى الوسطاني، فالبراني، حيث تقدم له المشروبات الساخنة، ويستريح حسب رغبته قبل أن يغادر الحمام.
وأضيفت إلى القسم الجواني خدمات معاصرة لم تكن موجودة في الحمام القديم، وهي غرف الساونا والمساج، كما أضيفت إلى القسم البراني صالات حلاقة رجالية، لكي تكتمل المتع التي يقدمها الحمام الدمشقي.
درر أهل الشام
كان أهل دمشق في العصر الأموي يفاخرون بأربع درر ثمينة، وهي ماء دمشق وهواؤها وفاكهتها وحماماتها.
ويقال إن الوليد بن عبد الملك أخبر أهل دمشق عندما شرع في بناء المسجد الأموي، أنه سيجعل من هذا المسجد درة خامسة وخالدة.
وعندما زار ابن جبير دمشق عام 1185 للميلاد أحصى فيها مائة حمام، وذكر محاسنها وروعة بنائها وزخارفها، وحسن الخدمة فيها، لكنه ما بين القرن الرابع عشر والسابع عشر للميلاد تناقص عدد حمامات دمشق، ثم عادت للتزايد، حتى وصلت إلى سبعة وسبعين حماماً.
ومع تطور الحياة المعاصرة، والتفنن في الحمامات المنزلية، أهملت الحمامات العامة، حتى انخفضت في الوقت الحاضر إلى حوالي عشرين حماماً، لا يزال أقل من نصفها يعمل ويستقبل الزبائن.