هل هو مجرد قطعة قماش ترفرف على ساري عال أم أن وراء هذا المظهر الذي يبدو بسيطاً معاني ورموزاً ودلالات أعمق كثيراً جداً مما يتبدى للناظر؟
نحن نتحدث عن علم الدولة أو الراية، والذي تتخذه الأمم والشعوب المختلفة رمزاً لها، وقد حرصت دول العالم منذ وقت بعيد على صيانة هذا الرمز، بل اعتبرت أن الاعتداء عليه، يعد بمثابة امتهان لكرامة الدولة.
في هذا السياق الثقافي ربما ينبغي علينا أن نتوقف قليلاً لمناقشة فكرة العلم وأهميته، كيف نشأت الأعلام والرايات؟، ولماذا اختارت دول بعينها أعلاماً بذاتها؟، ذلك أن ما ينقش أو يُرسم على قطعة القماش هذه له دلالة أنثروبولوجية تتصل بسياقات الزمان والمكان الخاصة بكل دولة عبر تاريخها الطويل.
عند المصريين القدماء
يمكن التأريخ للأعلام بالعودة إلى قدماء المصريين، الذين استخدموا الرايات أو الأعلام كرمز وطني لبلادهم. وعلى جدران المعابد المصرية، لاسيما في صعيد مصر، يمكن للزائر أن يرى أعلاماً مختلفة، وإن كان أغلبها يعود إلى أزمنة بعينها، أو أحداث خاصة باحتفالات أو حروب. تُعرف الموسوعة العنكبوتية «ويكيبيديا» الأعلام أو الرايات، بأنها رمز لقبيلة أو عشيرة أو دولة، وتختلف الأعلام باختلاف ألوانها وأشكالها. وقد استخدمت الأعلام الأولى لمساعدة التنسيق العسكري في ميادين القتال، وتطورت الأعلام منذ ذلك الوقت إلى أداة عامة بدائية للإشارة وتحديد الهوية، ولاسيما في بيئات معزولة حيث التواصل يكون صعباً.
ولعل الباحثين بعمق في شأن الأعلام يعرفون أن هناك دراسة قائمة بذاتها تعرف بـ «الفيكسيلولوجية»، وهي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «فيكسيلوم» بمعنى علم أو راية.
لم تكن الحضارة الفرعونية أو المصريون القدماء فحسب هم من عرفوا الأعلام أو الرايات، فقد استخدم الفرس أعلاماً مختلفة، لاسيما في عصر الدولة «الساسانية»، وكذلك فعل الرومان، وفي الأصل كانت الفيالق الرومانية لا تستخدم أعلاماً، بل رموز مثل النسر، حيث تم وضع رمز النسر على عصا حامل لواء العقد في أثناء المعركة.
لم يتوقف مفهوم العلم أو الراية عند العصور القديمة أو الدول والكيانات البشرية الكبرى فقط، بل امتد لتغطية أغراض أخرى، فخلال العصور الوسطى، كانت الأعلام تستخدم لمجموعة متنوعة من الأغراض مثل تحديد هوية أفراد من طبقة النبلاء أو النقابات والمدن والعبادة الدينية، وكذلك لاستخدام الأعلام في المعارك، حيث كانت تستخدم من قبل المجموعات العسكرية أعلام لتحديد الهوية في ميدان القتال، وتوصيل التعليمات الاستراتيجية.
عند بني إسرائيل
من منظور ثقافي تاريخي وليس دينياً يجد الباحث أن بني إسرائيل وعبر التاريخ القديم كانوا من أكثر شعوب الأرض التي تحدثت عن الأعلام أو الرايات والحديث عن هذه الجزئية في حاجة إلى صفحات مطولة بذاتها، وقد بدأ الاهتمام بها منذ زمن موسى (عليه السلام).
يتحدث سفر الخروج، الإصحاح السابع عشر، العدد الخامس عشر، فيقول: «وشيد موسى مذبحاً ودعاه «يهوه نسي» ومعناه الرب رايتي أو علمي. وفي مزامير داوود بن سليمان نقرأ عن الأعلام التي تعلن عن الخلاص والانتصار، كما في المزمور العشرين، العدد 5، إذ يقول: «نهتف مبتهجين بخلاصك، وباسم إلهنا نرفع رايتنا، ليحقق لك الرب كل ملتمسك». والأعلام والرايات عند اليهود القدماء تعلن عن حماية الرب لشعبه، كما تستخدم في توحيد شعب الرب، وتوجيه الحرب في العبادة، وتعلن الانتصارات، وتبرهن عن حضور الرب في وسط شعبه.
بل إن في قصة خروج بني إسرائيل من مصر وصراعهم مع العقارب في برية سيناء حديث طويل عن الرايات، إذ يذكر سفر العدد ما نصه: «أصنع لك حية محرقة وضعها على راية»، والأعلام والرايات تجعل العدو يهرب سريعاً جداً. والشاهد أن الإشارة هنا إلى الرايات عند بني إسرائيل سوف نجد لها لاحقا سيما في العصور الوسطى الأوروبية، وزمن ما يعرف بالإصلاح الديني انعكاسات على أعلام ورايات ارتفعت في أوروبا، وبعضها باقٍ حتى الساعة.
عند المسلمين
هناك علامة استفهام فقهية تقابلنا ونحن نبحث في قصة الأعلام من المنظورين الثقافي والتاريخي، وهي: ما هو جواز رفع الرايات أو الأعلام في الإسلام وهل للإسلام والمسلمين راية بعينها؟
عند جمهور الفقهاء أنه ليس للإسلام راية معينة بحيث يقال هذه رايات الإسلام، وإنما هناك أعلام لدول المسلمين، وطوال حروب المسلمين الأولى لم تكن هناك راية بعينها كقاسم مشترك في كل الحروب، ولكن استخدمت أعلام أو رايات مختلفة، مرة سوداء، ومرة بيضاء، ومرة صفراء، وفي رايات القتال بنوع خاص استحب الفقهاء أن تكون مختلفة الألوان لا سوداء، كما قال صاحب كشاف القناع «ويعقد لهم الرايات، وهي أعلام مربعة ويغاير ألوانها»، فيما يذهب فريق آخر من علماء المسلمين إلى القول بأن رفع راية التوحيد في القتال، مباح، لكنه ليس سنة مشروعة، وإذا ترتب على رفعها ضرر، لم يَجُز رفعها، لما جاء في الحديث الشريف من أنه لا ضرر ولا ضِرار.
غير أن المراحل التاريخية المختلفة في الدول الإسلامية قد شهدت ألواناً وأنواعاً اختلفت فيها الرايات وامتزجت فيها المشاهد السياسية بالفقهية بشكل عميق.
خذ، على سبيل المثال، ما كتبه ابن خلدون عن راية الفاطميين في صدر دولتهم إذ يقول: «كانت راية الفاطميين بيضاء تتألف من رقعة من الكتان مستطيلة الشكل، رسمت عليها أحياناً أهِلّة من ذهب، في كل منها صورة سبع من الديباج الأحمر، وقد شبهها أحد الشعراء بشقائق النعمان، وكما هو واضح، فإن ما ورد بخصوص الرايات الفاطمية قليل جداً، لا يعطينا إلا تلميحات متفرقة لا تسعف الباحث في هذا المجال، وإذا كانت هذه أوصاف الراية الفاطمية كما وردت في كتب التاريخ، وهي كما تبدو مبتورة غير كافية، فإن الأمر يكون أكثر صعوبة عندما نحاول البحث عن صورتها في المصادر المادية ولا سيما المخطوطات والخزف والنسيج.
لكن هناك عبارات بعينها نسجت على رايات الفاطميين من بينها: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)) و ((... وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)).
والشاهد أن الأعلام والرايات في الدولة الفاطمية تختلف كثيراً عن زمن الخلافة العباسية (750 – 1517) والدولة العباسية أول خلافة إسلامية في التاريخ، وثاني السلالات الحاكمة الإسلامية.
اشتهرت الألوية والرايات العباسية والدول الإسلامية التي سارت على دربها بأنها كانت سوداء، حيث كان السواد شعار العباسيين، وقد كانت هناك محاولات جادة من المأمون لتغييرها، ولكن دون جدوى. وفي اختيار اللون الأسود مضامين عدة، منها أنه يعطي هيبة ووقاراً، وقال البعض الآخر إنه دلالة على الحزن لمقتل الحسين، ومدعاة للثأر له.
عند الدولة الحديثة
ولعله يمكننا القول إن الدور الذي تقوم به الأعلام ولو بقي واحد، إلا أن التحليلات المتصلة بالأعلام في الدولة الحديثة بمعناها ومبناها «الويستفالي» حكماً يختلف عن المشهد في العصور الغابرة إلى الدرجة التي بات معها وجود عِلم كامل للرايات والأعلام، والذي أشرنا إليه سلفاً، أي علم الـ Vexillology، أي الدراسة العلمية لتاريخ ورمز واستخدام الأعلام أو أي شيء يتعلق بالرايات والأعلام بشكل عام، وقد استخدم للمرة الأولى عام 1957، من قبل الأميركي ويتني سميث، ولاحقاً تم تأسيس المجلس الدولي لعلم الرايات في عام 1965، حيث يعقد له اجتماع كل عامين.
لم يعد العَلَم في الدولة الوطنية الحديثة إشارة إلى الدولة فحسب، ذلك أن ظهوره على أعلى المباني والمؤسسات الحكومية، وكذلك قيام المواطنين برفعه في المناسبات والأيام الوطنية، دلالة ورمزاً للسيادة الوطنية، ودليلاً على الاستقلال الكامل، وبسط السلطة على الأراضي الوطنية كافة. وعلى الرغم من أن الأعلام والرايات كانت تستخدم بشكل أساسي في الحروب، إلا أن ظهور الأعلام الوطنية في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر، كان مترافقاً مع ظهور النزعات القومية، والتي أدت إلى إظهار الأعلام الوطنية ضمن السياق المدني.
وهناك استخدامات متعارف عليها للرايات الوطنية حول العالم، فَلِرفع الراية وتنكيسها قواعد معينة تحددها الأنظمة، فرفع الراية يعني نشرها، وخفض الراية يعني إنزالها مؤقتاً أو قليلاً لتحيتها عند رفعها مجدداً، أما تنكيس الراية، فيعني إنزالها إلى الوسط علامة على الحداد، وعادة ما يتبع هذا الإجراء حال حدوث كوارث وطنية أو وفاة أحد من رموز الدولة.
أما نزع الراية فيعني الاستسلام والهزيمة، وتسليك الحبل يعني تمريره في طرف الراية، تمهيداً لرفعها وإنزالها.
ويشار إلى أن رايات بعض الدول الإسلامية لا تنكس إطلاقاً ولا يتم إنزالها إلى نِصف السارية في حالات الحداد أو الكوارث والأحداث الكبيرة التي تُعبِر عن موقف الدولة والمراسم الدولية، مثل علم المملكة العربية السعودية.
والمعروف كذلك أن بعض الدول تستخدم تصميماً واحداً ليكون هو الراية الوطنية في كل مجالات الاستخدام، بينما تستخدم دول أخرى رايات متعددة لتمثيل الراية الوطنية، وهذا يعتمد على الحالة أو الغرض التي تعيشها الدولة والظرف الذي تستخدم فيه.
وللألوان قصة طويلة مع أعلام ورايات الدول، فعلى الرغم من وجود آلاف الألوان الممكنة الرؤية، إلا أن دراسات عديدة توضح لنا أن الألوان الأكثر استخداماً في أعلام دول العالم هي ستة ألوان، وهي الثلاثة ألوان الأساسية أي الأحمر والأزرق والأخضر، زائد الأصفر والأبيض والأسود، وتتصف هذه الألوان بخاصية النصوع أو اللمعان، التي تعني درجة الجلاء أو كمية الضوء المنعكس من اللون. ومع أن اللون واحد، فإنه حمل دلالات متنوعة في أعلام الدول، مما يعني أن الحضارات المختلفة تضفي على اللون دلالات ومعاني خاصة بها، مرتبطة بتاريخ تلك الحضارة وقيمها الدينية والاجتماعية.
والدراسة المعمقة تبين لنا أن اختيار الألوان في العلم الوطني قائم على انتقاء قيم تتباهى بها الدولة، أو دالة على الاعتزاز بها، وأن اللون في العلم يقوم بوظيفة اللغة من حيث التعريف بقيمة معناه، فضلاً عن التعريف بالدولة التي يمثلها.
والمدهش أنه على الرغم من تنوع الحضارات، وتنوع أعلام الدول فإن الألوان الأكثر استخداماً تحددت بستة فقط، يتصدرها اللون الأحمر بامتياز... ويبقى السؤال هل يَقُص كل علم قصة دولة وحضارة أمة وشعب، تاريخ تفاعل بين الجغرافيا التي هي ظل الله على الأرض، مع التاريخ الذي هو ثمرة عمل الإنسان حول الكون؟
في السطور القادمة نحاول اختيار أربعة دول كبرى حول العالم، هي أميركا وبريطانيا، وفرنسا والصين، لتحليل دلالات ورموز أعلامها، ولنتوقف في النهاية مع علم دولة الإمارات العربية المتحدة، والقصة التي يحكيها عن نهضة أمة وشعب من زمن زايد الخير حتى الساعة.
رموز العَلَم الأميركي
ربما لا يوجد شعب متعلق بعلم بلاده بقدر تعلق الأميركيين بعلمهم، والذي يعد أحد أهم الرموز التي يلتئم شمل الأميركيين من حولها، ويعد مصدر فخر بالنسبة لهم منذ زمن الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، ورمزاً للاتحاد الفيدرالي بين الولايات المختلفة من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب.
مر العَلَم الأميركي بمراحل تاريخية مختلفة ليصل إلى شكله الحالي الذي يتكون من خمسين نجمة بيضاء تمثل الولايات الأميركية، مصطفة داخل مربع أزرق في أعلى يسار العَلَم يسمى «مربع الاتحاد»، إضافة إلى 13 شريطاً، سبعة منها تحمل اللون الأحمر وستة بيضاء، وهي تمثل المستعمرات الـ 13 الأصلية التي طالبت بالاستقلال عن بريطانيا، وأصبحت أولى الولايات بعد الاستقلال عنها يوم 4 يوليو 1776.
يعرف العالم أن علم الدولة يتصل بالمنشآت الحكومية فقط، لكن الذين قدر لهم زيارة الولايات المتحدة والعمل والإقامة فيها، يتفاجأون أن الأميركيين يرفعونه غالباً في منازلهم وحدائقهم، وقد شكل هذا العلم رمزاً وطنياً هاماً خلال الحرب الأهلية الأميركية، في إطار مواجهة المطالبين بانسحاب ولايات الجنوب من الاتحاد.
ونظراً لأن الولايات المتحدة هي أقوى دولة في العالم فإن العلم الأميركي يعد أكثر الأعلام شهرة، ويحتفل الأميركيون بعلم بلادهم في الرابع عشر من شهر يونيو من كل عام، ويعتبر المدرس برنارد سيجراند أول من طالب بتخصيص يوم للاحتفال بالعَلَم، وذلك في سنة 1885، ولكن الكونغرس لم يصادق على هذا لأمر، إلا في سنة 1949.
فخار الأميركيين بعلم بلادهم هو الذي يدعوهم لوضعه بشكل بارز على مكوكَات الفضاء الأميركية، وعلى الكتف اليسرى لبدلات رواد الفضاء، ومن المشاهِد المُثيرة للغاية بالنسبة للعلم الأميركي، هو ذاك الذي رآه العالم يوم هبوط رواد الفضاء الأميركيين على سطح القمر في 20 يوليو عام 1969، والذي غرسه في تربة القمر رائد الفضاء الأميركي «نيل أرمسترونغ»، وفيما يعتقد الجميع أن هناك علماً واحداً على سطح القمر، تشير الحقيقة إلى وجود ستة أعلام أميركية هناك.
رموز العلَم الروسي
لا يتوقف الفخر بالعلم عند حدود الأميركيين بدولتهم الحديثة العهد، فالروس لهم مع العلم وألوانه قصة كبرى، تتشابك فيها الخيوط الثقافية مع الخطوط الاجتماعية، وجميعها تحكي فصولاً من عظمة روسيا القيصرية عبر نحو ألف عام.
يتكون العلم الروسي من ثلاثة ألوان: الأبيض ويرمز إلى الاستقلال والحرية، والأزرق يرمز إلى لون السماء وإلى السيدة مريم العذراء راعية روسيا، أما اللون الأحمر فيشير إلى الرغبة الكبيرة من قبل الروس ورؤساء الدولة الروسية في أن يصبح لبلادهم شأن كبير، كما أن اللون الأحمر فيه إشارة ضمنية إلى الدم الذي أريق منذ زمن داخل روسيا، من أجل تحقيق الأهداف الروسية.
يعتبر العلم الثلاثي الألوان أداة تجميع للنسيج الاجتماعي الروسي، وإن اختلفت عقائد الروس السياسية، أو معتقداتهم الدينية، فقد ظهر للمرة الأولى قبل نحو ثلاثة قرون ونصف القرن عام 1667، وبعدها أمر القيصر الروسي بطرس الأكبر برفع العلم على كل السفن التجارية الروسية ابتداءً من عام 1705، الأمر الذي زاد من أهمية ثلاثي الألوان وجعله مرتبطاً بتاريخ الدولة الروسية.
خلال الحقبة السوفييتية حلَّ العلم الأحمر الشهير بالمنجل والمطرقة إشارة إلى قوى العمل الزراعي والصناعي، محل العلم الروسي الأصلي القديم، لكنه عاد ليرتفع من جديد في أغسطس عام 1991، على حواجز أقامها محتجون على الانقلاب الذي شهدته البلاد آنذاك. وبعدما وافق مجلس السوفييت الأعلى لروسيا السوفييتية على اقتراح الرئيس الراحل بوريس يلتسين عام 1991 باستبدال علم روسيا السوفييتية الأحمر بالعلم الروسي القديم، فرفع على الفور العلم الثلاثي الألوان فوق مبنى الحكومة الروسية، ومنذ ذلك الوقت أصبح الثاني والعشرين من أغسطس من كل عام، يوماً للعلم الوطني الروسي، الذي بات رمزاً لنهضة روسيا واستعادة تاريخها العريق ودورها الريادي في الساحة الدولية.
رموز العلم الصيني
من بين الأعلام الدولية التي لا تخلو من رموز وحكايات تقرأها العين قبل أن ينطق بها اللسان يجيء علم جمهورية الصين الشعبية، والذي يرمز في مضمونة للثورة والدماء التي سفكت من أجل نجاحها، ولهذا يأتي مصطبغاً باللون الأحمر جملة وتفصيلاً.
يحتوي علم الصين على نجمة كبيرة تتوسط أربع نجوم أصغر، أما الكبيرة فترمز إلى الدور القيادي للحزب الشيوعي الصيني، بينما ترمز النجوم الأربع الصغار إلى الفئات الرئيسية التي تكون منها جمهور الحزب وهي: العمال والفلاحون والعسكريون والمعلمون.
ظهر العلم الصيني للمرة الأولى في الأول من أكتوبر عام 1949، في ساحة «تين ان مين» في العاصمة بكين، وكان ذلك إيذاناً بولادة جمهورية الصين، والعلم بشكله الحالي من تصميم الاقتصادي الصيني «زينغ ليانسونغ» (1977 – 1999)، من مدينة شنغهاي، وقد كان عضواً في منظمة الحزب الشيوعي الصيني في تلك المدينة.
عرفت الصين أعلاماً أخرى ذات خلفية حمراء ترمز إلى الثورة بجانب أمور أخرى، منها علم الجيش الشعبي الذي يستخدم النجمة الذهبية مع الحروف الصينية للدلالة على الأول من أغسطس تاريخ تأسيس جيش التحرير الشعبي، وعلم الحزب الشيوعي الصيني الذي استبدل كل النجوم بشعار الحزب، ونظراً للتنظيمات الحكومية لا يمكن للمدن والمحافظات استخدام علمها الخاص، والعلم الوحيد المستخدم هو علم هونغ كونغ ومكاو، وهما منطقتان اقتصاديتان خاصتان.
رموز العلم البريطاني
ظلت بريطانيا وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، كما ظلت أساطيلها الحربية والتجارية تجوب البحار طوال عشرات السنين رافعة العلم الذي يعود إلى عام 1801، أي عام اتحاد بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية.
ويتكون علم المملكة المتحدة من ثلاثة صلبان:
= الصليب الأول هو صليب أحمر خاص بالقديس جورج والذي يعرف في الشرق بـ «مار جرجس» أو «جاورجيوس»، ومعروف بمنظره التقليدي أي فارس يمتطي صهوة حصانه، وفي يده حربة يوجهها إلى فم التنين، ومعروف أنه شفيع إنجلترا بنوع خاص، وهذا الصليب يمثل علم إنجلترا بمفردها.
= الصليب الثاني الأحمر المحاط بإطار أبيض وهو يشكل صليب القديس باتريك، وهو قديس كاثوليكي بريطاني توفي في 17 مارس من عام 461، وقد تم أسره واستبعاده في جزيرة إيرلندا، حيث بقي فيها ست سنوات تقريباً قبل أن يفرّ، ودخل إحدى الكنائس المسيحية، وعاد لجزيرة إيرلندا مرة أخرى كَمُبشِر في غرب وشمال إيرلندا بالخصوص، وفي القرن الثامن الميلادي تم اعتباره القديس الراعي لأيرلندا.
= الصليب الثالث هو صليب قطري بشكل إشارة × والذي ينتمي إلى القديس أندرو شفيع اسكتلندا، وهذا الصليب وحده يشكل علم اسكتلندا، وهو القديس المعروف في الشرق باسم اندراوس، وهو الأخ الشقيق للقديس بطرس كبير حواري السيد المسيح، وتقول الروايات التاريخية، إنه قُتِلَ صلباً في مدينة باتراي في اليونان، وكان صليبه على شكل حرف × وبسببه أخذ هذا الشكل من الصلبان لاحقاً اسم صليب القديس أندرو.
ومعروف تاريخياً أنه في عام 1604 أصبح ملك اسكوتلندا جينف السادس ملكاً لبريطانيا، واستمرت الدولتان في اعتماد أعلامهما أعلاماً رسمية للبلدين، وأنه كان هناك صراع حول العلم الذي سيستخدم، لذلك كان من المهم توحيد العلم. وفي 12 أبريل من عام 1606 أصدر الملك جينف السادس تصريحاً يدمج فيه الصليبين الأحمر والأبيض معاً، وبذلك ظهر أول علم بريطاني موحد لبريطانيا العُظمى.
رموز العلَم الإماراتي
في مؤلفه المتميز «خليفة رحلة إلى المستقبل» يحدثنا الكاتب «غريم ويلسون» عن اللحظة التي رفع فيها الشيخ زايد علم الإمارات. كان ذلك في الثاني من ديسمبر عام 1971، أما تصميم ذلك العلم المجيد، فهو مستلهم من بيت للشاعر «صفي الدين الحلي» يقول فيه:
«بيض صنائعنا خضر مرابعنا
سود وقائعنا حمر مواضينا»
علم الإمارات يحكي رؤية وتوجهاً لزايد الخير، وأسسا ومرتكزات كفلت للإمارات انطلاقتها بأقدام ثابتة في العالم الواسع الممتد، حاملة معها سلاماً ونماء وازدهاراً، وحال ترجمنا ألوان العلم الإماراتي نجد الأبيض يرمز للسلام والصدق، والأخضر للأمن والفرح والحب، فيما الأسود يشير إلى قوة العقل والحكمة، والأحمر إلى البسالة والقوة والشجاعة.
أما حال أردنا ترجمة بيت الشعر الذي تم استلهام ألوان العلم الإماراتي منه، فإنه يمكننا تفكيكه كالتالي:
الصنائع هي الأعمال التي تميل للبِر والمعروف والخير ويرمز لها باللون الأبيض، وغني عن القولِ إن الإمارات كانت ولا تزال صاحبة أيادٍ بيضاء على القاصي والداني، كيف لا وأجمل وأبلغ وصف يصاحب المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، هو: «زايد الخير»، في دلالة - لا تخطئها العين - لما قدمت يداه، وأبناؤه البررة من بعده من أعمال الرحمة والخير والإحسان للغريب والقريب.
أما الوقائع فهي المعارك والحروب ويرمز لها باللون الأسود، والمعروف أن الإمارات ومنذ نشأة الاتحاد دولة تطلب السلم لها ولمن حولها، ولا تسعى إلى الخصام أو الصدام، غير أنها وعندما يَجِد الجَد تَجِد أبناءها وبناتها على حد سواء أسوداً في ساحة الوغى، كما قال الشاعر العربي قديماً، وليس أصدق أو أدل على موثوقية ما نقول به مما يجري في اليمن، حيث القوات المسلحة الإماراتية تساند وتناصر بكل قوة الشرعية هناك في مواجهة الميليشيات المنشقة.
فيما المرابع فهي الأراضي الواسعة المعطاء ويرمز لها باللون الأخضر، وقد عرفت الإمارات بأنها أرض الخير والفرص، وأطلق عليها لقب «رواق الأمم» بمعنى أنه يمكن للمرء أن يجد فيها ما ينشده من الخير، فلم تغلق الباب أبداً في وجه الساعين إلى الحياة الأفضل، ومن هذا المنطلق كان من الطبيعي أن تكون الإمارات الدولة المفضلة رقم واحد حول العالم بالنسبة للشباب العربي من جهة، وللكثير من شعوب العالم الغربي من ناحية ثانية. في هذا السياق يمكن القطع بأن علم الإمارات هو قصة وطن وشعب، ولاء وانتماء، ورمز يتجسد كل صباح في عيون مواطني الدولة، يروي رؤية استشرافية كفلت تقدماً مطرداً واستقراراً راسخاً، وسمعة دولية عالمية، ونموذجاً يكاد يصل إلى الطرح الأميركي التقليدي المعروف بـ «مدينة فوق جيل».
أفضل ما قيل في العلم الإماراتي، إنه المتحدث الرسمي للإمارات من دون صوت، في جميع المحافل الداخلية منها والخارجية، يقول بصمت: في طياتي العزة، وعلى سطحي خط الرجال ماضي وحاضر هذه الأمة الغرّاء.
هل تنتهي إلى هنا قصة الأعلام والرايات من القديم إلى الحديث؟
بالقطع هناك المزيد والمزيد، بعمق العلاقة بين الشعوب وبين رموزها المضمنة في الرايات المرفوعة من حولها، إنها قصة الرمز الإنساني المرتفع فوق الساري، وقد صدق أحدهم حين قال:
«فوق الجبل صاري مرفوع عليه علم
مكتوب عليه من غير حبر ولا قلم
يا ابن آدم إن كنت عايز تتنعم
بالنعم لازم تذوق الأمل»